برعاية ولي العهد.. قمة عالمية تبحث مستجدات الذكاء الاصطناعي    50 مليار دولار فرص استثمارية بمطارات المملكة    دعم سعودي دائم للقضية الفلسطينية    681 مليون ريال انخفاض مبيعات النقد الأجنبي بالمصارف    إبادة بيئية    جامعة «مالايا» تمنح د. العيسى درجة الدكتوراة الفخرية في العلوم السياسية    تحسينات جديدة في WhatsApp    الذكاء الاصطناعي يتعلم الكذب والخداع    نسيا جثمان ابنهما في المطار    سيدات الأهلي يحصدن كأس الاتحاد لرفع الأثقال    طائرة الأخضر إلى نهائيات كأس آسيا    زرع العين بحجم خلية الدماغ يعالج العمى    إنقاذ ثلاثيني من إصابة نافذة بالبطن    مواد مسرطنة داخل السيارات    نائب أمير الرياض يرعى حفل تخرج طلبة كليات الشرق العربي    استقبل محافظ دومة الجندل.. أمير الجوف يشيد بجهود الأجهزة الأمنية والعسكرية    هنأت رؤساء روسيا وقرغيزيا وطاجيكستان.. القيادة تعزي ملك البحرين ورئيس الإمارات    رعى حفل الأهالي وتخريج الجامعيين.. أمير الرياض يدشن مشروعات في المجمعة    مركز الملك سلمان يواصل مساعداته الإنسانية    القوات المسلحة تشارك في«الأسد المتأهب» بالأردن    تحضيري القمة العربية يناقش خطة فلسطين للاستجابة الطارئة    أمير تبوك يطلع على إنجازات "التجارة"    انتخابات غرفة الرياض    أرتيتا يحلم بتتويج أرسنال بلقب الدوري الإنجليزي في الجولة الأخيرة    الهلال يوافق على انتقال بيريرا لكروزيرو    أرسنال يسقط اليونايتد ويستعيد الصدارة    بعض الدراسات المؤرشفة تستحق التطبيق    " الأحوال" المتنقلة تواصل خدماتها    محافظ جدة يدشن مبادرة " العمل والأسرة"    تدريب 18 ألف طالب وطالبة على الأمن والسلامة في الأحساء    «الأحوال المدنية المتنقلة» تقدم خدماتها في 48 موقعاً    كبسولة السعادة .. ذكرى ميلادي الرابعة والأربعون    تنمية المواهب في صناعة الأزياء محلياً    لؤلؤ فرسان .. ثراء الجزيرة وتراثها القديم    أمير نجران يكرّم المتميزين في «منافس»    تجمع مختص يناقش طرق اكتشاف اسم ومؤلف مخطوطات التفسير المجهولة    إنهاء إجراءات المستفيدين من مبادرة طريق مكة آليًا    مختبرات ذات تقنية عالية للتأكد من نظافة ونقاء ماء زمزم    جدة .. سحر المكان    تطوير 12 مشروعاً للعوالم الافتراضية    نائب أمير الشرقية يستقبل مدير فرع عقارات الدولة    روتين الانضباط وانقاذ الوقت    المراكز الصحية وخدماتها المميّزة    نقل اختصاص قطاع "السينما" لهيئة الأفلام    القتل حدًا لمواطن نحر زوجته بالشرقية    قلق من هيمنة الذكاء الاصطناعي على صناعة السينما    نيابة بمطار الملك خالد على مدار الساعة    إذاعة MBC FM تطفئ شمعة ميلادها الثلاثين رافعةً شعار «30 ومكملين»    نائب وزير الداخلية ونظيره البنغلاديشي يبحثان سبل تعزيز التعاون الأمني    نائب أمير مكة يناقش مستوى جاهزية المشاعر لاستقبال الحجاج    منتدى (كايسيد) للحوار العالمي يجمع النخب السياسية والدينية في منتدى جديد    أولويات الهلال يصعب كسرها.. أرقام تاريخية    الراجحي بطلاً لرالي تبوك    سمو أمير منطقة تبوك يترأس اجتماع لجنة الحج غداً    الأرصاد: استمرار التوقعات بهطول الأمطار على عدد من المناطق    الماء    طريق مكة    القيادة تعزي ملك البحرين في وفاة الشيخ عبدالله بن سلمان بن خالد آل خليفة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التراثية.. ذلك الداء العضال في اللغة والثقافة «3»
نشر في المدينة يوم 07 - 03 - 2012

وكما تصاب اللغة بداء الشِعْريّة فيئول بها وبسائر جوانب الثقافة إلى ضروب من شلل الفكر والسلوك كذلك تدبّ الشعرية المرضية إلى مفاصل المذهبية الدينية؛ فيتحول الفكر من الاجتهاد إلى التقليد، ومن العلم إلى الخرافة، ومن تقدير العلماء إلى تقديسهم. إن العمل الأول الذي تقوم به تراثية الثقافة هو المواجهة مع «العقل»، ذلك بأن العقل بجامع معانيه الإدراكية والمفكرة والناقدة هو القيمة العليا والمقصد الأسنى في أيّ ثقافة حية فعالة، حتى إذا تم لها زحزحته عن مكانته المقاصدية عن طريق الآبائية المذهبية سهل بعد ذلك اقتياد الثقافة بكل مافيها من أفراد وأفكار وسلوك إلى غياهب من العمى والجمود والعقم والذل الحضاري لا يُنزع عنها حتى تراجع الثقافة عقلها!.
يذكر الفقهاء أن كليات الدين الضرورية خمس: الدين والنفس والعقل والعرض والمال، ولا يجهل شادٍ بَلْهَ المثقفَ والعالم احتفاء الإسلام بمكانة العقل في الفكر والعلم والسلوك وفهم الحياة وإدارتها وتطويرها، فهذا كتاب الإسلام يزخر أمامنا بطرح موضوع التفكير والتعقل والتدبر والنظر والتفقه والاعتبار... إلخ على وجوه كثيرة وفي مناسبات متعددة (1) إلا أنه يُلحظ لدى بعض الفقهاء المتأخرين حينما يذكرون هذه الكليات ويشرحون أوجه الحفاظ عليها أنهم يتصورون حفظ العقل تصورا ناقصا؛ فالعقل يُحفظ لديهم ماديا بمنع ما يغيبه من مسكر ونحوه، ومعنويا بمنع التصورات الضارة والباطلة كالبدع ونحوها. ولاشك أن في هاتين الصورتين من المنع حفاظا للعقل، ولكنه إذا تأملنا أدنى الكمال في الحفاظ، فهو حفاظ يُبقي العقل جاهزًا لممارسة دوره المطلوب الذي هو الإدراك السليم، والنقد والحكم، والوظيفة الوازعة التي يَحْمِل بها العقل صاحبَه على ما يجب من فعل الصواب وتجنب الخطأ أو فعل الأحسن بدل الحسن، وهذا الدور أو هذه الأدوار هي ثمرة العقل المرجوة، وهي الحكمة من خلقه، فماذا عن العوائق التي تعترض سبيلها كالتقليد المذهبي وتقديس المشايخ والجدل العقيم؟ أليس العقل حقيقًا بحفاظه منها كما هو حقيق بالحفاظ من مُتلِفاته أو مغيّباته المادية، وكما هو حقيق بمنع عوائقه التصورية؟ مؤكد أن الجواب بلى، ولكنا لا نجد لدى الأصوليين عناية بهذا الأمر كما اعتنوا بأوجه الحفاظ على بقية الكليات الأربعة. ومما يؤكد ذلك أنهم أفردوا أبوابًا للتقليد والاجتهاد واختصموا حول قضايا من قبيل: هل يجوز التقليد؟ ومتى يكون؟ بل رأى بعضهم وجوب التقليد وإغلاق باب الاجتهاد!! ولم يفتحوا أبوابًا مماثلة للنقاش حول الكليات الأخرى، وهذه دلالة على بداية الخلل في علاقات المنظومة الدينية داخل شبكة العلاقات الثقافية، وهو خلل كان العقل ضحيته الأولى!.
هنا بدأ المولد الروحي للتراثية وهو الآبائية بعمله المرضي؛ فأصبح الأشخاص يحتلون الدور المقاصدي للعقل في الثقافة، وهنا بدأ التحول من «الفقه والعقيدة» إلى «المذهبية» (الأيديولوجيا)، وفيصل التفرقة هنا بين الحالتين أن الفقه والعقيدة يحكمهما حاكم العقل الحر الذي لا سلطان عليه إلا سلطان قيم العقل نفسه؛ سواء أكان أساسيات العقل الإدراكي أم العقل الوازع أم العقل الناقد والحاكم، في حين أن المذهبية الأيديولوجية يحكمها ما يسميه بعض المفكرين ب «العقل المكوَّن» (بفتح الواو المشددة)؛ أي منظومة الأفكار والمبادئ السائدة في بيئة ثقافية ما، والتي تتحكم في تلقي المعرفة وإنتاجها. (2)
أصبح سهلا جدًا على بعض كبراء المذهبية الفقهية أن يصرحوا لطلابهم وأتباعهم في اطمئنان وثقة كاملة بقولهم: «الدين إنما هو بالتقليد» (3)! مع أن القرآن ينص صراحة على أن الدين بالاتباع لا التقليد (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم) الأعراف 3 ، وبقولهم إنه يُمنع على العقل السؤال حول قضايا العقيدة ب «لِمَ»؟ و»كيف»؟ (3)!! مع أن القرآن يصرح بسؤال الملائكة لله تعجبًا من جعل آدم خليفة في الأرض (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء...) البقرة 30، كما يصرح بسؤال إبراهيم الخليل ربه عن كيفية الخلق (أرني كيف تحيي الموتى) البقرة 260، وبقولهم: إن الراحة في تقليد العلماء «فقلدهم واسترح» (3)!!. لقد تعبت الثقافة وأنهكت من جراء الأدواء التي تتابعت على جسدها الذي تخلى عن العقل، وآن لها أن تستريح كما ينطق لسان حالها على لسان أحد أعضائها ! لكنه على أية حال تعَب الخمول والكسل لا تعب الاجتهاد والعمل! كما أصبح سهلا بل فرضا! على قادة المذهبية الصوفية أن يضعوا لمريديهم قواعد في التربية الفكرية والسلوكية من قبيل قولهم: «يجب على المريد ألا يتنفس إلا بإذن شيخه»!! (4) وقولهم: «اعمل بإشارة شيخك فإن خطأه أرقى من صوابك»!! (4) وقولهم: «قلّ أن يفلح من اقتصر على الفكر والتعقل بحضرة الشيخ خاصة»!! (4). إنها حالة مرضية يمتزج فيها التقليد بالحرفية بالاستبداد والاستعباد، قاد إليها الانقطاع عن العقل بوصفه قيمة مقصدية عليا في الثقافة، هُمّشت وحل محلها قيمة مرضية بديلة تنزل الأشخاص والأشكال والوسائل محل المقاصد فيختل توازن المنظومة الثقافية ويقود ذلك إلى ضروب من العقم والشلل والجمود، وضروب من المهزلة الفكرية تخرج الإنسان في دور مهرج في أحسن أحواله ودور بهيمة في أحطها!.
وحين يبلغ الفكر إلى هذا المستوى من العمى والجمود لا يكون عنه بمعزل أولئك المترسّمون بالعقل من أدعياء الفكر والفلسفة، والذين لا يخلو منهم عصر من العصور، فالتراثية تطالهم كما تطال المستنفِرين من العقل! فهم المتعاقلون بلا عقل! وكثير من أهل ما سُمّى في التراث «علم الكلام» هم خير مثال على هذه الفئة التي تتلبس طيلسان العقل على أسمال العمى والجمود، فهم قوم استبدلوا الجدل العقيم بالتفكير المثمر، وسلخوا أعمارهم وأفنوا عقولهم في بناء صروح من الوهم المعرفي لا يلبث الحادي خلفها أن يكتشف أنها سراب لا تغني من المعرفة شيئا، وأيّ وهم أكبر من وهم الجدلية التي أقاموها بين العقل والنقل وبنوا عليها ما سموه قانون التقديس كما فعل الرازي الذي دعوه «الإمام»؟! فهل العقل إلا آلية يُفهَم بها النقل؟ وهل النقل إلا موضوع يَنظر فيه العقل؟ فهل من العقل إقامة خصومة بين الأداة وموضوعها بحيث يقال: أيهما أولى بالتقديم؟!! أم أن الصواب طرح القضية هكذا: ما الطريقة المثلى لإعمال الآلية في الموضوع؟ وهل نحن أمام عقل حين يوصف الخالق سبحانه بأنه لا داخل العالم ولا خارجه! ولا فوقه ولا تحته؟! أم نحن هنا أمام خرافة أو محال؟! أو لعلنا أمام «تهريج عقلي» كما هو الأليق بهذا النوع من التفكير؟! إننا هنا بصدد «مذهبية عقلية فلسفية» تماثل المذهبيات اللغوية والفقهية والصوفية، تحل فيها أفكار الأشخاص (الآباء المذهبيين) محل القيم العقلية الفكرية الأصيلة، فتصبح هي العقل وهي المنطق وهي المقدس بل «أساس التقديس» كما عبر الرازي نفسه! وكلها يحكمها مرض التراثية المضمر الذي يحرك بتركيبته الثلاثية الخفية هذه الأوجه المقنعة المختلفة في الظاهر والمتفقة في الباطن!.
[email protected]
(1) أنظر مثلا: التفكير فريضة إسلامية للعقاد 7- 19.
(2) عن «العقل المكوَّن» أنظر: تكوين العقل العربي للجابري 15.
(3) شرح السنة للبربهاري، تحقيق الردادي 118، 63.
(4) على التوالي: لطائف الإشارات للقشيري 2/376، الأنوار القدسية في معرفة قواعد الصوفية للشعراني 234، 269، تذكرة السامع والمتكلم لابن جماعة 228.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.