بعض الأقوال حكم ودرر، وبعض المواقف دروس وعبر، وهذه مواقف فيها دروس تفضي إلى حكمة. الدروس هنا عن الوفاء، وعن المكافآة، وعن الاعتراف بالجميل، فلا نامت أعين الجاحدين للفضل، المنكرين للمعروف. ولعلّ أول المعلمين وأستاذ المربين وسيد الأولين والآخرين نبينا عليه السلام هو القدوة الأولى للعالمين، فهذا وفد النجاشي ملك الحبشة يقدم على النبي الأمين فقام يخدمهم بنفسه، فقيل له: يا رسول الله لو تركتنا كفيناك، فقال: كانوا لأصحابي مكرمين. هو الوفاء في ظاهره، ولكنه أكثر من ذلك بكثير في عمقه ومدلوله، فالنبي عليه السلام قد تملكته مشاعر عميقة راسخة تجاه المعروف الذي أسداه النجاشي، ليس لأصحابه فقط، وإنما للدعوة بأسرها، إذ حفظ حملة الدين وأحسن مثواهم ولقياهم، ولذا لم يجد إزاء هذا الفضل إلاّ أن يكون في المقدمة استقبالاً وإحسانًا وخدمة. ويُحكى أن رجلاً من الأنصار أتى إلى عمر بن الخطاب، فأنشد: أذكر صنيعي إذ فاجأك ذو سفه يوم السقيفة والصديق مشغول فقال عمر بأعلى صوته: أدن مني، فدنا منه، فأخذ بذراعه حتى استشرفه الناس وقال: (ألا إن هذا رد عني سفيهًا من قومه يوم السقيفة) ثم حمله على نجيب (أي جمل قوي فتي) وزاد في عطائه وولاّه صدقة قومه، وقرأ: (هل جزاء الإحسان إلاّ الإحسان). وأسر الحجاج قطري بن الفجاءة، ثم منّ عليه فأطلقه، فقيل له، لما لا تعود إلى قتال عدو الله، فقال: هيهات شدّ يدًا مطلقها، وأرقّ رقبة معتقها، ثم أنشد أأقاتل الحجاج عن سلطان بيد تقر بأنها مولاته؟! ماذا أقول إذا وقفت إزاءه في الصف واحتجت له فعلاته؟! أأقول: جار عليّ لا أني إذًا لأحق من جارت عليه ولاته؟! وتحدث الأقوام أن صنائعًا غُرست لدي، فحنظلت نخلاته الوفاء خلة طيبة وخصلة زكية.. هو فعل حميد وسلوك لا يجافيه إلاّ السفيه والأحمق وقصير النظر، إذ هجر الوفاء لا يعود على صاحبه إلاّ بسوء ولو بعد حين.