هل الثقافة في العالم العربي خيار إستراتيجي للبناء الروحي للمجتمع، أم مجرد رفاه عام يجب أن يكون حتى نقول أمام الغريب والقريب أو الأجنبي أن لدينا وزارة ثقافة وناساً مثقفين، حتى ولو كانت هذه الوزارة مشلولة كليًّا، ولا تُقدِّم شيئاً يحفظ القيم الروحية من خلال المنتَج الثقافي. للأسف، لا توجد رؤية ثقافية واضحة ومهمة يمكن استنساخها عربياً. أكثر وزارات الثقافة في العالم العربي، هي الأضعف في ميزانيات التسيير، مع أنها وزارات يُفترض أن يَنصبَّ جهدها على البناء الداخلي للمواطن. نفس الرؤية تحكم الثقافة من الأجهزة المشرفة والإدارات حتى الممارسة الثقافية بالمعنى الميداني. ضعف في المقترحات ولا أفق. الكثير من الندوات التي تُعقد هدفها في النهاية دعَائي لنقول أنها تمَّت، وربما أيضاً لتبرير المصاريف. ويبقى السؤال عن الأثر الذي يتركه المهرجان فينا أو الندوات التي تُعقد، والمؤتمر الذي كلف الكثير. لا توجد رؤية استراتيجية مستقبلية واستباقية تستهدف في النهاية الفعالية الحقيقية. ولا ملامسة نقدية تبنى على أساسها المشاريع بشكلٍ أكثر اكتمالاً وإيجابية. في النهاية، هناك عقلية عامة تضع الثقافة في آخر الاهتمامات. وكثيراً ما تكون الميزانيات الثقافية، كما ذكرت، في مؤخرة الترتيب. لا تتجاوز الصفر إلا في حالات استثنائية. السينما مثلاً التي تعتبر اليوم العصب الثقافي الأساسي، تُشكِّل رهاناً ثقافياً وحضارياً عالمياً كبيراً، لا اهتمام بها، بل كأنه جسد غريب على الوضع العربي العام . الحد الأدنى غير متوفر. لا توجد صناعة سينمائية بالمعنى الحرفي للكلمة، توجد خدمات تُقدَّم للشركات العالمية التي تريد أن تنجز شيئاً طارئاً في مكانٍ بعينه، تفضل تشغيل أهل البلد بدل أن تنقل وراءها فريقاً تقنياً بكامله يكلفها كثيراً. ولكن السينما كصناعة غير متوفرة لخلق شركات إنتاج مستقلة، فهذا غير معنيين به اليوم عربياً. مع أن التجربة المصرية في الستينيات يمكنها أن تعطينا درساً مفيداً وتصلح كمسار، إذ يمكن للمستثمرين أن يذهبوا في هذا بعيداً، ويربحوا مالاً وفيراً. حتى فكرة الإنتاج المشترك بين الدول العربية العربية أو العربية الأوروبية، كان مفيداً جداً، وتمكَّن من إنتاج أفلام عالمية في السبعينيات، انتفى اليوم نهائياً. مثلاً فيلم العصفور بين الجزائر ومصر. وفيلم زاد Z لغوستا غافراس، إنتاج مشترك بين الجزائر وفرنسا. ثلاثة أفلام فقط وصلت إلى مرتبة العالمية، وسوّقت للإسلام المتسامح وللتاريخ العربي الحديث: الرسالة وعمر المختار لمصطفى العقاد، ووقائع سنوات الجمر للخضر حامينا الذي ما يزال إلى اليوم هو الفيلم العربي اليتيم الذي فاز بالسعفة الذهبية في مهرجان «كان» السنيمائي الدولي، مثل نجيب محفوظ الذي فاز بنوبل وأغلق من ورائه الباب نهائياً. يمكن أن نجد الشمَّاعة الصهيونية كمبررات لفشلنا الثقافي وإخفاقنا. نعم، الدوائر الصهيونية تسيطر اليوم على الحقول الثقافية الإستراتيجية. وهذا حقها في استراتيجية الإعلام، إذ أدركت في وقتٍ مبكر جدواها، وهو ما لم نفعله كعرب، ولم نستفد لا من أصدقائنا، ولا من أعدائنا. المشكلة فينا. ماذا فعلنا نحن. حتى وزراؤنا للثقافة، لا يحضر أكثرهم التظاهرات الثقافية التي أشرفت أجهزتهم الإدارية على تنظيمها، إلا للتصوير التليفزيوني في الافتتاح، كأنهم غير معنيين بمجريات التظاهرة الثقافية. لبناء هذه الإستراتيجية عربيا، ما هو الإنتاج العظيم الذي يقدمه العرب مشفوعاً بدعاية عالمية لوضعه في مدارات الشهرة؟. لا شيء. وبالتالي كل المطالب التي تبنى على عداوة الآخر لنا، وننسى تماماً عداوتنا لأنفسنا التي أصبحت جافة داخلياً. ما هي استثماراتنا عربياً في المجال الثقافي؟ هذا السؤال الكبير. وننتظر أن تتحسن صورتنا أمام الآخر؟ كيف؟ في وقت أن الآخر يستعمل ترسانته الإعلامية والثقافية لتثبيت صورة العربي والمسلم الإرهابي!. هل الأموال العربية الثقيلة وصلت إلى الحقل الثقافي وحللت فوائده استراتيجياً؟. مَن رَجلُ المال العربي الذي استثمر في الثقافة بعمق وجعل منها رهانه القريب والبعيد؟ لا يوجد للأسف، لأن المستثمر العربي لا يحب المغامرة والانتظار. يريد الربح السريع، وعدم الخسارة. أن تدخل الثقافة، معناه أن تراهن على شيء أكبر: الإنسان. وهذا لا يتضارب مع الربح. ما دامت الثقافة لم تتحوَّل إلى فاعلية عربية حقيقية وعميقة متوغلة في الوجدان، ستظل رفاهاً لا قيمة مرجوة من ورائه، وسيستمر التصحُّر الذي بدأ منذ قرابة نصف القرن، وربما أكثر، وليست الخديعات الثقافية المضللة، هي مَن يوقفه في غياب أية إستراتيجية ثقافية مستقبلية تضع العالم العربي في أفق العصر الرقمي القادم بجبروته وخبراته وعنفه أيضاً.