كان يوصيني شيخي حمد الجاسر - رحمه الله - قبل وفاته أن أقرأ كتاب (تهذيب اللغة) للأزهري وهو مؤلف ضخم يتألف من 17 جزءاً من القطع الكبير، ولم أكن مقتنعاً بأن أجد في هذا المؤلف ما يخدم بحثي لصحراء (الصمان) حيث إن كتاب الأزهري يعد من قواميس اللغة. وبعد وفاة الشيخ أحسست أن طلبه لي بقراءة كتاب الأزهري أصبح كالوصية، وقمت بقراءة الكتاب، وبعد قراءته وجدت فيه ما لم أكن أتوقعه من مفردات الكلام التي ننطق بها وقبل كنت أحسبها من الألفاظ العامية التي لا تستند إلى أصل، وقد شمل كتاب (تهذيب اللغة) على الكلمات الاجتماعية ومسميات الأرض، والنبات، والحيوانات، واستشهد بأسماء مواقع جغرافية كثيرة (بالصمان) وعندما تطابق الكلمة التي يشرح عنها موقع (بالصمان) يقوم بذكر اسم المكان وقد يشرح عنه كقوله: (ورأَيت بالصَّمَّان روضة واسعة يقال لها الطَّوِيلة، وكان عَرْضُها قدرَ ميلٍ في طُول ثلاثة أَميال، وفيها مَساكٌ لماء السماء إِذا امتلأَ شَرِبوا منه الشهرَ والشهرين).كلام الأزهري كالخارطة واضح، و بحكم معرفتي بمعالم هذه الصحراء أستطعت أن أحدد موقع هذه الروضة التي فقدت اسمها القديم وهي تسمى الآن ب(روضة أم السروج) وأسفل من الروضة غدير ماء يمكث به السيل أكثر من الشهر وأهل البادية يستقون منه فلا ينضب يسمى (كسر أم السروج). وروضة أم السروج (الطويلة) كما وصف الأزهري فمسماها على شكلها فهي طويلة في عرض ضيق ووصفه هذا لم يتحلى به من تخصص في كتب جغرافيا علم البلدان السالفين.ويقول الدكتور عبدالرحمن السنيدي في مقالة له في جريدة الوطن عدد 216 عن الأزهري وكتابه (تهذيب اللغة): (يواجه الباحث فيما بين القرن الثاني والعاشر الهجري مسألة شح المصادر والموارد التاريخية عن تلك المناطق) - يقصد بوادي نجد - ثم تكلم الدكتور باختصار عن أسر الأزهري من قبل القرامطة، ولم تذكر لنا المصادر كيف ارتبط مع هذه القبيلة العربية التي كانت تجوب الصمان وربما تكون أحد قبائل بنو تميم التي تسكن الصمان آنذاك. والسؤال بأي صفة سار معهم هل هو أسير أو مملوك، ولابد أنه كان مع تلك القبيلة في منزلة كريمة وإلا ما استطاع أن يؤلف هذا الكتاب الضخم بتلك الجودة، وكيف حصل على الأوراق والأحبار وكيف حملها! وقال الدكتور عبدالرحمن حول ذلك: وإقامة الأزهري في البادية كانت من قبيل الإكراه والاضطرار حيث أسر أيام القرامطة ومن ثم كان ذلك سبباً لأن يرتاد مواضع وأماكن من نجد. ولعل العرب الذين وقع في سهمهم وملكوا أمره بعد ذلك أحسنوا معاملته ووثقوا به. نسبه يلقب بالأزهري نسبة إلى جده ويكنى بأبي منصور: محمد بن أحمد بن الأزهر بن طلحة بن نوح بن أزهر، الأزهري الهروي، والهروي: نسبة إلى هراة وهي إحدى مدن خراسان الآن (أفغانستان) فتحها الأحنف بن قيس صلحاً من قبل عبدالله بن عامر. وبيت الأزهر ينسب إليه علماء كثيرون نسبة إلى الجامع الأزهر بالقاهرة حيث كان مقصداً لطلاب العلم من أمصار العالم الإسلامي. ومن الكتب التي ألفها الأزهري: كتاب (معرفة الصبح) وكتاب (التقريب في التفسير) وكتاب (شرح الأسماء الحسنى) و(الانتصار للشافعي) و(تفسير السبع الطوال) و(الرد على الليث) و(وتفسير ديوان أبي تمام) وكتاب (الأدوات) و(كتاب تفسير إصلاح المنطق) وكتاب (التقريب في التفسير) وكتاب (تفسير ألفاظ كتاب المزني) وكتاب (علل القراءات) وكتاب (الروح) وغيرها من المؤلفات في الحديث والسنة. وجاء في كتاب (وفيات الأعيان): (وكان قد رحل وطاف في أرض العرب في طلب اللغة؛ وحكى بعض الأفاضل أنه رأى بخطه قال: امتحنت بالأسر سنة عارضت القرامطة الحاج بالهبير، وكان القوم الذين وقعت في سهمهم عرباً نشأوا في البادية يتتبعون مساقط الغيث أيام النجع ، ويرجون إلى أعداد المياه في محاضرهم زمان القيظ، ويرعون النعم ويعيشون بألبانها، ويتكلمون بطباعهم ولا يكاد يوجد في منطقهم لحن أو خطأ فاحش، فبقيت في أسرهم دهراً طويلاً، وكنا نشتي بالدهناء ونرتبع بالصمان ونقيظ بالستارين، واستفدت من محاورتهم ومخاطبة بعضهم بعضاً ألفاظاً جمة ونوادر كثيرة أوقعت أكثرها في كتابي - يعني التهذيب - وستراها في مواضعها، وذكر في تضاعيف كلامه أنه أقام بالصمان شتوتين . وكان أبو منصور المذكور جامعاً لشتات اللغة مطلعاً على أسرارها ودقائقها، وصنف في اللغة كتاب التهذيب وهو من الكتب المختارة يكون أكثر من عشر مجلدات، وله تصنيف في غريب الألفاظ التي تستعملها الفقهاء في مجلد واحد، وهو عمدة الفقهاء في تفسير ما يشكل عليهم من اللغة المتعلقة بالفقه، وكتاب التفسير. ورأى ببغداد أبا إسحاق الزجاج وأبا بكر بن الأنباري، ولم ينقل أنه أخذ عنهما شيئاً. والأزهري: بفتح الهمزة وسكون الزاي وفتح الهاء وبعدها راء، هذه النسبة إلى جده أزهر المذكور. والقرامطة: (نسبتهم إلى رجل من سواد الكوفة يقال له قرمط، وكانوا قد ظهروا في سنة إحدى وثمانين ومائتين في خلافة المعتضد بالله). ومما جاء في كتاب (تهذيب اللغة): (وإنما سميت هجر بالبحرين ببحيرة بها عند الأحساء، وبالبحر الملح، والنسبة إلى البحرين بحراني). (وسميت هجر بهجر بنت المكنف، وهي التي بنتها). ومما ذكره الأزهري في (تهذيب اللغة) عن الصمان ووصفه لدحالها ورياضها وقلاتها وطبيعة أرضها وقال عنها أن الصمان هي (صمان الوجم) قال: (قال: الوَجَمُ الصَّمّانُ نفسه، ويُجمع أوجاماً. قال رؤبة: كَأَنّ أوجاماً وصَخْراً صَاخِراً). ثم ذكر اخاشب الصمان أي جبالها فقال: (والأخاشبُ: جبال الصَّمَّان، ليس قربها جبال، ولا آكام). ويصف قيعان وسلقان الصمان ويقول عنها إنها مريئة والمريء هو الهنيء من الطعام ضد الوخيم قال: (وقد رأيت قيعان الصمان وأقمت بها شتوتين الواحد منها قاع وهي أرض صُلبة القفاف، حُرّة طين القيعان، تُمسك الماء وتُنبت العُشْبَ. وربّ قاع منها يكون ميلا في ميل وأقّل من ذلك وأكثر في رؤس القفاف، غليظة، ينصب مياهها في القيعان، ومن قيعانها ماينبت الضالَ فترى فيها حَرَجات منها، ومنها مالا يُنبت، وهي أرض مريئة إذا أعشبت رَّبعت العربَ أجمع). ومن قوله في مرابع البادية: (وكانت العرب تقول: من تَرَبَّع الحَزْن وتشتى الصَّمَّان وتقَّيظ الشَّرف فقد أخْصب)، وعن النبات قال عن الجرجير البري (النهق) وما يسميه العامة الآن الجهق قال: (النَّهْقُ - جَزْمٌ - نبات يشبه الجِرْجير من أحرار البقول، يؤكل. قلت سماعى من العرب النَّهَقُ بحركة الهاء للجرجير البري، رأيته في رياض الصَّمَّان، وكنا نأكله بالتمر لأن في طعمه حمزة وحرارة، وهو الجرجير بعينه إلا أنه بريٌّ يلذع اللسان). وعن قلات الصمان ودحالها يقول: (ورأيت بذروة الصَّمَّان قلاتاً تمسك ماء السحاب في صفاة خلقها الله فيها، تسميها العرب (الخلائق)، الواحدة خَلِيقةٌ - ورأيت بالخْلْصاء - من جبال الدَّهْناء - دُحْلاناً خلقها الله في بطون الأرض، أفواهها ضيقة، فإذا دخلها الداخل وجدها تضيق مرة وتتسع أخرى، ثُمَّ يُفْضى الممر فيها إلى قرار للماء واسع لا يُوقف على أقصاه، والعرب إذا تربَّعوا الدهناء ولم يقع ربيع بالأرض يملأ الغُدران - استقوا لخيلهم وشفاههم من هذه الدُّحْلان). ويقول أيضاً عن القلات: (وقلات الصَّمَّان نقر في رؤوس قفافها يملؤها ماء السماء في الشتاء. وقد وردتها مرة وهي مفعمة فوجدت القلت منها يأخذ ملء مائة رواية وأقل وأكبر؛ وهي حفر خلقها الله في الصخور الصم). ويصف الصمان ورياضه قائلاً: (رياض الصَّمَّان والحزن في البادية: قيعان سُلقان واسعة مطمئنة بين ظهرانيْ قفاف وجلدٍ من الأرض يسيل فيها ماء سيولها فيستريض فيها، فتنبت ضروباً من العشب والبقول، ولا يسرع إليها الهيج والذُّبول وإذا أعشبت تلك الرياض وتتابع عليها السُّمِيُّ رتعت العرب ونعمها جمعاء. وإذا كانت الرياض في أعالي البراق والقفاف فهي السُّلْقان، واحدها سَلَق. وإذا كانت في الوطاءات فهي رياض، وفي بعض تلك الرياض حرجات من السِّدْر البرِّيّ، وربما كانت الروضة واسعةً يكون تقديرها ميلا في ميل، فإذا عرضت جدًّا فهي قيعان وقيعة، واحدها قاع. كلُّ ما يجتمع في اخاذ والمساكات والتَّناهي فهي روضة عند العرب). ويقول في الصمان أيضاً: (وقفاف الصمان على هذه الصفة وهي بلاد عريضة واسعة فيها رياض وقيعان وسلقان كثيرة وإذا أخصبت ربعت العرب جميعاً بكثرة مرابعها، وهي من حزون نجد). ويصف الصمان ويحدد موقعها بقوله: (وقد شتوت الصَّمانَ ورياضها شتوتين، وهي أرض فيها غلظ وارتفاع، قيعان واسعة وخَبَاري تنبت السِّدر عذية، ورياض مُعشبة، وإذا أخصبت الصَّمان رتعت العرب جمعاء. وكانت الصَّمانُ في قديم الدهر لبني حنظلة، والحزن لبني يربوع والدِّهناءُ لجماعاتهم. والصَّمان مُتاخم للدَّهْناء). ومن الألفاض التي لايزال بعض من أهل نجد ينطقون بها واتت في كتاب (تهذيب اللغة): كلمة القزع: (القزع: هو أن يحلق رأس الصبي ويترك منه مواضع فيها الشعر متفرقة. يقال: قزع رأسه تقزيعًا إذا حلق شعره، وبقيت منه بقايا في نواحي رأسه). وعن الضب أورد هذه الرواية: قال الليث: الحِسْلُ: ولدُ الضَّبِّ، ويُكْنى الضَّبُّ أبا حِسْل. وقال أبو الدُّقْيش: تقول العرب للضَّبّ: إنه قاضي الدَّوابِّ والطَّيْرِ. قال الأزهري: ومما يحقق قولهُ ما حددَّثناه المُنْذِريّ عن عثمان بن سعيد عن نُعيم بن حَمَّاددٍ عن مروان بن معاوية عن الحسن بن عمرو عن عامر الشعبي. قال: سمعت النعمان بن بشير على المنبر يقول: يا أيها الناس، إني ماوجدت لي ولكم مَثَلاً إلا الضَّبُع والثعلب، أتيا الضّبّ في جُحره. فقال: أبا حِسْل. قال: أُجِبْتما. قالا: جِئْناك نَحْتِكم. قال: في بيته يُؤتى الحَكَمُ، في حديث فيه طول. وقال الليث: جَمْعُ الحِسْل حِسَلة، قلت: ويُجْمَعُ حُسُولاً. وروى أبو عُبَيدد عن أبي زيد والأححمر أنَّهما قالا: يقال لفَرْخ الضَّبِّ ححين يخرج من بيضه حِسْل، فإذا كبِر فهو غَيْداقٌ). ولد في مدينة (هراة) بخرسان سنة اثنتين وثمانين ومائتين وتوفي فيها سنة سبعين وثلاثمائة في ربيع الآخر, وله ثمان وثمانون سنة - رحمه الله -.
