* عاشت الرياض العاصمة خلال ثلاثة أسابيع مضت؛ حالة من التوهج غير مسبوقة في تاريخها، فقد شهدت مهرجان (الجنادرية21)، مصحوباً بزخم تراثي ثقافي حواري مرتفع، وشهدت كذلك معرض الكتاب الدولي، وما صاحبه من حوارات ونقاشات فكرية وثقافية غير مسبوقة هي الأخرى. * في هذه الأثناء؛ وبين هذين الحدثين الثقافيين البارزين، شهدت الرياض العاصمة، غزوة (أمنية وطنية) مضادة لمشروع الإرهاب القاعدي، نتج عنها قصم ظهر القاعدة في (أرض الحرمين)، على مرحلتين في يومين متتاليين. الأولى كانت في إجهاض العدوان الغادر على مصفاة بقيق البترولية، والثانية جاءت في ملاحقة الإرهابيين الفجرة، والقضاء عليهم سريعاً في وكرهم؛ في حي اليرموك بشرقي الرياض. * وفيما كان دوي الرصاص؛ يتردد في مدينة بقيق، وفي حي اليرموك. كان هناك دوي آخر يتردد صداه في حياض (الفكر والثقافة والأدب)..! فقد كان لمشروع (الشغب والتنكيف واللغوصة)؛ حضور صاخب في أجنحة معرض الكتاب، وفي صالات الندوات الثقافية والحوارية؛ على هامش المعرض الدولي الأكثر جدلاً إلى حين. * إلى جانب أصوات نارية قاتلة؛ كانت وما زالت - مع الأسف - تستهدف قيادة هذه البلاد وشعبها ومقدراتها ورجال أمنها؛ كانت هناك أصوات أخرى لا تقل خطراً عن سابقتها؛ فهي ظلت تسمترئ الضجيج والصراخ منذ زمن طويل في المنتديات الحوارية، والساحات الفكرية، وقد أثبتت على مدى عمرها الذي جاوز ربع قرن، أنها لا تجيد بحرفية بالغة، ومهنية فائقة؛ إلا شيئاً واحداً؛ هو اللغوصة على كل بادرة إصلاحية تنويرية، بهدف إفشالها ووأدها في مهدها، وأنها لا تعرف أو لا تريد أن تعرف على وجه التحديد؛ أن واجبها الديني والوطني في هذا الظرف بالذات؛ يحتم عليها وقبل أي شيء آخر؛ التنديد بالإرهاب، والتنكير عليه وعلى أقطابه وأذنابه، وفي مقدمتهم زعيمهم الشرير (ابن لادن)، لكن..وآه من لكن هذه..لم نسمع منها في ردهات الحوارات في معرض الكتاب وندواته؛ إلا التنكير والتكبير؛ ضد كل من يستخدم التفكير؛ لمحاربة فكر التكفير والتفجير، الذي استشرى؛ حتى أصبح ظاهرة لا يخلو منها خطاب ديني، أو منبر ثقافي، أو مؤسسة تربوية أو علمية. * لعل من أهم دواعي التداعي على الأقلام التنويرية والإصلاحية اليوم بشكل عام؛ وليس فقط ما وقع في معرض الكتاب؛ هو موقفها الأخلاقي الصلب؛ من حادث (11سبتمبر)، وما أعقبه من تداعيات محلية أمنية خطيرة؛ ومحاولتها تخطي ما كان يراه البعض خطوطاً حمراء؛ لا يجوز تجاوزها، في نقد الخطاب الديني، والمقررات الدراسية، ومسار العمل الخيري وجمعياته؛ والدعوة إلى تفكيك بنى التطرف والتشدد في كافة المؤسسات الاجتماعية والثقافية..وهي في مجملها؛ معالجات كشفت بكل نجاح واقتدار؛ عن حجم المشكل الإرهابي؛ ومدى خطره على الدولة والمجتمع، وكشفت كذلك؛ أن العمليات التفجيرية التي وقعت في أكثر من مدينة في المملكة؛ ما هي إلا نتيجة لا سبباً، ووسيلة لا غاية، وصورة مقربة من صور المشكل الكبير، الذي يحتاج إلى حلول عاجلة وحاسمة وجريئة؛ تدعم الحل الأمني الناجح؛ غير الكافي بطبيعة الحال. * كان بوسع كافة المنتدين في ندوة (الرقابة الإعلامية ومتغيرات العصر)؛ على كافة مستوياتهم وتوجهاتهم؛ التفكير بصوت حضاري غير صاخب. هذا لو صفت النوايا، وخلت الأذهان من الهوى والغرض. ولكن حضر التعصب، وغاب التسامح، وساد العمى الفكري، وظهرت الأحكام المسبقة، وسيطرت ذهنية الثأر والانتقام والكراهية، على حساب عقلية الفهم والاتزان. * هناك أكثر من لافت في حادث التطاول على وزيري ثقافة وإعلام؛ وزير أسبق هو معالي الدكتور العالم الشهير (محمد عبده يماني)، وحالي هو معالي الأستاذ (إياد أمين مدني)، مهندس التطوير الثقافي في البلاد، وتوجيه إساءات متعمدة، وبذاءات متقصدة؛ لمفكر عربي ضيف هو الدكتور (محمد الرميحي)، ورئيس جمعية إعلاميي الخليج والمملكة الأستاذ القدير (تركي السديري)، فما وقع حقيقة من (مناديب) في (سرية معرض الكتاب)؛ لا يقتصر أذاه على ضيوف الندوة ومعرض الكتاب فحسب؛ ولكنه يشكل موقفاً عدائياً واضحاً ضد الدولة والمجتمع السعودي؛ الذي عانى كثيراً من عقلية الانغلاق وفرض الرأي الواحد، ويتطلع إلى المزيد من الانفتاح والإصلاح ثقافياً واجتماعياً. * ولافت آخر يتعلق ب(مناديب السرية) المغيرة على الحياض الثقافي، والمنتهكة لآداب ومبادئ الحوار، فلا أحد من عناصر السرية - حسب علمي - له إسهام مشهود معروف في الفكر والثقافة والأدب؛ حتى يقال إن فلاناً الروائي أو القاص والشاعر والمفكر؛ جاء ليحاور ويناظر قامات وهامات؛ من أمثال الدكتور اليماني والدكتور الرميحي، أو عبده خال والحازمي وناهد باشطح والراشد وغيرهم، من أصحاب المشاريع الثقافية والإبداعية المشهورة داخل الوطن وخارجه. كل الذي نعرفه؛ أن الذين يتوزعون هذه الأدوار في سرايا توجه للإغارة؛ على منتدى أدبي، أو معرض كتاب، أو محفل للثقافة والمسرح والفن منذ ربع قرن حتى اليوم؛ ليس لها في الأدب، ولا في الفكر، ولا في الإبداع؛ ما يبرر وجودها في ميدانه، أو يعزز حضورها في مشهده، وهي بالتالي ليس لديها ما تقوله في هذه المحافل؛ لها فرسانها؛ فلماذا إذن؛ تحشر نفسها في هذا المعترك، وترفع صوتها، بما هو غير مقبول، وتستخدم الدين بمناسبة وبدون مناسبة؛ لتحقير هذا وذاك، والطعن في عقائد الخصوم وفي أعراضهم، واللجوء إلى أساليب فيها تجريحات شخصية، وسباب وشتائم، ربما نسمعها في الشارع بين صبية من الأشقياء؛ لكن لا تليق بكبار السن؛ عوضاً عن المثقفين منهم؛ وفي محفل للثقافة والفكر..! * ومما رأينا ولاحظنا؛ أن بعض من أسهم مع (مناديب سرية معرض الكتاب)، قد تملص لاحقاً من دوره، وقال إنه كان خارج الرياض..!! يا سلام.. فهذه واحدة من دلائل التوريط الذي وقع فيه بعض الشباب الغر، فليت هؤلاء الشباب من (المناديب) في العادة لمثل هذه المهام؛ يدركون خطورة الأدوار المسرحية التي ينفذونها، ويفهمون مغزى اللعبة التي دخلوها في معرض الكتاب؛ فلا يتورطوا في مثلها في المستقبل. ثم يدركوا جيداً، أن الزمن غير الزمن الذي يعيش فيه شيوخهم، وأن عصر الوصاية على المجتمع؛ قد ولى دون رجعة، وأن مصادرة أفكار الغير باتت مستحيلة، وأن عمليات اختطاف المنابر الثقافية والفكرية التي مارستها سرايا الأمس، لن تتكرر اليوم، حتى لو أرادت الظهور في المرايا لا غير..!! وأن الأصوات العالية في المحافل والمنتديات؛ لا تخيف إلا أصحابها في النهاية، وأن تحقير الخصوم ووصفهم بما لا يليق، لن يضيف شيئاً جيداً في أسهم هؤلاء، بل هو ضعف، ونذير أفول يقترب من حياضهم وحصونهم التي ظنوها منيعة، فإذا هي أوهى من بيوت العنكبوت..! فليس أمامهم - إن أرادوا - إلا الدخول في التاريخ الحديث لا القديم، والانخراط في مسيرة الإصلاح الشامل، واحترام الغير، ومقارعة الحجة بالحجة في تسامح ووئام، والعمل من أجل تمتين لحمة الوطن وإصلاحه ونمائه وتطويره؛ وتنزيه الدين الحنيف؛ عن كل هوى في النفوس.