ما إن يشارف الانسان على قارعة الأربعين، حتى تتبدى له معان جديدة، كانت بالأمس في غياهب الظلام واللاوعي وانتفاء الحضور.. تلك الشعرة البيضاء الضالة في معترك ليل الرأس الأسود بدأت تتغنى بتلك المعاني الثقيلة الباحثة عن سر الحياة والوجود، والاشتعال الطموح، والانكفاء المتأمل لما نواجهه في هذه الحياة، وتحوّل ذلك النزق، وتلك الصبوة، والجسارة والفتنة بالحياة الى حالة مكاشفة، وتأمل، واعتراف بحقيقة الانسان، المسيّر الذي لا يستطيع ان يغير من مجريات الأمور سوى ما أراده الله سبحانه وتعالى له.. وأضحى كل منجز حققه وأفنى فيه عمره ظلالا من الخيال، والسراب الذي لا طائل من مطاردته ولا يستحق ذلك الجهد الجهيد الذي أغرقه وأتعبه. وتحوّل حب الحياة، والاقبال على مباهجها، ومطاراتها، وحدائقها وأصحابها، ومقاعد الدراسة، والعمل بها، وعواطفها، وأشجانها وثرائها.. تحول كل ذلكم الى سؤال ثم ماذا؟! ثم ماذا؟! يتساءل كيف أضحى ذلك العزم والجزم في مدافعة الحياة الى تصالح وقبول بالواقع.. أي واقع!! ياالله تلك الشعرة البيضاء لن تتوقف أمام سواد ليل الرأس بل ستحوله الى بياض. يقال إنه وقار.. وضياء بغيض الى النفس ذلك انه يغتال الآمال المفتوحة، والطموحات المتأججة، والوعود المضروبة.. سوف يستفحل في الرأس بياضا، ويخلف في النفس ما هو رمادي ومسود.. أهي أزمة نصف العمر، ماذا فعلت؟ وكيف ومتى؟ وماذا بقي؟ وهل يستحق ذلك كله البعد عن الحبيب أيا كان؟ ولو لفترة ذلك الاتقاد، والاضطرام الروحي والجسدي؟ ويستحق احالة النضارة الشبابية الى بهوت الواقع.. صراع بين اليوم والأمس «كيف ذاك الحب أمسى خبراً وحديثا من أحاديث الجوى». يقول الدكتور محمد العوين في جريدة المدينة ملحق الأربعاء في تياراته الفلسفية الجميلة وهو ما آثار شجني حول الشعرة البيضاء ضالة على مشارف الأربعين، تأملات حائرة قلقة في معنى الوجود والعدم يقول العوين«كان الأمس ما قبل الأربعين مولعاً بتغيب هذه الروح في أتون اللحظة السرمدية الأبدية المتوقدة التي لا تريد ان تعلم كيف يكون كنه ذلك الغد ولونه، وطعمه، واحتراقه، وعذاب الفكر والوعي به! كان الأمس بهياً وجميلا لأنه لم يكن واعيا وبصيراً بما سيكون عليه ليل الأربعين، وضياء الأربعين وبياض ما بعد الأربعين». انتهى. إذن الوعي والبصيرة يجعلان القلب والعقل في دوامة البياض وتبدأ الشعرة البيضاء الأولى تختال بين سواد ينهمر أمام جبروتها مسودا. أجل يا محمد أظنها فلسفة الحياة والوجود، فالعقل رباط يوثق كل مندفع مع هذه الحياة ألم يقل المتنبي:«ذو العقل يشقى في النعيم بعقله» ألم نكن في يوم ما كما قلت كالزهرة الفواحة الشذى، العبقة، بالأريج النابضة بالمعنى، التواقة الى بث الحياة في الحياة الغامضة المغلقة التائهة..؟ ألا تعلم يا محمد كيف تبدأ الأقمار ثم كيف تصير ثم كيف تغدو..؟ كم مررنا بأشواق مبعثرة هنالك في الحارة،؟ وفي الجامعة وبين أصدقاء ومعارف وأحباب وأقرباء،؟ وضجيج الطفولة و«شقاوة» المراهقة، وعزيمة الشباب، من نذكر من ذلك كله ومن ننسي..؟ كم مررنا بساعات حلوة بين ردهات الفنادق وعلى ضفاف الأنهار ويستمر شقاؤنا في لقاءاتنا الصاخبة في الطرق السريعة وفي كافيتريا الجامعة شقاء مع اثبات الوجود وعمق الفكر والاستبداد بالرأي في بعض الأحايين، ترى هل تذكر دمشق والقاهرة ولندن أياما لنا سلفت قبل اشتعال تلك الشعرة البيضاء عندما كان الكهول يرمقونا بعين الاغتباط والتأمل والتفكر. لقد كانت وفاة والدتك رحمها الله وتغمدها بواسع رحمته ووالدتي كذلك هاجسا أجج فيك مضاجع الأربعين كما أنا وشعرتك البيضاء قد حاكتها شعيرات بيضاء أخرى في رأس أخيك، ألست القائل «أرواح طويت.. وانطوى بصمتها الأبدي أنس وحديث وهمهمة وبوح واندفاق وانعتاق، أرواح طويت وكانت بيننا ضجيجا وحياة، وغدت أجداثاً وبقايا ذاكرة محشورة في مكان موشوم، وقصص لا تنسى، وانثيال مشاعر لا ترمدها الأيام التي نجهل كيف نتداولها؟ ثم تحرمنا من بعد؟ أيذهب ذلك الرفيق الأنيس ويفنى؟ أيغدو عطف الأم التي طواها الردى الذي لا نعلم كيف يكون ردى ولماذا؟ سرمديا أبدياً فانياً في اللاشيء والعدم». هذه هي الحياة.. يوم لك ويوم عليك، وما كان صارخاً جميلاً وفتانا، ومورقا ومخضراً وواعداً سوف يعود هامساً باهتاً، وعاديا، وجافا، ومصفراً، ولي حديث آخر معكم حول الأربعين الأربعاء القادم بإذن الله. وكل عام وأنتم بخير، ومن العايدين يا محمد العوين. ALRESHOUD.Hotmail.com