حين اخترت رفيقي وطريقي في النهاية بعيداً عنها لم تتألم لأنها ستفقدني كدعامة لشيخوختها المقبلة بل لأنها لن تكون قريبة لتضمد جراحاتي في البعد.. تلك التي لم أتنبأ بها إلا بعد أن صارت واقعاً. فرِحت لي كثيراً.. وحين أصبحتُ أما فرِحت أكثر.. أكدت أنها اطمأنت حيث أكملت واجبي الأهم في الحياة.. أهم من شهادة الدكتوراه وأهم من الوظيفة وأهم من المركز العالي. ربما كانت تدرك أن السعادة تأتي من حميمية احتضان طفلي وليس من تسنم كرسي.. وكانت على حق.. كانت دائماً على حق.. «وردة» المضمّخة بعطر الأمومة.. *** وحين انتقلت إلى رحمة ربها بسكتة قلبية مفاجئة لم تنذرها أو تنذرنا كنت ما زلت بعيداً في غربتي.. جاءني الخبر القاصف عبر الهاتف قبيل الفجر.. زوجي مسافر في مؤتمر علمي ولا أحد يقاسمني لوعة اكتشاف كم أحبها.. بكيت وحدي طويلاً وبصمت كي لا أوقظ صغاري في الغرفة المجاورة. فتحت عيني الدامعتين لأجدها تجلس شاحبة متعبة على طرف سريري.. قلت: كيف؟.. أنت هنا؟.. قالوا لي إنك قد متِّ يا أماه؟.. قالت: جئت أطمئن عليك.. قمت أحاول احتضانها, فإذا السرير خال إلا مني ومن مخدة مبتلة بدموعي. *** أشياء كثيرة تذكرني بها الآن.. وجهي في المرآة الذي صار يشبه وجهها كثيراً.. انجذابي لأي امرأة تعبر في حياتي بصدفة ما ترتدي رداءها بنفس الطريقة التي كانت أمي تلتف به في طفولتي البعيدة.. الأخبار التي أقرأها الآن في الصحف عن نساء لا يشبهنها أبداً لا يرين جرما في تعذيب الأطفال.. موت طفلة بريئة لمجرد أن أباها تزوج امرأة أخرى بخلت أن تكون أما لها. حليها القديمة الطراز التي أصررت أن أحتفظ وأخواتي بها حتى لا تلبسها امرأة أخرى. فرحتي حين تبلغني أحد بناتي أنها تفوقت في شيء ما, فتعيد لذاكرتي أصداء فرحة أمي بي حين أعود إلى المنزل حاملة شهادتي المدرسية تعلن تفوقي في الامتحان. هي لم تدخل مدرسة سوى الكتّاب حيث حفظت القرآن.. ولم تعرف أمّا في يتمها منذ سن الثالثة.. *** أتذكرها دائماً وأشعر بالذنب لمَ لم أوضح لها كم كنت أحبها؟.. لمَ كنت أتلقى حنانها ورعايتها وكأنه الطبيعي المتوقع الواجب الذي لا يشكر عليه؟.. *** مر عيد الأم قبل 4 أيام وفي عيني دمعة.. ليت أحداً من أولادي قريب لنحتفل. أحبوا أمهاتكم ووضحوا لهن حجم ذلك الحب.. كي لا تمر الأيام وتتناءى المسافات ويفوت الأوان.. *** كلُّ عامٍ وأنتِ مزهرةٌ في القلب يا أجمل وردة.