جمعية المانجو بجازان تؤكد دعمها للتنمية الزراعية المستدامة في ملتقى "جازان الخضراء"    "الأخضر" تحت 17 عاماً يواجه تونس ودياً استعداداً لكأس العالم    بعثة منتخب الصين تصل إلى المملكة للمشاركة في بطولة العالم لرياضة الإطفاء والإنقاذ 2025    مناحل بيش تحصد المركز الثاني في مسابقة الإمارات للعسل على مستوى الخليج    الهلال يتفوق على الاتحاد بثنائية في الكلاسيكو    رقم تاريخي للهلال في الكلاسيكو    الاتحاد يغرق في موج الهلال الأزرق    بلدية الدرب تنفّذ حملة تنظيف شاطئ عتود ضمن جهودها لتحسين المشهد الحضري    نيوم والخليج يكتفيان بالتعادل الإيجابي    «سلمان للإغاثة» يوزّع (1,100) من المواد الإيوائية المتنوعة في الصومال    رئيسة المكسيك: المفاوضات التجارية مع أميركا «متقدمة جداً»    وزير الاقتصاد والتخطيط يعقد اجتماعاً مع المستشار الاقتصادي والمالي الألماني    المملكة تُسهم في إحباط محاولة تهريب (25) كجم "كوكايين" بماليزيا    وزارة الداخلية تحتفي بمرور 100 عام على تأسيس الدفاع المدني.. الثلاثاء المقبل    نائب أمير نجران يُدشِّن الأسبوع العالمي لمكافحة العدوى    نادي ثقات الثقافي يتألق (باأمسية أدبية مدينية ) بالتعاون مع الشريك الأدبي    خمس تطلعات مستقبلية لمنتدى TOURISE تستشرف التغيرات السياحية    المملكة تقدم مشاريع صحية لبناء عالم خالٍ من شلل الأطفال بقيمة تزيد عن نصف مليار دولار    تركي بن محمد بن فهد ينقل تعازي القيادة في وفاة علي الصباح    تجمع جازان الصحي وجمعية رعاية الأيتام بالمنطقة يبحثان سبل التعاون المشترك    توطين سلاسل الإمداد        السوق السعودي يترقب مسار السيولة    طبيب سعودي يحقق جائزة التميز في زراعة الكبد    آل الشيخ: معرفة أسماء الله الحسنى تزيد الإيمان وتملأ القلب طمأنينة    ولي العهد يعزي هاتفيًا رئيس وزراء الكويت في وفاة الشيخ علي الصباح    في يومٍ واحد.. عسير تحتفي بإنجازٍ مزدوج لخدمة الإنسان    وزارة الرياضة تحقق مستهدفات جديدة في نسب ممارسة النشاط البدني لعام 2025    السديس: أمتنا أحوج ما تكون لهدايات القرآن في زمن الفتن    الديوان الملكي: وفاة صاحبة السمو الأميرة هيفاء بنت تركي بن محمد بن سعود الكبير آل سعود    منظمة الصحة العالمية تجلي 41 طفلا من قطاع غزة    أنظمة الدفاع الجوي الروسية تسقط 3 مسيرات متجهة إلى موسكو    الرئيس الموريتاني يصل جدة لأداء مناسك العمرة    رابطةُ العالم الإسلامي تُشيد بالرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية    مسابقة "كأس فرسان علم السموم العرب" تنطلق اليوم    جمعية توعية الشباب تعزز مهارات التعامل التربوي مع الأبناء    تدشين فعالية اليوم العالمي للصحة النفسية في الخبر    صقّار يطرح أول شاهين في حياته ويبيعه ب(193) ألف ريال    تنقل زواره لتجربة سينمائية عبر رحلة تفاعلية مكتملة    163 ألف ريال لصقرين في مزاد نادي الصقور السعودي 2025    بيان عربي إسلامي: ضم الضفة انتهاك صارخ للقانون الدولي    أمير منطقة جازان ونائبه يلتقيان أهالي فرسان    أمير منطقة تبوك يواسي أسرة القايم    59.1% من سكان السعودية يمارسون النشاط البدني أسبوعيا    الأمين العام للأمم المتحدة يأمل أن تلتزم بالرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية    بروكسل تعد القاهرة بمساعدات بقيمة 4 مليارات يورو خلال أول قمة أوروبية – مصرية    لشيخ الدكتور صالح بن فوزان بن عبدالله الفوزان مفتيًا عامًا للمملكة العربية السعودية ورئيسًا لهيئة كبار العلماء ورئيسًا عامًا للرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء بمرتبة وزير    تكليف العنزي مديراً للإعلام ومتحدثاً لوزارة الشؤون الإسلامية    بالونات مجهولة تثير مخاوف الأمريكيين    أكد رسوخ الوفاء والمبادرات الإنسانية.. محافظ الأحساء يكرم مواطناً تبرع بكليته لوالده    القيادة تعزي أمير الكويت في وفاة علي الصباح    أمر ملكي بتعيين الفوزان مفتياً عاماً للمملكة    آل حلوّل والضليمي يزفون داؤود    المملكة توقع اتفاقية دولية للإنذار المبكر من العواصف    برنامج ثقافي سعودي- فرنسي يمتد حتى 2030.. 50 مليون يورو لدعم مشروع «مركز بومبيدو»    أجريت إنفاذاً لتوجيهات خادم الحرمين وولي العهد.. نجاح عملية عيب خلقي في القلب لطفلة فلسطينية    معقم الأيدي «الإيثانول» يسبب السرطان    التراث يحفّز الاستثمار ويقود ازدهار المتاحف    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



النبوءة المسافرة في نهر الرؤى والحدْس قراءة في شعر محمد عبدالباري «1»
د. سامي العجلان
نشر في الجزيرة يوم 04 - 06 - 2016

«إنّ من الأشياء أشياء تُحيط بها المعرفة، ولا تُدركها الصفة».
- إسحاق الموصلي
هذا المعلَّق في المعنى تُؤوِّلهُ
كلُّ القراءاتِ.. لكنْ ليس تفهمُهُ
- محمد عبدالباري
1 - شاعر النبوءة.. وعرّاف الرؤى:
صدر للشاعر محمد عبدالباري ديوانان متعاقبان، وهما: مرثية النار الأولى، و: كأنّك لمْ.. وفي كلا الديوانين تبدو القصائد ناضجةً فنياً إلى الحدّ الذي يثير التساؤل والاستغراب؛ إذْ عهدُنا بقصائد البدايات عند جُلّ الشعراء أن تكون أقلَّ جودة وأكثر تعثّراً، وقد تشِي هذه المفارقة بمدى صرامة الناقد المستكِنّ في هذا الشاعر، ومن اللافت أيضاً أن تكون انطلاقة الشاعر الفنية متزامنةً مع بدء (الربيع) العاصف الذي لوّن العشرية الثانية من هذا القرن، ومع أن أقدم القصائد في الديوان الأول، وهي قصيدة: صلصال الكلام قد سبقت الربيع العربي بعدة أشهر؛ فإنها تبدو يتيمة وسط القصائد (الربيعية) فيه؛ وكأنما كان هذا الحدث التاريخي هو المفجِّر الحقيقي لينابيع الشعر الكامنة في الشاعر .
سيكون مدخلنا الأوليّ إلى شعر محمد عبدالباري عبر قصيدته الأشهر: ما لم تقلْه زرقاء اليمامة، التي ربما أثارت بشهرتها الغيرة لدى قصائد الشاعر الأخرى؛ ولا سيما أنها ليست أفضل قصائده، فقصيدة: خاتمة لفاتحة الطريق تبدو هي القصيدة الأكثر تعبيراً عن أعمق ما في نهجه الشعري المتميز من رؤى ووسائل تعبير، ومع هذا فقد استحقت قصيدة (الزرقاء) هذه الشهرة؛ أولاً: لأنها جاءت في موعدها التاريخي مع الحدث الربيعي الصاعد آنذاك؛ قبل أن يختبر النزول الدامي بعد ذلك، وثانياً لأن الشاعر استثمر فيها الكثير من الآليات الفنية التي غدتْ علامة فارقة على شعره، وأُولى هذه الآليات: ما يمكن تسميته ب:(كرة البلّور السحرية)، فالشاعر في هذه القصيدة، وفي مجمل شعره معنيّ بالمستقبل وبالمآلات البعيدة للأحداث المشاهَدة، ومن هنا تشيع في لغته شيوعاً لافتاً الألفاظ الدالة على استقراء المستقبل؛ مثل: النبوءة، والحدْس، والرؤيا والتأويل، والعرّاف، والكاهن، والمواسم الآتية، كما تنتشر أدوات الاستقبال: (السين، وسوف، ولن) بقدْر كبير في صياغته الشعرية، بل حتى في كلمة الإهداء التي صدّر بها ديوانه الأول:
والأبيات السابقة من قصيدته (الزرقاء)؛ ولكنّ الروح المستقبلية: ألفاظاً، وأدوات متغلغلة في معظم قصائد الشاعر: (ستلمحُ عيناك قصراً مشيدا.. كانت تُسمّيك النبوءةُ نهرَها.. ها أنتَ تُقيم نبوءته من مرقدها.. تقول نبوءةٌ للنفّريِّ: إذا كتبتَ ستشطحُ.. سنُزحزح الليل.. سنمرّ بالتاريخ.. سنكون.. سنظلّ في جبل الرُّماة.. سننزل للزمن.. سنحشد.. سوف نوقف عصر القطيع.. سنكسر كلَّ زجاج البلاغة.. سنلفِظ هذا الهواءَ المعاد.. سنمشي لمنحدرٍ غامضٍ.. سنهدم كلَّ الكلام المصفَّف.. سنكتبُ عن عالم ميِّتٍ.. سأصطادُ الحرائقَ حين تعوي.. سأسرقُ من كلام السيف معنى.. وفي ابن زريقَ سوف أجيشُ وحياً.. إنه يومُ النبوءات الأخيرْ.. يوسفُ الآنَ يُداوي وحشةَ السجن برؤيا.. سيلْسعُنا مطرٌ باردٌ.. ستخلِّصُ الأشجارَ من حطّابها.. وقلتُ لشلال النبوّة هُزّني.. سينقسمُ البحر في موجتين.. سأنجو ثم لن ينجو سوايا.. سأكتبُ عنك من دمع اليتامى.. سأُهدي غابتي الصفراءَ فأسي.. سأكبرُ في الرماد) .
ما سرّ هذا الولع بالمستقبل عند محمد عبدالباري؟.. ألأنّ بيننا وبين المستقبل (حجاباً) بالمعنيين: الفيزيائي، والصوفي معاً، ومهمة شاعر الرؤى أن يحاول هتْك هذا الحجاب؟ وهل يستطيع؟.. هل يستطيع فعلاً أن يحتمل تلقّي (الكشف) المؤجّل، والحقيقة المرجَأة؟.. يكاد هذا (الطفل الأبدي) أن يحرق أصابعه في الحطب المشتعِل وهو يبحث فيه عن سرّ التوقُّد ولغز اللهب؛ ولهذا لم يكن غريباً أن تشيع في لغته الشعرية أيضاً مفردات: الأسرار، والألغاز، والحجُب: (نحن سرّ السرّ.. أن تقفز فوق حجاب الوقت.. يا أيها اللغز السديمْ.. البحرُ شابَ ولم يفكّ زجاجةَ السرّ القديمْ.. كابِدْ وفتِّشْ عن الأسرارِ وائتلقِ.. أن تشرب السرَّ أن تنأى عن النسَقِ.. عصايَ معي ومن سرٍّ لسرِّ.. تضيعُ خُطايَ في كلِّ اتجاهِ) .
2 - السقوط الحرّ في انتظار غودو:
«إني أحدِّثك لترى، فإنْ رأيت.. فلا حديث» !
- النفّري
- محمد عبدالباري
أمّا الآلية الثانية التي وظّفها الشاعر في قصيدته (الزرقاء)، ووجدتْ طريقها نحو كثير من قصائده فهي آلية: (المشهدية) الموحية بالرهبة والوجَل، ولتحقيق هذه ال آلية وسائل متنوعة، فالشاعر -كالعرّاف تماماً- يفضِّل تنكير الكلمات؛ عِوضاً عن تعريفها؛ إيغالاً في الإبهام، وتخويفاً من المجهول، كما يستعمل الألفاظ الدالّة على المزامنة والحضور؛ مثل: أسماء الإشارة؛ وبخاصة الإشارة إلى المكان: هنا، ويستعمل كذلك لفظي: الآن، وأرى، وكل هذا لإدماج المتلقي في المشهد المهيب الذي يروم تصويره، وكما يصنع العرّاف أيضاً يستدعي الشاعر الأحداث الدامية في التاريخ القديم؛ ليُعيد إنتاجها ضمن سياق الحاضر والمستقبل، وأخيراً وعلى نهج (الوصايا العشر) يجنح الشاعر إلى أساليب: الأمر، والنهي، والنداء؛ مزلزِلاً بها ضمير المتلقي، وكأنما يقدِّم له وصيّته الأخيرة المتضمّنة خُلاصة حكمته، وعُصارة تجربته ورؤيته:
(شيءٌ يُطِلّ الآنَ من هذي الذُّرا.. قُمْ صلِّ نافلةَ الوصولِ تحيّةً.. واكشفْ لإخوتِكَ الطريقَ ليدخلوا.. هي تلك قافلة البشيرِ تلوحُ لي.. هاهمُ الآنَ يرحلون.. شيءٌ ما ينهمر بعينيكَ فقل لي: ما هذا الشيءْ.. فأذِّنْ سيأتيك من كلِّ فجٍّ صعاليكُ متّهمون غُواةْ.. ارتفعي يا أشجارَ الدمْ.. جئتُكِ الآنَ من حريقٍ بعيدٍ.. أرى خلف سور الحقيقةْ.. قبائلَ تنفُضُ عنها رمادَ البسوس.. ولا تطلبْ من الكلماتِ معنى) .
وبين كرة البلّور السحرية، والمشهد المهيب المقتبَس منها يتأرجح الشاعر/العرّاف في نبوءته بين النفي والإثبات، وبين الرجاء والخوف، وبين انتظار (غودو) ومجيئه الموعود؛ غير أن هذا الشكّ المتأرجِح متوجِّهٌ حصراً إلى طُرُق الانبعاث ووسائل التغيير، أمّا الغاية الأخيرة من المسير فهي كفجوة الأفق في الوضوح، وهو ما يكشف لنا لماذا ينبسط المستقبل البعيد أمام عيني هذا الشاعر/المتنبي كسجادة مستوية بلا نتوءات، وكنبوءة محقّقة، ومثل (وارد) صوفي متيقَّن.. كأنّ التأرجح والغموض محصوران فقط في كيفية الاختيار بين طريقين يُفضيان في النهاية إلى غاية واحدة، وما يفرِّق بينهما هو: طول الطريق، ومقدار النزف، ومدى التضحيات .
وفي انتظار هذا المستقبل المشرِق البعيد لا يرى الشاعر بأساً في الاحتفال بالسقوط المتكرر بعد كلّ محاولة للانعتاق من الواقع الرديء، يحتفل به وكأنما يحتفي بلحظة: الإنسانية في النفس البشرية، فمن خلال هذا السقوط النبيل يتولّد ذلك العناد الجبّار للنهوض من جديد؛ ومن هنا ستجد أن الحقل الدلالي المرتبط بالسقوط شائع جداً في قصائد الشاعر، بكلّ مرادفاته ولوازمه؛ كالهبوط، والنزول، والهطول، والانهمار، والإطراق، والغرق، والدفْن، والقاع، والسفْح، والهاوية، والهُوّة، والأسفل، والشواهد على هذه الظاهرة من الغزارة بحيث تعزّ على الحصر، ويكفي هنا إيراد بعضها: (وسيسقطُ المعنى على أنقاضنا، أنا غارقٌ غارقٌ غارقٌ، والمطْرِقون من المذلّة ثاروا، كيف انهمرتِ تُدلّلين مواجعي، دفنوكَ في البحر اليتيمْ، لأنني الزورقُ المنذورُ للغرَقِ، وأنا مُثْخنٌ بالسقوط فكم ذا سقطتُ.. وكم ذا سقطتُ إلى أنْ بكى السفحُ فوقي.. أنا الدرْكُ في الدرْكِ لا شيءَ أسفلَ مني... إنني في القرارة يا أرضُ ليلُ عيوني مَهاوٍ ووجهيَ قاعُ)
هو إذن السقوط المطلق المستسلِم لقانون (الجذْب) في انتظار الارتطام المدوّي بأرض (الحقيقة)، أو هو: السقوط الحر؛ كما وصفه الشاعر في قصيدته الغزلية المتصوِّفة: (لا أُسمّيك).. السقوط المسافر نحو هاوية البركان السحيقة، وهناك.. هناك فقط ستنبعث من أشلائه الملتهِبة عنقاء التمرّد والخلود .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.