من البدهي أنّ يعدّ الحبّ من المواضيع الشعريّة الكبرى، والبدهي عادةً لا يحتاج مبرّرات ومسوّغات. لكن إنعام النظر فيه، قد يكشف جوانب لا يصلها ضوء البداهة، وتضيئها، على ما يبدو، عادةً عينُ الشاعر. فهو المتأني المتمهل الذي يجيد إعادة النظر، ويتقن تقليب الأمور – الحبّ هنا - من وجوهها المختلفة. فالرباطُ القوي الذي يجمع الحبّ والشعر، يُزين للأوّل ألا يكون دقيقاً في مواعيده، فالحبّ يأتي القصيدة قبل اللقاء المنتظر ليصفَ نار التوق ولهيب الشوق إلى محبوبٍ بعينه، تتبدى ملامحه سطراً فسطراً، ويأتيها بعد اللقاء المنتظر ليصفَ ألم الفراق وعذاب الغياب عن محبوبٍ بعينه يتبدى أثره في روح العاشق / الشاعر سطراً فسطراً. أما لحظة الحبّ ذاتها فلا تطرق باب القصيدة إلا نادراً، لأن الواقع في شباك الحبّ مشغولٌ عن وصفه، لا يطيق صبراً لترتيب الكلمات ورصفها، ويسعفه دائماً وأبداً اللفظ الأكثر تعبيراً وبساطةً : أحبّك. ولعلّ سوزان عليوان في ديوانها الجديد «ما يفوق الوصف» (نشر خاص) أرادت القبض على الأوج، أي على تلك اللحظة التي نادراً ما تطرق باب القصيدة، لحظة الحبّ ذاتها، بصفائها ونقائها وشوائبها، فلا ريثٌ ولا عجلُ. وإذ شُبهت لحظة الحبّ بالصاعقة، فلأنها تقسم حياة العاشق نصفين، قبلها وبعدها، لذا كان عنوان القصيدة الأولى في الديوان «حياة سابقة»، حيث تبدو التفاصيل الصغيرة التي ترصفها سوزان مقدمةً للخاتمة التي تجلو أولى وظائف الحبّ، باعتباره عتبةً لمراجعة النفس من أجل التحضير لرؤيتها بعين جديدة واكتشافها وسبر عواطفها: «وهل كان كلّ ما مضى/ بتفاصيله الصغيرة/ العابرة/ سوى انتظارك». والنظر في داخل النفس بعين جديدة، يعني كذلك مراقبة أحوالها الجديدة الناجمة عن الوقوع في الحبّ، لذا يحضر الأرق في القصيدة الثانية: «يوقظني شغفٌ»، كما يحضرّ التأمّل في أحوال عالمٍ تغيّر في نظر العاشق وحده : «أتذكرُ كيف كان العالم/ قبل أن يصطدم كطائرٍ بزجاج». وينعكسُ هذا التغيير إيجاباً خالصاً على المحبّ وحده، فيسمح له أن يتقبّل صورته: « أغفر لوجهي هذه التجاعيد»، كما نفسه «الجديدة» :»أشتاقُ/ أضحك/ أحبّ نفسي/ أحضن الأرض». عبر البسيط من الكلام يعبّر العاشق إذاً، عمّا زلزل كيانه. وإن كان الثعالبي قد بحث لغةً في «ترتيب الحبّ وتفصيله» في كتابه الشهير «فقه اللغة»، فإنّ سوزان عليوان تبيّن كيف يتنقّل المحبّ العاشق من مرتبة إلى أخرى من خلال لغتها البسيطة حدّ الاستسلام كليةً للنثر، إذ إن الزاوية التي اختارت أن تنظر إلى الحبّ من خلالها، تحكم إلى حدّ كبيرٍ اللجوء إلى هذا التعبير المبسط، لكن الناجح في وصف المشاعر المعقدّة التي يولدها الحبّ كالقلق والخوف والاستلاب والخضوع واختلاط الحزن بالفرح، وغيرها من المشاعر التي تعكس معاني مراتب الحب وفقاً للثعالبي: الهوى، الشغف، اللوعة، التبل التدليه...الخ. ومن الناحية التقنية إن صحّ التعبير، تكرّس سوزان طرق تصريف القول في الشعر الحديث غير الموزون (قصيدة النثر)، من خلالِ ميلها الى استعمال الجمل الاسمية ورصفها تباعاً من أجل التمهيد لختام القصيدة غير المتوقع عادةً : «لجرح العميق كوجود/السريران/ المرآة أمام المرآة/ كلّ هذه الحقائب/والرحلة بالكاد/ تتسّع لراكب». ومن خلال اللجوء إلى التوازي :»العلاقات التي كعلامات تعجّب/ العلاقات التي كعلامات استفهام»، وإلى التكرار وإلى تجانس الحروف :»قمرٌ بقرب قبلة»، وغيرها من الأساليب التي تعطي الشعر غير الموزون لمحةً خفيةً وغير منتظمة من الإيقاع. لكنّ ما يميّز سوزان في ديوانها هذا، هو تخلصّها من الإسراف في استعمال الأسماء الموصولة (الذي، التي) واستبدالها ب (ما) التي تفيد في معناها مرّة وتتلون مرّات، كما في القصيدة المعنونة «جمال مجروح»: «ما يوقظني لأحلم/ ما لا يعرفه عنّي سواي». الأمرُ الذي يسمح للشاعرة أن توّسع من تدرّجات مشاعر العاشق بالتوازي أو وفاقاً مع نوع (ما) وعملها : «ما يكاد يلامس السقف/ ما بين قمرٍ وبئرٍ/ من مستحيل»، وصولاً إلى خاتمة القصيدة: «ضحكتك المكسورة/ ما يفوق الوصف / والاحتمال». وتلجأ عليوان إلى «التقنية» ذاتها إن جاز التعبير مع (لو) في قصيدة «قبعة ساحر»: «لو سقفٌ/ لو أربعة جدران/...لو سريرٌ/ ولو لشخص واحد/ ملاءةٌ ناصعةٌ/ كما لو أن الأحلام تبتسم». فالقصد أيضاً هنا القبض على تدرّجات المشاعر الشفّافة التي تصيبُ المحبّ فلا يكفّ عن التمني: «لو أنّك لي/ لو أن قلبي قبعة ساحر»، إذ إن الحبّ في لحظته يحفل بتناقضاتٍ تُصوّره كورطة أو مأزقٍِ تغذّي التمني من تلقاء ذاتها. وفضلاً عن هذه «التقنية» إن صحّ التعبير، تلجأ سوزان إلى ربط القصائد من خلال اللعب على المطالع والخواتيم بطريقة غير مباشرة، حيث تسلّم قصيدةً لأخرى، لا من خلال اللفظ بل من خلال المعنى، كأن تختتم قصيدة (ما يشبه الفراشة) ب: «ربما نعود/ بما ينقصُ عمرنا/ نعيده وجهاً/ يبادلنا الكلام» وتفتح قصيدة (نسيان) ب: «ما لم نعد/ إلى أنفسنا/ ننسبه/ من ناسٍ ونبيذ». وعلى رغم أن سوزان في القسم الأوّل من الديوان ترّكز على تدرّجات المشاعر في الحبّ بشكل تبدو فيه «حياديّة»، كأنما لا تتكلم عن نفسها، إلا أن غمامة «الأنا» المنضوية تحت الجماعة، تتبخّر شيئاً فشيئاً كلّما امتدّ الديوان. ففي قصيدة «أجنحة ولا تطير»، تتضحّ الملامح الشخصيّة لل (أنا)، من خلال تعيين المكان: «المدينة الساهرة وبين نهديها نهرٌ»، فتظهرُ القاهرة الباهرة عبر تشبيه لا تنقصه البلاغة، ولعلّها تختبئ أيضاً في قصيدة «اسأل روحك» من ختامها المصيب لحالة العشق: «أهذا هو الحبّ يا أمّ كلثوم؟» إذ إن صوت أمّ كلثوم يُبطن مصر والحبّ معاً. وتتضحّ الملامح الشخصية أيضاً من خلال تفاصيل أكثر دقّةً: «سيارة سوداء في الليل/ على الجسر الواسع مسرعةٌ/ إلى الموعد/ تحت المطر... في الفندق ذي النوافذ الزرقاء... بيننا بابٌ/ لا بيت لنا»، فيعرف القارئ إن قصّة الحبّ تدور في فندق رغماً عن إرادة المحبّ على الأقل. وإن كان ختامُ القصيدة يمثّل أوّج تمني المحبّ: «في حضنك/ في ضحكتك/ أضناني الشوق» فلأن الحبّ – بالإذن من علوية صبح - هو مشوار الحبّ، هو تلك اللحظات التي يتحضّر فيها العاشق للموعد العاطفي، فلا يرى من الدنيا حوله إلا ما يدلّ على الحبّ، لذا تحضر أدواته الشهيرة «المطر والقمر»: «المطر المتردّد مثل بداية» أو «إلى الموعد الماطر/ كيف سبقتُ السماء/ والطريق/ تملأني الفراشات/ وكأنني في العشرين»، و «كالعشيق من النافذة/ إلى غرفتك يتسلّل القمر» أو «على ورق قصدير/ يغفو قمرنا/ نصف قمرٍ / أو أقلّ». ومن بين قصائد الحبّ تسرّبتْ قصيدةٌ، لعلّها من الأجمل (الفلكي): «شاعرٌ في برجٍ من زجاج/ بين النجوم / وسهر نوافذنا/ إلى حوافها/ يُطلق عصافيره السوداء/... ليعود ويرويها/ مطراً/ يدهشنا». فجمال الحبّ لا يكفيه المطر ولا القمر، بل يلزمه شاعرٌ ليكتمل الاحتفال. دأبت سوزان منذ ديوانها الأوّل حتّى «ما يفوق الوصف» على طبع قصائدها بعيداً من دور النشر، والأمرُ يستدعي التأمّل: فهي تكتب القصائد وتصمّم الغلاف وتطبع الديوان وحدها، فكأنما تفصح بذلك عن متعة تقطفها وحدها مرحلةً مرحلةً. والمتعة لا تأتي إلا من حبّ ما تفعل، فهي شاعرة مختلفة حقّاً، تكتب عن الحبّ باعتباره موضوعاً شعرياً: «كم هو وحيدٌ الحبّ دائماً/ بصيغة المفرد»، والظنّ أنها تكتب الشعر بوصفه فعل حبّ ينضح بالمتعة، التي تتسربُ إلى القارئ بسلاسة. وربما من أجل هذا يمكننا القول إن ثمة اسماً لفعلها هذا؛ - وبالإذن من علوية صبح ثانيةً – اسمه الغرام.