8 مشاريع مائية بالشرقية    محاصرة فوضى تأجير السيارات    تمادي إسرائيل في حرب غزة ومقترح عماني يدعو لفرض العقوبات    إيران بين المواجهة والدبلوماسية بعد إعادة فرض العقوبات الأممية    أزمة الحرب تتفاقم بتصعيد روسي وهجوم أوكراني    غداً .. الأهلي يواجه الدحيل القطري في دوري أبطال آسيا للنخبة    Throughput مقياس زوار الحرمين    تشافي أبرز المرشحين لتدريب الاتحاد    دوري المقاتلين المحترفين يختتم جولة نصف النهائي ونزالات الجولة النهائية في الشرقية    مدرسة ابتدائية مصعب بن عمير تحتفل باليوم الوطني ال95    جابرييل يمنح أرسنال فوزا صعبا 2-1 على حساب نيوكاسل    منتدى فكر بجامعة جازان يناقش الوسطية والانتماء    "الشؤون الإسلامية" تعزز خدماتها لتوعية مرتادي مسجد الحل بالجعرانة بمكة    دعم العلاقات الصناعية مع فيتنام    مساعدات إغاثية سعودية جديدة تعبر منفذ رفح متجهة إلى قطاع غزة    وزير العدل: التشريع في المملكة يرتكز على الوضوح والمشاركة المجتمعية    الديوان الملكي: وفاة صاحبة السمو الملكي الأميرة عبطا بنت عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود    "إثراء" يختتم فعاليات اليوم الوطني 95 بعروض رسخت قيم المواطنة    نائب أمير تبوك يكرّم مدير الشرطة السابق ويستقبل خلفه المعين حديثًا    أمير حائل يستعرض مع وزير البلديات والإسكان خطط تطوير الخدمات وتحسين جودة الحياة    نائب أمير جازان يطلع على تقرير هيئة الأمر بالمعروف ويشيد بجهودها التوعوية والميداني    نائب أمير الرياض يستقبل وزير الشؤون الإسلامية    الرافع يكرم الفائزين والفائزات بجائزة الاميرة صيته بنت عبدالعزيز    95 لوحةً فنية ترسم مشاعر طلبة تعليم مكة المكرمة باليوم الوطني    بن شفلوت يرعى إحتفال اليوم الوطني في أحد رفيدة    جامعة الإمام عبدالرحمن أول سعودية تحصد الاعتماد الدولي من الكلية الملكية بكندا    مستشفيات د. سليمان فقيه ضمن قائمة "نيوزويك" لأفضل المستشفيات الذكية لعام 2026    إرادة بالرياض: الصيدلة شريك محوري في تعزيز الصحة النفسية رغم التحديات    الاتحاد ينهي التعاقد مع المدرب لوران بلان    تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر بالمملكة ترتفع إلى 22.8 مليار ريال    المملكة ترأس جلسة أعمال المناقشة العامة للجمعية العامة للأمم المتحدة    المثالية: لعنة النجاح المؤجل!    المعتمدون على أدوات الذكاء الاصطناعي أكثر استعداداً للكذب والخداع    أمطار رعدية ورياح نشطة على عدة مناطق في المملكة    الشرع: سورية عادت لمكانتها التاريخية الفاعلة بين الأمم    أوباما: لا مبرر لقصف غزة وإقامة دولة فلسطينية ضرورة    الناقور يحتفل باليوم الوطني    القادسية يعبر الفتح ويقفز ل «وصافة روشن»    الفيحاء يتنفس الصعداء بنقاط النجمة    روشن تعرض مشاريعها السكنية    ملتقى سعودي عن الذكاء الاصطناعي في سيئول    16 باحثاً سعودياً ضمن قائمة الأفضل عالمياً    فسح وتصنيف 40 محتوى سينمائياً في أسبوع    تعزيز الابتكار والاستدامة.. السعودية تستضيف (يونيدو) للتنمية الصناعية    وسط مساعٍ أمريكية لوقف الحرب.. 120 غارة إسرائيلية على غزة و52 قتيلاً    «زاتكا»: 1511 حالة ضبط لممنوعات بالمنافذ الجمركية    ضبط 12 متورطاً واحباط تهريب 234 كجم مخدرات    الاهتمام بتطوير التجربة الإيمانية لضيوف الرحمن.. «الحج» : التنسيق مع ممثلي 60 دولة للموسم القادم    الصليح يحتفل بزواج عمار    «قط وكلب» يتسببان في طلاق زوجين    أزمة قلبية تنهي حياة عريس    الملك عبدالعزيز الوحدة والمنهج    قطرات تقلل ألم مرضى الشبكية    خطر خفي لنقص سوائل الجسم    %20 استعادوا النبض بعد توقف القلب    دراسة: كبسولات صغيرة تسعى للحد من التهاب الدماغ    حماة البيئة    محافظ قلوة يرعى احتفال أهالي المحافظة باليوم الوطني ال 95    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في الفتوى و «التفاتي» وصناعة التقليد
نشر في الحياة يوم 10 - 01 - 2010

أفتى الشيخ يوسف القرضاوي قبل أيام قليلة من نهاية العام المنقضي بأن بناء جدار بين مصر وغزة «عمل محرم شرعاً». وبعد حين رد «مجمع البحوث الإسلامي» التابع لجامعة الأزهر في مصر بأن من «يعارضون بناء هذا الجدار يخالفون بذلك ما أمرت به الشريعة الإسلامية». التراشق بالفتوى ليس شيئاً جديداً على الأجهزة الفقهية الإسلامية المعاصرة (ويبدو أن في دخول تعبير «التفاتي» قاموس «لسان العرب» ما يدل على استخدام قديم لسلاح الفتوى، حسب عبد المجيد الشرفي).
في غير مناسبة سابقة أفتت أسماء كبيرة في عالم الفقه بحرمة خيارات سياسية، وردت أسماء من وزنها بوجوب هذه الخيارات ذاتها. وبينما قد يجد المرء نفسه أقرب إلى الموقف المعبر عنه في بعض الفتاوى، فتوى الشيخ القرضاوي في سياقنا هذا، فإن ما سنهتم به هنا ليس مضمون الفتوى بل آلية الإفتاء أو إنتاج «الحكم الشرعي».
يعرض عارض، بناء مصر لجدار بينها وبين غزة أو حرب الخليج الثانية أو الثالثة...، فيُعرض هذا العارض التاريخي على أصل فقهي مقرر وفقاً لأصول مقررة بدورها عند الفقهاء (عمادها «قياس الغائب على الشاهد» على ما أبان محمد عابد الجابري)، فيستخرج من ذلك حكم شرعي، يحلل أو يحرم أو يبيح أو يندب أو يُنفِّر. ما تخفيه هذه الآلية ويساهم في كشفه تعارض مضامين الفتاوى حول الأمر الواحد، هو أمر يتعلق بإبستمولوجيا الإفتاء إن جاز التعبير، أعني موقع ذوات المفتين ودور تفضيلاتهم وانحيازاتهم ومصالحهم المحتملة في إنتاج الحكم الشرعي. لا تتضمن آلية استخراج الأحكام ما يمنع تدخل هذه الملابسات الذاتية في تشكيل الثمرة، أي الفتوى. ويبدو أنه لا يكفي «دين» القائمين بالإفتاء و «علمهم» لتحييد هذا العامل، ما دمنا نجد فتاوى على هذه الدرجة من التعارض.
إلى ذلك يتعين التساؤل عمن يطلب الفتوى، فرد أو جماعة أو... دولة. وما إذا كان الطلب خالياً من أية إيحاءات بالنتيجة المرغوبة أو كانت العلاقة بين الطرفين مبرأة من علاقات القوة. وكذلك عن درجة استقلالية المفتين أو الجهاز الإفتائي. هذه اعتبارات ضرورية، تتوحد دلالتها في أن العملية الإفتائية تحتاج إلى تطوير معرفي ومؤسسي يضمن استقلالها وصدقيتها وفاعليتها.
لكن لنمعن النظر في ما تقوله الفتوى وفي آلياتها. الجدار «محرم شرعاً» في فتوى الشيخ القرضاوي. التحريم مسند إلى «الشرع الإسلامي». من يقبل فتوى الشيخ يجعل تحريم الجدار جزءاً من «الشرع»، أي من الإسلام. ولا يختلف الأمر عند من لا يقبل الفتوى أو يقبل الفتوى المضادة. فبناء الجدار هنا هو الذي يغدو جزءاً من الشرع الإسلامي، أي من الإسلام. على هذا النحو يضفى على عارض تاريخي قيمة مطلقة، تنزع الصفة التاريخية لهذا العارض، أي حدثيته واختلاط وجوهه وامتناع التنبؤ به وبتطوراته. وعلى هذا النحو أيضاً يتضخم المتن الإسلامي الشرعي بوقائع وأحكام متعارضة، دون إمكانية فرزها والبت في ما هو «الشرعي» حقاً.
وعبر نزع التاريخية تنزع هذه الآلية ايضاً صفة الحدث أو المفاجأة عن كل ما يستجد، على ما بيّن عبدالله العروي في كتابه «السنة والإصلاح». تصون «السنة» ذاتها بنفي الحدث أو تجريده من حدثيته، فلا يندُّ عنها شيء ولا يفعل كل طارئ غير توكيد صلاحيتها الدائمة. وتعطي آلية إدامة التقليد هذه شعوراً بالسيطرة على التاريخ، يبدو أن وقائع التاريخ المحسوسة لا تكف عن دحضه. وبينما يتراءى أن «الشرع» يحتوي التاريخ، طاحناً كل حوادثه، فإن المحصلة الفعلية أقرب إلى العكس: زج «الشرع»، أي الدين، في التاريخ دونما باق، وإمساك هذا وحوادثه وطوارئه بزمام المبادرة، تاركاً للشيوخ وصناع التقليد أن يلتحقوا به. صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان هي نتاج عملية التسنين هذه التي لا يديرها مفتون فقط، وإنما كذلك مفسرون وشراح وخطباء وواعظون... يتوحد عملهم جميعاً في أنه يدير وجه الإسلام نحو الماضي أو يتركه مشدوداً إلى الماضي. ليس تلك الصلاحية العابرة للأزمنة والأمكنة نتاجاً للتغير (ما يتغير صالح للأزمنة والأمكنة المتغيرة) بل لنفي التغير الذي تتكفل به آلية القياس، هذه التي ترد كل جديد مختلف إلى أصل ثابت لا يحول.
المحصلة ليست نفي التاريخ فقط، وإنما كذلك نفي التعالي، فيخسر الدين استقلاليته وقوامه الذاتي، الأمر الذي ينتظر أن يعمل مثقفون إسلاميون على تجريد آلياته على نحو ما عمل العروي على إظهار آليات نفي التاريخ.
لكن ما هي نوعية الطلبات الاجتماعية التي تعمل على ثبات هذه الآلية التي تظهر بأجلى صورها في الممارسة الإفتائية؟
أي تشكيل للفرد وللجماعة والدولة يغذي بطاقة الدوام آلية حذف التاريخ أو إلغاء الحدث؟
كان الصديق المرحوم صالح بشير قد اقترح في واحد من مقالاته اللامعة أنه يتعين مقاربة الفتوى من وجهة نظر طالبيها أو «مستهلكيها»، لا من وجهة نظر منتجيها أو مصدريها (الفتوى ومعضلة الفردية، «الحياة»، 18/11/2008). ورأى أن الأصل في طلبها هو ضعف تشكل ضمير الفرد أو نقص الفردية، وما يحفز عليه هذا من طلب السداد والسلوك القويم من قبل هؤلاء الأفراد، يوجهونه إلى مرشدين ومفتين.
ولعل مثل ذلك ينطبق على الدولة. الدولة الناقصة، ضعيفة الاستقلالية والشرعية، التي لم تطور ضمير دولة ناضجاً، توجه طلبات إلى جهات دينية لتمنح تفضيلاتها شرعية لا تملكها هي. الشرعية هذه هي «الضمير» الذي تفتقر إليه دولنا المعاصرة.
وكان جوزف فان إس، المستشرق الهولندي، رأى أن للسلوك القويم (أورثوبراكسيا) حضوراً في الممارسة الإسلامية أكبر مما للتفكير القويم (أورثودوكسيا) الذي كان مميزاً للمسيحية الغربية. لدينا تتغلب مقتضيات السلوك المقبول ولوازم الإجماع، لذلك يختلف الحكم على مسلك أو اعتقاد ما وفقاً لما إذا كان محصوراً في النطاق الخاص أو الشخصي (لا تأثير له على «الإجماع» المفترض أو على تصور الأمة لنفسها) أو ممارساً علناً وفي النطاق العام. الرقابة أو الضبط العام أقوى بما لا يقاس على ما يمارس علنا.
بيد أن هذا يفتح باب الرياء الذي هو إغراء مستمر للأخلاقية الإسلامية.
تحتاج قضية الفتوى إلى مزيد من النقاش، لكن يبدو لنا أن استقلالية أكبر (لا أصغر) لجهاز الإفتاء عن الدولة هو ما يضمن مزيداً من الشرعية الدينية لفتاواه، ومزيداً من عصرنتها على المدى الأبعد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.