أول اجتماع لمكتب المتقاعدين بقوز الجعافرة    هيئة التقييس الخليجية تشارك في أعمال الدورة ال48 لهيئة الدستور الغذائي (CODEX)    تعليم الطائف يناقش أداء المدارس    شراكة مجتمعية بين ابتدائية قبيبان وجمعية «زهرة» للتوعية بسرطان الثدي    تقني الشرقية تختتم "راتك 2025"    مصرية حامل ب9 أجنة    الثقوب الزرقاء ورأس حاطبة.. محميتان بحريّتان تجسّدان وعي المملكة البيئي وريادتها العالمية    المصلون يؤدون صلاة الاستسقاء في جميع مناطق المملكة    أمير حائل يدشّن عددًا من الحدائق الجديدة بالمنطقة .    المنتخبات السعودية ترفع رصيدها إلى 22 ميدالية في دورة ألعاب التضامن الإسلامي    محافظ محايل يزور مستشفى المداواة ويطّلع على مشاريع التطوير والتوسعة الجديدة    البرازيل تمدد محادثاتها بشأن قضايا خلافية في قمة المناخ    عقد شراكة بين فرع الهلال الأحمر السعودي وبيت الثقافة بمنطقة نجران    تحذير فلسطيني من تهجير قسري في قلنديا ينتهك القانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف    أمانة نجران تطلق حملة موسم التشجير لعام 1447    تراجع أسعار الذهب 0.1 %    المصلون يؤدون صلاة الاستسقاء في جميع مناطق المملكة    ورشة استراتيجية مركز الملك سلمان لأبحاث الإعاقة 2026–2030    كريستيانو رونالدو: المونديال القادم هو الأخير لي    «أفواج جازان» تقبض على مخالفَيْن لنظام أمن الحدود    رئيس برشلونة ينفي تقارير عودة ميسي    كمبوديا وتايلاند تتبادلان الاتهامات بالتسبب بمواجهات حدودية جديدة    ستة معايير سعودية تقود عملية تطوير مؤسسات التعليم العالي عربيًا    100 ألف وظيفة تستحدثها بوابة الاستثمار في المدن    ذاكرة الحرمين    الشلهوب: الرسائل المؤثرة.. لغة وزارة الداخلية التي تصل إلى وجدان العالم    الرياض تحتفي بانطلاق البطولة العربية للجولف للرجال والرواد    وسط مجاعة وألغام على الطرق.. مأساة إنسانية على طريق الفارين من الفاشر    وسط جدل سياسي واسع.. الرئيس الإسرائيلي يرفض العفو عن نتنياهو    أوروبا وكندا تدعوان لتنفيذ اتفاق غزة    الوكالة الذرية تفقد القدرة على التحقق من مخزون اليورانيوم الحساس    تجربة الأسلحة النووية مرة أخرى    خادم الحرمين يدعو لإقامة صلاة الاستسقاء اليوم    يجتاز اختبار القيادة النظري بعد 75 محاولة    شهدت تفاعلاً واسعاً منذ إطلاقها.. البلديات: 13 ألف مسجل في مبادرة «الراصد المعتمد»    نوّه بدعم القيادة لتمكين الاستثمارات.. أمير الشرقية يدشن أكبر مصنع لأغشية تحلية المياه    القيادة تعزي رئيس تركيا في ضحايا تحطم طائرة عسكرية    وفد رفيع المستوى يزور نيودلهي.. السعودية والهند تعززان الشراكة الاستثمارية    تعزز مكانة السعودية في الإبداع والابتكار.. إطلاق أكاديمية آفاق للفنون والثقافة    «مغن ذكي» يتصدر مبيعات موسيقى الكانتري    160 ألف زائر للمعرض.. الربيعة: تعاقدات لمليون حاج قبل ستة أشهر من الموسم    الصادرات السعودية في معرض جاكرتا    وزير الخارجية يستعرض مع نظرائه الأمريكي والهندي والألماني المستجدات    في دور ال 32 لكأس العالم للناشئين.. مواجهات صعبة للمنتخبات العربية    نفذتها "أشرقت" بمؤتمر الحج.. وكيل وزارة الحج يدشن مبادرة تمكين العاملين في خدمة ضيوف الرحمن    في الميركاتو الشتوي المقبل.. الأهلي يخطط لضم الألماني«ساني»    القيادة تعزي الرئيس التركي    فيصل بن فرحان ووزيرة خارجية كندا يستعرضان العلاقات وسبل تعزيزها    فرحة الإنجاز التي لا تخبو    أمير جازان يشهد انطلاق أعمال ورشة الخطة التنفيذية لمنظومة الصحة 2026    جلسة حوارية حول "الاتصال الثقافي بين السعودية والصين" في قسم الإعلام بجامعة الملك سعود    وزير الصحة السعودي: الاستطاعة الصحية شرط الحصول على تأشيرة الحج    تحسين متوسط العمر في ضوء رؤية 2030    «محمية الإمام» تطلق تجربة المنطاد    دراسة: فيروس شائع يحفز سرطان الجلد مباشرة    بدء التسجيل لجائزة سلامة المرضى    أمير نجران يستعرض تقرير "التجارة"    علاج جيني واحد يخفض الكوليسترول    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هوامش للكتابة - سهر الليالي 2-2
نشر في الحياة يوم 07 - 10 - 2009

ومن المؤكد أن القاعة الشرقية هي التي فتحت عيني على كتب التراث العربي القديمة، فكان حبي لها، ولا يزال، حباً للتراث العربي الذي أتاحت لي أن أعرفه، عبر سنوات التلمذة، فما أكثر الوقت الذي كنت أقضيه فيها، متجولاً، مبهوراً بآفاق المعرفة التي كانت تتيحها لي مجلداتها، ففي ركن منها كانت تتراص كتب التاريخ للطبري وابن الأثير والمسعودي والمقريزي على سبيل المثال، وفي ركن آخر تتراص الموسوعات الأدبية، ومنها «الأغاني» التي عرفتها أول ما عرفتها في طبعة الساسي، وإلى جانبها «العقد الفريد»، و «الكامل» للمبرد بشرح الشيخ سيد بن علي المرصفي الذي تتلمذ عليه طه حسين، وهو غير حسين المرصفي الذي تتلمذ عليه الشاعران محمود سامي البارودي وأحمد شوقي، وأضف إلى ذلك كتب المجموعات الشعرية القديمة، ابتداء من المفضليات والأصمعيات، مروراً بكتب الحماسة التي تضم حماسة أبي تمام، وحماسة البحتري، وحماسة أبي زيد القرشي، فضلاً عن غيرها من المجموعات التي مضت على درب الشاعر أبي تمام الذي جمع ما راقه من التراث وأطلق عليه اسم أول الأبواب، وهو الحماسة، وانتهاء بالمجموعات الأخرى التي جمعها قدماء ومحدثون، وشعراء من العصر الحديث أمثال البارودي والزهاوي اللذين مضيا على درب جدهما الأكبر المتنبي. وفي ما بعد تخرجي، عرفت أن أدونيس علي أحمد سعيد سار على الدرب نفسه، وأصدر مجموعته «ديوان الشعر العربي» وقد تعلمت، من تصفح هذه المجموعات، وقراءة ما تيسر لي منها، أو ما احتجت إليه في دراستي، أن اختيار المرء دليل على عقله وصورة من ذوقه ولذلك اختلفت المفضليات نسبة إلى المفضّل الضبي عن الأصمعيات نسبة إلى الأصمعي عبدالملك بن قريب، وعرفت كذلك أن اختيارات كل امرئ تقف عند مرحلة بعينها من الزمن الذي أدركه عياناً أو قراءة صاحب المختارات.
وقد تعلمت من مجلدات القاعة الشرقية، على نحو غير مباشر، فضل الاستشراق على التراث العربي، فقد قرأت الطبعة البريطانية من المفضليات بتحقيق لايل، ولا أذكر الدواوين التي حققها كرنكو أو غيره، وعرفت عن ما كتبه بلاشير الفرنسي عن تاريخ الأدب العربي عموماً، والمتنبي خصوصاً، فضلاً عن اكتشاف ماسينيون لنصوص الحلاج وتحقيقها، ولولا كتابه العمدة عن الحلاج ما استطاع صلاح عبدالصبور أن يكتب «مأساة الحلاج» متابعاً ما سبقه إليه أدونيس الذي أضاء معرفة الحلاج لعبد الوهاب البياتي وغيره، وكم أفدت في دراسة التراث الإسلامي من كتاب جولد تسيهر عن «العقيدة والشريعة في الإسلام» أو ما كتبه عن التفسير عموماً، ولا يزال «معجم مفردات الحديث» الذي قام به الألماني زامباور هو أهم معجم لألفاظ الحديث إلى اليوم وكيف أنسى كتاب دي بور الفرنسي عن الفلسفة الإسلامية بترجمة وتعليقات محمد عبدالهادي أبو ريدة، بل كيف أنسى أن «نقد الشعر» لقدامة بن جعفر قد عرفناه، أولاً، بفضل بونيباكر الإنكليزي، ومثله كتاب «أسرار البلاغة» لعبدالقاهر الجرجاني الذي طُبع، أولاً، في إسطنبول، وتجرني كتب البلاغة إلى «كتاب البديع» لابن المعتز الذي حققه وكشف عن أهميته المستشرق الروسي كراتشكوفسكي، ولا أنسى أن طبعات «ألف ليلة وليلة» ما كانت تصلنا لولا الجهد الاستشراقي، وينطبق الأمر نفسه على السير والملاحم ودواوين الشعراء.
القاعة الشرقية
المؤكد أن القاعة الشرقية جعلتني أدرك أننا ندين في معرفتنا بالتراث العربي إلى جهود المستشرقين، صحيح أن بعض هؤلاء المستشرقين كانوا يعملون لخدمة أهداف استعمارية، ولنشر مقولة الشرق الغريب، العجيب، الطريف، كما ذهب إدوارد سعيد في كتابه عن «الاستشراق»، متوسعاً في استخدام مبادئ ميشيل فوكو عن القوة والسلطة والهيمنة التخييلية لكن كل هذا من قبيل الاستثناء، ولا ينطبق إلا على فريق بعينه، وبعض الأقطار الاستعمارية لكن الحق أننا أفدنا من الجهود الاستشراقية في كل الأقطار الأوروبية، ومن أصالة النظر أن نفصل بين العلم والسياسة، خصوصاً حين يكون الهدف من البحث في الشرق علمياً خالصاً، ولا ينطوي على أيديولوجيا هيمنة، بل على رغبة في المعرفة والكشف، ولولا كل هذه المجلدات التي كانت متراصة على أرفف القاعة الشرقية، ما أدركت هذه الحقيقة، خصوصاً أنني أتحدث عن سنوات قريبة من السنوات التي كانت جامعة القاهرة على صلة وثيقة بدور النشر العالمية وبمراكز طبع وتوزيع كتب الاستشراق في عواصمها الغربية وكم كانت متعتي وأنا أطالع الحروف العربية المسكوكة في مطابع أوروبية، حيث يختلف رسم الخط وعلامات الترقيم، ولذلك أجد جيلي أسعد حظاً من الأجيال التي عاصرت فترات الانهيار، فأصاب القاعة الشرقية ما أصاب غيرها، ولكنني لا أزال أحلم بأن يأتي يوم تعود فيها القاعة الشرقية إلى بهائها القديم.
شيء أخير أدين به لمجلدات القاعة الشرقية، وهو تحريكها لشهوة اقتناء الكتب داخلي، فقد دفعني حبي لمجلداتها أن أشتري مثلها المتاح أو المحقق تحقيقاً جديداً، مثل دواوين أبي تمام والبحتري وأبي نواس وغيرهم، فضلاً عن المجموعات الشعرية والأدبية التي حقق منها عبدالسلام هارون، تحقيقاً حديثاً، المفضليات والأصمعيات، فضلاً عن البيان والتبيين والحيوان وغيرهما من كتب الجاحظ التي عمل على تحقيقها فكان مثالاً للمحقق العربي الحديث الذي تعلم من المستشرقين أفضل ما فيهم، وأضاف إليهم معارفه التراثية، رحمه الله، فقد درست على يديه كتابه عن علم تحقيق التراث العربي، في معهد الدراسات والبحوث التابع لجامعة الدول العربية، وذلك بعد تخرجي من الجامعة، وحصولي على منحة دراسية في هذا المعهد.
المهم أن كتب القاعة الشرقية دفعتني إلى اقتناء المحقق حديثاً منها، ولذلك عرفت طريقي، فضلاً عن مكتبات وسط البلد وسور الأزبكية، إلى مكتبات الأزهر والحسين، وأهمها مكتبة صبيح التي كانت تقع في ميدان الأزهر، ومكتبتا آل الحلبي، إن لم تخني الذاكرة، في الشوارع القديمة المحيطة بالجامع الأزهر، فضلاً عن مكتبة الخانجي في شارع عبدالعزيز وكانت النتيجة أن انضم إلى رحلة سور الأزبكية رحلة المكتبات المتخصصة في الكتب القديمة ولا تزال بعض الطبعات التي اشتريتها من هذه المكتبات تحتفظ بها مكتبتي التراثية إلى اليوم وأذكر «دار الكتب» في هذا السياق، فقد اقتنيت عدداً من مطبوعاتها للدواوين القديمة، فضلاً عن أنها كانت محطة بالغة الأهمية، تعودت الذهاب إليها، والتنقل بين قاعاتها، إلى أن انتهى بي الأمر بقاعة القومية العربية التي كانت نسخة من القاعة الشرقية، ولكنها كانت مكونة من غرفتين متصلتين الأولى تشمل المصادر والموسوعات الحديثة، وأذكر منها موسوعة البستاني، والثانية للمصادر القديمة وكانت دار الكتب تفتح في الصباح إلى ساعة الغداء، ثم تعاود العمل ابتداء من الخامسة بعد الظهر، فإذا لم ألحق الفترة الصباحية ذهبت في الفترة المسائية وكنت إذا وصلت مبكراً عن الخامسة أنتظر في مقهى مجاور لدار الكتب وما أكثر الأساتذة الذين قابلتهم في المقهى، أو قاعات دار الكتب وكانوا يرشونني بابتسامة مشجعة وفرحة لوجود طالب شغوف بالمعرفة.
وما لم أنسه، في هذه السنة الدراسية، أنني أخذت في مقاطعة الأنشطة الطلابية الحفلات، الرحلات إلخ، ولم أكن أقابل زملائي وزميلاتي إلا في الفترات القصيرة بين المحاضرات، فإذا انتهى اليوم، عدت إلى غرفتي وجلست على مكتبي، أقوم بتبييض المحاضرات أولاً، بعد الإضافة، ثم أستعيد دروس النحو مع ما بدأنا ندرسه من علوم القرآن وعلم مصطلح الحديث، فقد كان كلاهما مجالاً جديداً، عرفت منه أسباب النزول والفوارق بين الآيات والسور المكية والمدنية وغير ذلك من تفاصيل «الإتقان في علوم القرآن» ومعها أنواع الأحاديث الصحيح، والمتواتر، والمنقطع، والضعيف. وكنت أحفظ تعريف كل نوع، وسلاسل الذهب في الإسناد، وتاريخ جمع الأحاديث والفارق بين الصحاح والمسانيد وغيرها وأظل على مكتبي، منهمكاً في الدراسة التي كانت تسرقني من كل شيء، وما أكثر ما كنت أنام، بعد أن يأخذ مني الإعياء مبلغه، قرب الصباح من دون عشاء.
وكنت إذا تعب ذهني من الاستذكار أذكّر نفسي بأن هناك من يتفوق عليّ، وأنني لا أحب لنفسي أن أكون الثاني أو الثالث، فإما أن أكون الأول أو لا أكون، قياساً على مونولوج هاملت الشهير أكون أو لا أكون.
وما أكثر ما كنت أتطلع إلى جدران الغرفة الصامتة، وإلى الركن القصي حيث الكتب المتراصة في زاوية الغرفة، وكنت قد عرفت ديوان أحمد حجازي «مدينة بلا قلب» وكنت أسترجع، أحياناً، أبيات قصيدته «حلم ليلة فارغة» فكنت أنشد لنفسي: «أيتها المقاعد الصامتة/ تحركي ليلتنا جديدة / لا تشبه الليالي الفائتة / ليلتنا واسعة مضيئة / وهذه الجدران / تراجعت لنجمةٍ تدور / لريح صيف أقبلت بشهقة الزهور».
ولم يكن في الغرفة مقاعد صامتة أو ناطقة، فلا مقاعد سوى الذي أجلس عليه متكئاً على مكتبي، ولم تكن الليلة جديدة سوى بالحلم المتجدد بالتفوق، الحلم الذي يتسع بكل ولكل ما حولي، مقروناً بضوء الأمل الذي يشبه نجمة تدور عبر الفراغ حولي، تتخلله شهقة زهور لريح صيف تهب حتى في الشتاء، وأمضي مع بقية أبيات القصيدة وأحلم بأن زائراً ما، يقطع الطريق حاملاً بشرى نهاية الطريق، حاملاً إياها طائر أخضر المنقار، فتسري في أعماقي حماسة الثقة والأمل، وأعاود المذاكرة، حتى إن ظلت الغرفة صامتة، لا شيء فيها سوى نجوى النفس، والجدران والكتب والأحلام، العالم الجميل فيها كومة من سطور المحاضرات والكتب، أقضي معها الليل، واثقاً أن بعد الليل فجراً مشرقاً، وعندما تأتي الطيور في المنام، بعد إرهاق الذاكرة، أسمعها تقول لي غداً وغداً وبعد غد، يمضي الطريق الذي يدل عليه طائر التفوق أخضر المنقار.
كم أحببت هذه اللحظات، وكم أحب ذكراها، وأنا أسترجعها الآن، بعد ما يقرب من نصف قرن، وكم أفتقد عافية الشباب التي كانت تجعلني أصل النهار بالليل، وأخرج إلى الجامعة من دون نوم، وأحضر المحاضرات بذهن مفتوح، وأذهب إلى القاعة الشرقية كالمعتاد، وأعود إلى المنزل، كي أنام ساعات، أستيقظ بعدها لمواصلة المجاهدة التي تحلم بطائر التفوق أخضر المنقار ومرت الليالي الصامتة، ووصلنا إلى آخر العام، ودخلت الامتحانات بقلب واجف، وجسد هزيل، أقرأ الفاتحة في مبتدا كل امتحان، وأقرأ ورق الأسئلة، وتنهال الإجابات من دون صعوبة وسرعان ما تأتي لحظة النجاح، وأصل إلى أول سلم التفوق وأتخطى حسني وثابت، وأصبح أول دفعتي، وأعود إلى المحلة في الإجازة الصيفية، هانئاً، سعيداً، مقبّلاً الشيخ رمضان بحماسة زائدة لم يعرف سببها، حالماً بالخطوة التالية في سلم التفوق، فقد كان تقديري جيد جداً، لكنه يفصل بينه والامتياز درجات، فيصبح الامتياز هو الدرجة التالية من سلم الليالي التي تدور بنجمة الأمل، وسرعان ما تنتهي العطلة الصيفية لأعود إلى القاهرة، محتفى بي من زملائي وزميلاتي بالأخص، وتتكرر الدورة نفسها، والسهر، وانتظار الطائر أخضر المنقار، وتنتهي السنة الثالثة، وتكون النتيجة نفسها جيد جداً فيفصل بينها والامتياز درجات معدودة، وأقضي العطلة، وأعود بعدها لأواصل سهر الليالي، وأقول لنفسي صحيح صارت الأحوال المالية أفضل، بالحصول على مكافأة شهرية قدرها ستة جنيهات ونصف تقريباً وهي مبلغ لا بأس به بمقاييس عامي 1963 و1964، ولكن لا بد من لقاء الطائر أخضر المنقار، والوصول إلى تقدير ممتاز الذي لم أكف عن الحلم به ويعمل القدر في صالحي، فأنتقل منذ السنة الثالثة إلى شقة رحيبة في شارع سكة الناصر في ميدان الجيزة، أستأجرها مع زميل هندي مسلم هو محمد حياة الله، على شرط أن أذاكر له ما لا يفهمه من المحاضرات، وكان يعمل مذيعاً للغة البنغالية والأردية في قنوات الإذاعة الموجهة للهند وباكستان، وأخبرني أنه مقابل مساعدتي له علمياً، سيتولى عني أعباء طهو الطعام، وشراء كل ما نحتاج من مراجع، وأتاح لي ذلك تفرغاً أكثر وحماسة أشد، ومواصلة سهر الليالي في انتظار الطائر أخضر المنقار، وانتهينا من امتحانات السنة الرابعة، وصديقاتي وأصدقائي يضحكون من تناقص وزني اللافت، ويطلق عليّ صديق مصري، اسمه حسني، لا أعرف أين هو الآن، جملة جابر المتلاشي، لأنه كان يرى أن وزني كان يتناقص يوماً بعد يوم، وكان يمازحني قائلاً: الصراع بيني وبينك هو الصراع بين الحصول على مقبول والحصول على ممتاز.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.