منذ اندلاع الربيع العربي وانتفاضة «شباب 20 فبراير» ضد كل أشكال الفساد والاستبداد أصبحت السياسة طاغية في كل مكان. في التلفزة والجريدة والموقع الإلكتروني والمقهى والمنزل والأعراس والحفلات. حتى السياسيين انتعشوا مع موجة التغيير العارمة التي اجتاحت مجتمعنا. صحيح أن كثيرين منهم اختفوا أو تواروا عن الأنظار أو هبطت أسهمهم ولم نعد نسمع عنهم أي شيء وهم الذين كانوا يمسكون مقاليد الحكومات والوزارات والإدارات ويقررون في الصغيرة والكبيرة. حسناً فعلوا، هكذا سيرتاحون ويرتاح منهم الشعب. لكن البعض منهم سطع نجمه في هذا الجو الجديد. تلك هي الحياة وصيرورة التاريخ، لكل زمن رجالاته، والله يمهل ولا يهمل. من بين السياسيين الذين أصبحت لهم كلمة ورأي وموقع، نجد الإسلاميين المغربيين بمختلف اتجاهاتهم. وهم اليوم محور النقاش والنقد. لسبب بسيط هو أنهم أصبحوا بفضل الانتخابات يتقلدون مسؤوليات كبرى في هرم السلطة. وقد كثر الحديث عن أدبيات وسياسات واستراتجيات ومواقف هؤلاء الإسلاميين في الميدان السياسي. وتم النبش في تاريخهم القديم ومرجعياتهم، وأيضا مراجعاتهم الفكرية والسياسية والشرعية ومحاولاتهم التأقلم مع واقع العولمة والوطن. لا جدال في كون الإسلاميين المشاركين في الحكومة المغربية يواجهون سيلاً من الانتقادات من أحزاب الغالبية والمعارضة والإدارة والصحافة والمثقفين والإعلاميين... وهي انتقادات يصعب أحياناً تحديد مصادرها وأبعادها. لكن المتمعن في هذه المعركة المفتوحة في وجه إسلاميي الحكومة يجد أنها بقيت منحصرة في مواضيع يمكن تحديدها إجمالاً في الآتي: فضح محاولة أسلمة الدولة والمجتمع، وغياب أي برنامج اقتصادي واضح لحل إشكاليات التنمية، وفشل التجارب الإسلامية في أقطار أخرى، وإظهار أطر الحركة الإسلامية كأنها فاقدة للتجربة والحنكة، ومحاولات الهيمنة والانفراد بالقرارات وكذا استمرار سياسة الإسلاميين في دغدغة عقول المواطنين والتذكير المستمر كون صعود الإسلاميين إلى الحكم مسألة عرضية وقعت بفضل الربيع العربي ومباركة القوى العظمى وأنه حين ستزول هذه الأسباب سيرجع التيار الإسلامي إلى حجمه العادي داخل الحقل السياسي. إلى هنا الأمر عادي. مواجهة الإسلاميين تعتمد على أدوات السياسية والتجربة والإيديولوجية والتاريخ. لكن النبيه سيلاحظ أن هناك أشياء مهمة غائبة في استراتيجية المواجهة والتي هي الأساس في العديد من الدول حين محاولة إطاحة غريم سياسي أو منافس انتخابي. من حين إلى آخر تبرز قضايا فساد في البلدان الغربية، إلا أن الفرق بيننا وبينهم هو أن من يثبت تورطه في شيء مخالف للقانون يتم فضحه وتقديمه إلى القضاء ونبذه من المجتمع والأحزاب والصحافة. أما في بلادنا فنسمع عن العديد من ملفات الفساد لوزراء سابقين ومدراء مؤسسات وطنية كبرى لكن القليل منها يصل إلى القضاء. سمعنا عن العلاوات المتبادلة داخل إحدى الوزارات المغربية كما سمعنا عن صفقات معيبة داخل وزارة أخرى واغتناء فاحش واقتناء عقارات، واللائحة طويلة، وصحفنا ومواقعنا الإلكترونية تعج بمثل هذه الأخبار، لكن القليل منها يتم فتح تحقيق حوله. ستقولون إن الفساد المالي يتطلب فترة من الزمن للتأقلم مع كرسي السلطة ومعرفة خيوط الإدارة وشبكاتها. لذا علينا الصبر قليلا وانتظار بضع سنين لمعرفة هل جاذبية السلطة والمال كانت أقوى من الإيمان والأخلاق. أما الفساد الأخلاقي، فإن معظم الملفات لا يظهر غالباً إلى العلن إلا إذا حركته أيد معروفة وقوية ومنظمة. لقد ربت غالبية الحركات الثورية والديموقراطية أطرها ومناضليها ومثقفيها والمتعاطفين معها على مبادئ التضحية بالغالي والنفيس في سبيل تحقيق مجتمع عادل تنمحي منه آفات الرشوة والسرقة والاغتناء غير المشروع والاستغلال والفساد الأخلاقي. إلا أن التجربة علمتنا كيف سقط العديد من الأطر الثورية والمعارضة في حب المال والجاه والنساء والعقارات، حتى أصبحت مقولة «يسار الكافيار» منتشرة ودالة على نجاح مخططات الاحتواء وفشل أفكار وأيديولوجية الداعين إلى مجتمع الحقوق والمساواة والعدالة. هناك في كل زمان ومكان الطالح والصالح، الجشع والقنوع، القوي والضعيف، لكن قدرة الصمود في مواجهة الإغراءات وتحصين النفس ممكنة وعلامة من علامات النجاح. هي بداية البدايات، في محاربة الفساد وتأكيد أنها ليست آفة مستعصية بل يمكن مواجهتها والحد منها. هي بداية المعركة للحد من الاستبداد، لأن الاستبداد يتغذى من الفساد والفساد يقوي الاستبداد. هي المعركة الحقيقية الأولى، فهل سينجح الإسلاميون المغربيون في ما فشل فيه الآخرون، «يساريو الكافيار»؟ هل سيخرجون من هذه التجربة كما دخلوها؟ وهل ستحميهم مرجعيتهم من السقوط في المحظور؟