فتّش عن عدد الأحكام القطعية التي لا تقبل النقاش في جعبتك، سترى أن الكثير مما كنت تراه قطعياً تحوّل إلى متغيّر متحرّك قابل للنقاش وربما الدحض، ذلك أن مستوى تحرّك الواقع وتغيّر شكله، يؤثر على معايير الأحكام التي يتبناها العقل ويبني عليها قناعاته، لهذا السبب نرى أن كثيراً من الرحّالة والمسافرين أكثر انفتاحاً من غيرهم، وأضرب بهذا مثلاً بالشيخ محمد بن ناصر العبودي، فهو شيخ من الشيوخ الأوائل وارتبط تاريخه بتأسيس الكثير من المؤسسات والمحاضن الدينية، كالمعاهد العلمية، والجامعة الإسلامية، ورابطة العالم الإسلامي، وهيئة كبار العلماء، لكنه شيخ مختلف. شيخ مختلف بطريقة إيجابية، فهو متصالح مع عصره، من أوائل الشيوخ النجديين الذين أرّخوا لحياتهم عبر الصور، استخدم الكاميرا منذ نصف قرن، وهو يجوب البلدان طولاً وعرضاً، استطاع أن يتحرر من قيود كثيرة لم ينزل الله بها من سلطان، والدكتور محمد المشوّح وصفه ب «الشيخ المستنير» في كتابه عنه، لقد كان يخالط المجتمعات والطوائف بأنواعها، بعيداً عن روح التعصب التي صبغت أدوات الفقه في ذلك العصر، حرث بقدميه قارات الأرض؛ بيده ورقة وقلم وعلى كتفه «الكاميرا» يصوّر ويكتب ويوثّق ومن سمع حديثه عن تلك الحضارات والشعوب على الإذاعة السعودية سينبهر بكمية المعلومات الزاخرة التي يتحدث عنها بكل استحضار وهو في الثمانين من عمره. في هذه الفترة أقلّب بين فترةٍ وأخرى كتاب «قصة الحضارة» ل «وول ديورانت»، الكتاب الموسوعي الذيّ يؤرّخ للأديان والحضارات والشعوب، وهو كتاب أسطوري كان مشروع حياته وعمل عليه لفترةٍ طويلة، وأثناء تقليبي للكتاب وتصفحه، طرأت على بالي فكرة، لماذا اختفى عنا هذا الكتاب؟ لو قُررت أجزاء من هذا الكتاب بمجلداته الضخمة فسيطالع الطلاب سيرورة اجتاحت البشرية على مدى تاريخها، وسيقرؤون عن الشعوب الأخرى وقناعاتها، حينها تهتزّ مركزية الذات التي هيمنت، خصوصاً أن المناهج والأساتذة والدكاترة يعلّمون الطلاب أنهم هم مركز التاريخ، وأن كل شعوب الأرض مجرد هوامش لا قيمة لها، ثم نسأل بعدها ونبحث عن أسباب نموّ التطرف والتعصب. أحسب أن مسألة التطرف والإرهاب لا يمكن بحثها عبر العبارات الرمادية الناعمة، وإنما تحتاج إلى هزّات فكرية موازية لهزّات الإرهاب الغاشمة، تدحض حصون الفكر المتطرف عبر نشر الثقافات الأخرى، لغرض ضرب «تضخّم الحقيقة وتورمها»، الذي حدث أن بعض برامج النصح في السجون أو في الدردشة تقوم بعملية تسمين للحقيقة ولكن بطريقة أخرى، ما نحتاج إليه اليوم أن نقوم بعملية تنظيف جماعية، تصبح معالجة التطرف مدروسة تعتمد على خطط منظّمة تشمل كل مرافق البلد منذ المؤسسات الدينية إلى الحدائق، هذا هو العمل المثمر. إن فيروس الإرهاب إن أهملته تضخّم، ولعل المصل المكافح للإرهاب، هو فيروس التفكير، أن تفكّر ثم تشك ثم تغير قناعاتك بين فترة وأخرى، وكل مجتمع يفتقر إلى التفكير والشك فهو مجتمع قابل للانفجار والتشظّي. إن الحقائق ليست أجراماً مجرّدة يسهل القبض عليها وتلمّسها، وإنما هي نتاج نشاط الفكر والعقل حينما يستثمر ما قرأ وشاهد من أفكار وقناعات وصور، ومشاعر واعية ولا واعية، تكوّن تلك العوامل حجم الحقيقة، وبحسب نيتشه فإن «الحقيقة والخطأ هما الحقيقة، والخطأ كما تراهما من وجهة نظر معينة»، فلنمنح هؤلاء المتضخمين الذين أثقلت كاهلهم أحجام الحقائق المتورّمة أننا مجرّد فئة من الشعوب التي تشترك في سكنى هذا الكوكب، وليس من حق أحد إلغاء أو قتل أحد لمجرد الاختلاف معه. [email protected]