لم يكتف رئيس الحكومة العراقية في مؤتمره الصحافي الأخير (1/12/2012) بما توفر له الأوضاع العراقية قوله، وقفز إلى منصة سابقيه من الحكام العرب والعراقيين وسارع إلى خيار قديم يلوّح دائماً بحرب قومية - أهلية ان تم تحريك السائد. لقد أثبت المالكي أن تصريحات مستشاريه في ما خص المشهد العراقي في السنوات السابقة وتأكيدهم قدرة رجل «دولة القانون» الأول على استعادة دولة المركز، لم تكن ضمنية فحسب، بل كانت جوهر سياسة الحكومة الحالية. ثلاثة أشياء مهمة وخطيرة في كلام نوري المالكي أغرقت الراهن العراقي في «العتمة» إن جاز الاستخدام، وهي الحديث عن حرب كردية-عربية إذ اشار في شكل صريح الى أن الازمة بين الحكومة المركزية في بغداد وحكومة اقليم كردستان تتحول الى «صراع قومي»، مؤكداً عدم امكان حدوث تدخل عسكري اميركي في هذه المسألة. كما هاجم الرئيس جلال الطالباني الذي طالما اعتبر عباءة التوافق بين القوى المتصارعة في البلاد. أما النقطة الثالثة التي أثارها، فتتعلق بصفقة الأسلحة الروسية والحديث عن فساد على مستوى مكتب رئيس الحكومة في تلك الصفقة، ولذلك هدد البرلمان العراقي بإجراءات قاسية ضده إن تمت محاولة سحب الثقة منه. يمكن القول من خلال تلك التصريحات «الانتحارية» إن المالكي ترك نفسه في العراء، وأعلن حرباً ليس ضد إقليم كردستان فحسب، بل ضد الجميع، ذاك انه وضع نفسه قاضياً وشرطياً ونطق بأحكام لم يسبق ان نطق بها حتى صدام حسين حيث لم يشر طيلة السنوات التي حكم فيها العراق بالنار والحديد إلى إمكانية حدوث حرب قومية بين الكرد والعرب في العراق. سأل ستران عبدالله رئيس تحرير اليومية الكردية «كوردستاني نوي» التي تصدر في السليمانية في افتتاحية الصحيفة يوم 3/12/2012 عن هوية الجيش العراقي والقوات التي شكلها المالكي تحت اسم «قوات دجلة» في المناطق المتنازع عليها - كركوك تحديداً - وهل يخوض حرباً يريدها «دولة الرئيس» ان تكون قومية ضد إقليم كردستان؟ انه سؤال يضع جميع العراقيين أمام سياسات يرسمها «مكتب المالكي» حول شؤون الجيش والأمن من دون العودة إلى الوزارات المعنية بتلك الأمور، وهي لا تختلف كثيراً عما كان يرسمه مكتب صدام حسين من السياسات في سبعينات القرن المنصرم تحت إسم مكتب (نائب الرئيس)، إذ كان يتم فيه توقيع جميع الصفقات العسكرية والأمنية، وكانت السياسة فيه مغيبة في طبيعة الحال. هذا ما يحدث اليوم في مكتب «دولة الرئيس» إذ يتم التوقيع فيه على صفقة الأسلحة مع روسيا وعبور الذخيرة الحربية إلى سورية عبر البلاد وتشكيل قوات عسكرية خاصة تحت إمرته - قوات دجلة نموذجاً - وإقالة مدير البنك المركزي وتهديد لجنة النزاهة في البرلمان في حال إصرارها على التحقق من الصفقة الروسية. فوق كل ذلك، تهديد البرلمان بإجراءات لم يسبق لها «مثيل». قد يحدث اي تغيير في المواقف وتنتهي الأزمة السياسية ويعود المشهد إلى الركود من خلال حلول إرضائية، إنما تبقى كفحم متكوم تحت الأرض طالما بقيت شخصنة الحكم والاستفراد به ميزة السياسة الرئيسة في البلاد. إلى جانب كل ذلك تبقى الأوضاع الخدمية والأمنية في العاصمة بغداد، على رغم التعتيم عليها وجعلها في الزوايا المنسية، في صدارة الأخبار غير السارّة في البلاد. ففي تقرير أصدرته مؤسسة «ميرسر» لتصنيف أفضل نوعية حياة في مختلف مدن العالم لعام 2012، جاءت بغداد في المرتبة الأخيرة، أي انها من أسوأ خمس مدن في العالم، وهي بانغي في أفريقيا وبورت أو برانس في هاييتي ونجامينا في تشاد والخرطوم في السودان. وفي اليوم نفسه الذي صدر فيه هذا التقرير، نشر خبر في عاصمة التعاسة بغداد عن قتل خمسة أفراد من عائلة واحدة بالسكاكين. قصارى القول، استلزمت سياسات «نائب الرئيس» في سبعينات القرن المنصرم فزّاعات خارجية متمثلة بالإمبريالية والصهيونية والمجوسية لشن الحرب على المجتمع العراقي نتيجة الاستفحال الأيديولوجي القومي، فيما يستلزم مكتب دولة الرئيس فزّاعات داخلية للهروب من استفحال التعاسة، ولم يجد منها سوى فزّاعة الحرب القومية.