تبرز بين الحين والآخر مبادرات على مستوى الدول و/ أو المنظمات الإقليمية والدولية، تدعو إلى ضرورة تشجيع الصناعات الصغيرة والمتوسطة باعتبارها مصدراً أساساً لخلق فرص عمل خصوصاً بين الشباب، وكذلك كونها أداة أساسية لمحاربة الفقر الذي تسعى الأممالمتحدة إلى مكافحته من خلال تقليص عدد الفقراء في العالم ضمن أهداف الألفية الثانية. وفي حزيران (يونيو) 2010 وضع وزراء المال وحكام البنوك المركزية في مجموعة العشرين، مبادئ ما أصبح يعرف «بالتمويل الشامل»، معلنين التزامهم توسيع فرص حصول الفقراء على التمويل وتشمل المشاريع الصغيرة والمتوسطة، معتبرة بذلك أن المشكلة الأساسية التي تعاني منها الأخيرة هي ضعف مصادر تمويل أنشطتها، أي تردد المصارف والمؤسسات المالية التقليدية في توفير التمويل اللازم للبدء بإنشاء هذه الصناعات أو توسيع ما هو موجود منها وتحسينه. ونجحت دول نامية عدة مثل الصين وتركيا وماليزيا وغيرها، في تأسيس قطاع للصناعات الصغيرة والمتوسطة. وانتعش قطاع التصدير فيها وأصبح مصدراً لتوفير فرص عمل حقيقية ومستدامة، بينما لم تنجح دول نامية أخرى في خلق تجربة ناجحة في هذا المجال. والسؤال الذي يجب طرحه هنا هو: هل يمكن اعتبار صعوبة الحصول على التمويل الكافي السبب الحقيقي لعدم نشوء صناعات صغيرة ومتوسطة ناجحة ومستدامة؟ أم إن مشكلة التمويل تستخدم لتبرير كل عوامل القصور الأخرى؟ قبل التمويل، على الدولة أن تبدأ بتبني استراتيجية واضحة المعالم والأهداف والآليات تلزم الحكومة بإيجاد قطاع للصناعات الصغيرة والمتوسطة وتطويره، يكون منتجاً وقادراً على خلق فرص عمل حقيقية ومستدامة خصوصاً بين الشباب. فعلى رغم التصريحات التي تطلق في بداية خطط التنمية والتي تفيد بأن الدولة تسعى إلى تشجيع الصناعات الصغيرة والمتوسطة، إلا أن السياسات الحكومية المختلفة التي تتبناها خلال فترة الخطة، بصرف النظر عن نوع نظامها الاقتصادي، هي غير مشجعة إن لم نقل مناهضة لنشوء هذه الصناعات وتطورها. وفي طليعة القصور الذي تعاني منه هذه الخطط، غياب الإنماء المتوازن جغرافياً بحيث تستأثر العاصمة بالحجم الأكبر من جهود التنمية، وكذلك التركيز على نشاطات محددة سريعة المردود في مقابل إهمال نشاطات أخرى. وعندما لا يكون الاهتمام بتطوير الصناعات الصغيرة والمتوسطة في صلب أهداف خطة التنمية وطموحاتها، لا يعود الكلام عن تطويرها إلا نوعاً من الدعاية للاستهلاك الشعبي. وفي هذه الحالة لا يكون التمويل هو المشكلة الحقيقية أمام نشوء هذا القطاع وتطويره، إنما عدم وجود القدرة على إيجاد المناخ المناسب لنشأتها وتطورها واستدامتها. لذلك، تنشأ في هذه الدول في الغالب صناعات صغيرة تحمل بذور فشلها مع ميلادها لأنها لا تمتلك مقومات النجاح. فهي لا تتكامل في إنتاجها ولا في تسويقها مع أحد (كما هي الحال في الدول التي خاضت تجارب ناجحة في هذا الصدد)، كما لم تؤسس بموجب دراسات جدوى فعلية يتم من خلالها تقويم المحيط الذي تنشأ فيه، بخاصة الحاجة إلى وجودها وعدد الصناعات المماثلة والموجودة فعلاً والتي تعتبر منافسة لها، وفرص التسويق المتاحة. لذلك، عندما تحصل هذه الصناعة على التمويل اللازم من خلال الاقتراض من المصارف، فإنها لا تلبث أن تفشل وينتهي صاحبها أو أصحابها إلى السجن لعدم قدرتهم على إعادة القرض وهي حالة معروفة وموثقة في الكثير من الدول النامية التي تلعب فيها العلاقات الشخصية دوراً مهماً في منح القروض المصرفية. وفي دول أخرى تمارس سياسات نقدية محافظة ومتشددة لا تلتزم التوزيع الجغرافي للقروض ولا التوزيع وفق الأنشطة. كما أن شروط الإقراض صعبة ولا يستطيع الاستفادة منها إلا الشركات الكبيرة. أما السياسات التجاربة فهي الأخرى تحابي في قضايا الاستيراد والتخليص الجمركي وتسهيل المعاملات التجارية، الشركات الكبيرة ذات القدرات المالية العالية بينما لا تعتبر الشركات الصغيرة والمتوسطة مؤهلة لمعاملة تفضيلية في هذا المجال. إن حل معضلة الشركات الصغيرة والمتوسطة في الدول النامية تبدأ بتبني الدولة استراتيجية واضحة المعالم والأهداف لإنشاء صناعات صغيرة ومتوسطة منتجة ومستدامة. ثم تتبنى السياسات التي تضع هذه الاستراتيجية موضع التنفيذ. ويأتي في مقدم هذه السياسات تدريب الأفراد خصوصاً الشباب ضمن برامج متكاملة عن كيفية البدء بمشروع صغير أو متوسط توجد حاجة فعلية له، ويمكن استمراره من طريق تكامله مع مشاريع قائمة أو يمكن إنشاؤها، ومجالات التسويق المتاحة داخلياً وخارجياً وأنواع المهارات المطلوبة وحجم التمويل والتسهيلات التجارية المطلوبة. ثم يُعمد إلى تبني السياسات التي تكفل نجاح هذه المشاريع واستدامتها وتشمل سياسات الإنتاج والتمويل وإجراءات تسهيل التجارة التي تستفيد منها الشركات الصغيرة والمتوسطة. إذاً، فالتمويل لا يمثل إلا حلقة في سلسلة السياسات التي يمكن أن تجعل من الصناعات الصغيرة والمتوسطة قطاعاً ناجحاً ومستداماً وخالقاً فرصَ العمل المستدامة في الدول النامية. * كاتبة مختصة في الشؤون الاقتصادية - بيروت