الهلال «المنقوص» يقصى الاتحاد ويحجز مقعداً في نهائي «أغلى الكؤوس»    سمو محافظ الخرج يكرم الجهات المشاركة في حفل الأهالي لزيارة سمو أمير المنطقة    سمو أمير منطقة الباحة يستقبل مدير شرطة المنطقة ويتسلم التقرير السنوي لعام 2023    الأمان في دار سلمان    المملكة ترشد 8 ملايين م3 من المياه    مشروع سياحي استثنائي ب"جبل خيرة"    أمير منطقة الباحة يشهد اتفاقية تعاون بين تجمع الباحة الصحي والجمعية السعودية الخيرية لمرضى ( كبدك )    الهلال يتفوق على الاتحاد ويتأهل لنهائي كأس الملك    الدراسة عن بُعد بالرياض والقصيم بسبب الأمطار    الوسط الثقافي والعلمي يُفجع برحيل د. عبدالله المعطاني    من أحلام «السنافر».. مانجا تعزز دورها في صناعة الألعاب    خبير قانون دولي ل«عكاظ»: أدلة قوية لإدانة نتنياهو أمام «الجنايات الدولية»    مدرب بلجيكا يؤكد غياب تيبو كورتوا عن يورو 2024    أمريكا تطلب وقف إمداد الأطراف المتحاربة في السودان بالأسلحة    نمر يثير الذعر بمطار هندي    تطوير العمل الإسعافي ب4 مناطق    فيصل بن فرحان ووزيرة خارجية المكسيك يناقشان آخر التطورات في قطاع غزة ومحيطها    موسم الرياض يطرح تذاكر نزال الملاكمة العالمي five-versus-five    مهتمون يشيدون ببرنامج الأمير سلطان لدعم اللغة العربية في اليونيسكو    41 مليون عملية إلكترونية لخدمة مستفيدي الجوازات    محافظ الريث يستقبل مفوض الإفتاء الشيخ محمد شامي شيبة    عسيري: مناهضو اللقاحات لن يتوقفوا.. و«أسترازينيكا» غير مخيف    «جامعة نايف العربية» تفتتح ورشة العمل الإقليمية لبناء القدرات حول مكافحة تمويل الإرهاب.. في الرياض    أغلى 6 لاعبين في الكلاسيكو    دوريات «المجاهدين» بجدة تقبض على شخص لترويجه مادة الحشيش المخدر    بطولة عايض تبرهن «الخوف غير موجود في قاموس السعودي»    ميتروفيتش ومالكوم يقودان تشكيلة الهلال ضد الاتحاد بنصف نهائي كأس الملك    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل الرئيس التنفيذي لجودة الحياه    مساعد وزير الدفاع يلتقي وزير الدولة للشؤون الخارجية والعالمية في إسبانيا    نائب أمير مكة يطلع على الاستعدادات المبكرة لحج 1445    وزير الصناعة والثروة المعدنية يرعى أسبوع الرياض الدولي للصناعة 2024    اجتماع الرياض: إنهاء حرب غزة.. والتأكيد على حل الدولتين    مفوض الإفتاء بالمدينة: التعصب القبلي من أسباب اختلال الأمن    مجلس الوزراء يجدد حرص المملكة على نشر الأمن والسلم في الشرق الأوسط والعالم    3000 ساعة تطوعية بجمعية الصم وضعاف السمع    الحقيل يجتمع برئيس رابطة المقاولين الدولية الصينية    شؤون الأسرة ونبراس يوقعان مذكرة تفاهم    مدير هيئة الأمر بالمعروف بمنطقة نجران يزور فرع الشؤون الإسلامية بالمنطقة    فهد بن سلطان يطلع على الاستراتيجية الوطنية للشباب    وزير الطاقة: لا للتضحية بأمن الطاقة لصالح المناخ    الصحة: تعافي معظم مصابي التسمم الغذائي    ارتفاع عدد الشهداء الفلسطينيين جراء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة إلى 34.535 شهيدًا    فيصل السابق يتخرج من جامعة الفيصل بدرجة البكالوريوس بمرتبة الشرف الثانية    أمير الرياض يستقبل ممثل الجامعات السعودية في منظمة سيجما الدولية    إطلاق هاتف Infinix GT 20 Pro الرائد    الفرص مهيأة للأمطار    الذهب يتراجع 4.6 % من قمته التاريخية    حرب غزة تهيمن على حوارات منتدى الرياض    وهَم التفرُّد    برؤية 2030 .. الإنجازات متسارعة    للمرة الثانية على التوالي.. سيدات النصر يتوجن بلقب الدوري السعودي    لوحة فنية بصرية    مسابقة لمربى البرتقال في بريطانيا    بقايا بشرية ملفوفة بأوراق تغليف    وسائل التواصل تؤثر على التخلص من الاكتئاب    أعراض التسمم السجقي    زرقاء اليمامة.. مارد المسرح السعودي    «عقبال» المساجد !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لئلا يتحول إسقاط نظام صدام حسين إلى تفكك نهائي للدولة والمجتمع
نشر في الحياة يوم 20 - 07 - 2009

تشاء الظروف أن يتموضع العراق اليوم تحت الأضواء العالمية والإقليمية والوطنية على حد سواء. فكما ان أرضه احتوت مفاتيح فهم تاريخ الحضارة البشرية برمتها، يبدو ان حاضر العراق ومستقبله يحمل اليوم مفاتيح أساسية لفهم العالم المعاصر، واستشراف صورة المستقبل. ويتم ذلك، للأسف، من خلال مخاض من الآلام والصراعات التي يدفع الناس ثمنها أولاً وأخيراً.
في الطور الأخير لتاريخ العراق المعاصر، في فتراته الثلاث قبل حرب الخليج الأولى والحصار (1990)، وبين هذا التاريخ وسقوط النظام بقوة التدخل الخارجي عام 2003، ثم في المرحلة الممتدة منذ عام 2003 حتى اليوم، فإننا سنجد ان هذه الفترات الثلاث تطرح أسئلة مشتركة رغم اختلاف الأطراف الفاعلة او تبدل مواقعها. وتتمحور هذه الأسئلة حول العلاقات المتبادلة بين التنمية والحرية والأمن والديمقراطية والفقر والحقوق المدنية والاجتماعية، في أبعادها الداخلية والخارجية، وفي تجلياتها وآثارها المباشرة والمتوسطة والبعيدة المدى على حد سواء.
هذا هو سؤال التنمية الجوهري في العراق، وهو الإشكالية التنموية الكبرى التي يطرحها العراق المعاصر على الفكر التنموي العالمي بأسره.
ويتفرع عن هذه الإشكالية الأم جملة من الأسئلة، منها:
- علاقة التنمية بالديموقراطية، وكيف نقرأ «تحسن مؤشرات التنمية البشرية» في ظل الديكتاتورية قبل الحصار.
- علاقة الأمن بقمع السلطة، وما أدت اليه في التجربة العراقية السابقة من مقايضة الامن الفردي المباشر بالحقوق السياسية وحقوق الجماعات والأقليات وأمنها.
- العلاقة بين حقوق الدولة وحقوق المواطنين، والتأثيرات العميقة لفلسفة إعلاء شأن الحقوق القومية للدولة وأمنها ومصالحها بصفتها كياناً مستقلاً يفترض فيه ان يكون «قوياً» في مواجهات كيانات دولية خارجية، وتذويب حقوق المواطنين وحقهم في المشاركة والنقد، بل حقهم في الوجود خارج أيديولوجيا الدولة الكلية.
- حدود التدخل الخارجي وجدواه في مرحلة الحصار، وتحديد الرابحين والخاسرين ومن الذي تعرض للحصار وتضرر من آثاره أكثر: النظام أم الشعب.
- مسألة استخدام القوة المطلقة الجبروت من أجل «أهداف إنسانية»، وهل انتفى تماماً أي دور للأخلاق والقيم في العلاقات الدولية.
- مسألة هل يمكن أن تكون هناك ديمقراطية في ظل الاحتلال (2003) أو بعد تحوله إلى وصاية دولية بقرار من الأمم المتحدة.
- مسألة تعارض إمساك الجهات الدولية بتفاصيل القرار السياسي والاقتصادي في العراق مع مفهوم «الحق في التنمية» في بعديه السياسي والاقتصادي (حق تقرير المصير وحق إدارة الموارد الوطنية).
- هل تحسن وضع المرأة في العراق، وكيف نفسر التناقض بين تحقيق مشاركة كبيرة للمرأة هي الأعلى في البرلمانات العربية، مصحوبة مع تراجع في مجالات التشريع والممارسات الثقافية والاجتماعية؟
- ما هو توصيف ما جرى عام 2003 وما بعده: هل هو انهيار النظام؟ هل هو تفكيك للدولة؟ هل هو تفكك المجتمع؟
تقرير التنمية البشرية وأمن الإنسان في العراق، يتناول جوانب أساسية من هذه الأسئلة. وهو يشكل مساهمة عراقية، متواضعة ولكن أصيلة، في إضاءة هذه الأبعاد البالغة الأهمية في الفكر التنموي المعاصر. إلا ان مساهمة العراقيين لا تقف عند هذا الحد، لا بل ان مساهمتهم الأكثر أهمية تكمن في اختيارهم الحياة على رغم اجتياح الموت والفقر مساحات وجودهم ومصادرة قرارهم الفردي والجماعي (...).
ترافق التحول من التركيز على الأمن العسكري وأمن الدولة، الى أمن الإنسان، مع انتهاء الحرب الباردة وانهيار نظام الثنائية القطبية. لذلك، فإن موجة الكتابات المتفائلة في النصف الأول من التسعينات، ركزت على استخدام الوفر المحقق من تراجع الإنفاق العسكري في التنمية، والتحول الى الديموقرطية، وتطوير انظمة الحكم، واندفاع تحرير التجارة...الخ، وغيرها من المسائل، بما فيها التحول الى المفهوم الجديد لأمن الإنسان، حيث أعطيت الأهمية والأولوية للتهديدات الاقتصادية والاجتماعية على التهديدات العسكرية. ولذلك سببان:
الأول هو ان هذه الجوانب كانت مهملة في السابق في إطار مفهوم الأمن الضيق.
والثاني هو التوقع التفاؤلي بأن الحروب والنزاعات والتهديدات المباشرة للأمن الجسدي للشعوب والمواطنين بفعل الحروب والنزاعات ستصبح اقل أهمية مع انتهاء الحرب الباردة.
لم تتوقف النزاعات والحروب خلال التسعينات، ولكن، كان هناك تصور بأنها ستكون محدودة وذات طابع داخلي وتحت السيطرة. لكن بداية القرن الحادي والعشرين حملت معها تطورات دراماتيكية، خصوصاً بعد اعتداءات 11 أيلول (سبتمبر) 2001، وما تلاها من حرب على أفغانستان والعراق. (وكان سبق ذلك الحرب على يوغوسلافيا السابقة عام 1999، التي شكلت أول حرب يخوضها ائتلاف دول عالمي ضد دولة عضو في الأمم المتحدة).
الوصف التفاؤلي لآثار انتهاء الحرب الباردة لم يكن دقيقاً في جانبين:
- الأول يتعلق بمداه الزمني، اذ شكلت اعتداءات 11 أيلول عودة مدوية لمنطق استخدام القوة في العلاقات الدولية، ونشوء صيغة جديدة من صيغ الحروب العالمية بين أطراف غير متكافئة، والانتشار الواسع النطاق للإرهاب.
- اما الجانب الثاني فهو انه، حتى في حال انطباق هذا الوصف التفاؤلي على المشهد العالمي بشكل عام، فإنه قد لا ينطبق بالضرورة على كل المناطق بالشكل نفسه. وفي ما يتعلق بالمنطقة العربية، فإن تحولات التسعينات فاقمت النزاع في اكثر من بلد عربي، وجعلت إحساس شعوب هذه البلدان وهذه المنطقة اكثر حدة بالقهر مقارنة بمناطق العالم الأخرى.
فقد تركزت الحروب في هذه المنطقة او على تخومها، ولا تزال، بدءاً من فلسطين المحتلة منذ 1948، مروراً بالصومال، والسودان، ولبنان، الجزائر، واليمن، وصولاً الى العراق (من دون أن ننسى أفغانستان المجاورة).
لكل هذه الأسباب، العامة والخاصة، فإن مفهوم أمن الإنسان يكتسب في الحالة العراقية كامل معناه، وتتساوى فيه من حيث الأهمية الأبعاد العسكرية – الأمنية، والأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والبيئية. بالنسبة للعراقيين، يبدو التحرر من الخوف والتهديد الجسدي بالأهمية نفسها للتحرر من الحاجة والتهديد الاقتصادي والاجتماعي، بل إن الأمن بتعريفه التقليدي يبقى صالحاً وضرورياً جداً في وضع العراق الراهن، الذي يشكل في الوقت نفسه مثالاً صارخاً على الترابط العضوي بين الأمن العسكري والأمن الاقتصادي والاجتماعي في إطار مفهوم أمن الإنسان. وهو ما أكدته نتائج الاستطلاع والأبحاث التي جرت في إطار إعداد هذا التقرير.
قام التقرير الوطني العراقي بحساب دليل التنمية البشرية والأدلة المكملة كمقياس إضافي الى الأدلة الأخرى التي تستخدم وطنياً في تحديد الأولويات المناطقية. وقد تضمن التقرير نفسه احتساب دليل أمن الإنسان في العراق على أساس المحافظات، كما سبق للجهات الوطنية (وزارة التخطيط والجهاز المركزي للمعلومات) ان صمما دليلاً مركباً لأحوال المعيشة اكثر صلاحية لقياس التفاوتات المناطقية، أعدت على أساسه خارطة الحرمان ومستويات المعيشة في العراق، استناداً إلى بيانات 2004.
ان تعدد الأدلة واستخدامها بشكل تكاملي يسمح لصانعي القرار بتكوين صورة اكثر دقة عن الوضع التفصيلي في البلاد، ويسمح بتحليل التقاطعات المختلفة، وتحديد الأولويات على نحو اكثر صوابية. وبشكل عام، بينت دراسة خريطة الحرمان ومستويات المعيشة في العراق وجود تفاوتات مناطقية هامة بين المحافظات (كما بين المدينة والريف)، كما بينت وجود مسارات مختلفة للمناطق الأربعة الكبرى ( كردستان ، الوسط، بغداد، الجنوب) على امتداد الفترات الزمنية الثلاث التي استخدمت للمقارنة الزمنية (قبل 1990، الحصار، بعد 2003)، حيث ان المناطق الأكثر حرماناً اختلفت بين مرحلة وأخرى، ربطاً بالتحولات السياسية (إقليم كردستان والجنوب وضعهما اصعب قبل 1990، والجنوب استمر وضعه صعباً خلال الحصار)؛ او ربطاً بالأوضاع الأمنية ( إقليم كردستان أكثر أمناً وأكثر ازدهاراً من الناحية الاقتصادية بعد 2003، ولكن لا يزال مع الجنوب يعاني من آثار الحرمان المتراكم، خصوصاً في الأرياف. أما بغداد والوسط فهما كانا في وضع افضل في المراحل السابقة في حين أن الوضع الأمني فيهما حالياً هو الأكثر توتراً). اما دليل التنمية البشرية (والأدلة الفرعية الخاصة بالمحافظات)، فهي تؤكد واقعة التفاوت المناطقي بين المحافظات على نحو خاص.
قياس أمن الإنسان في العراق
ابتكر التقرير العراقي إطاراً تحليلياً تتكامل فيه التنمية البشرية، مع أمن الإنسان وحقوق الإنسان، مستنداً الى فرضية أنه بالإمكان تقييم فقدان الأمن من خلال مؤشرات كمية ونوعية تقيس التهديدات والمخاطر والمخاوف الناجمة عن العنف المباشر وغير المباشر.
ولتطبيق هذه المنهجية تم تنفيذ استطلاع للرأي بواسطة الجهاز المركزي للإحصاء وتكنولوجيا المعلومات، بهدف الوقوف على آراء شرائح المجتمع المختلفة حول العوامل المهددة لأمن الناس وآثار فقدان الأمن وتشخيص عوامل تحقيق الأمن من وجهة نظرهم. شمل الاستطلاع عينة عشوائية من 3375 أسرة في المحافظات الخمس عشرة لوسط وجنوب العراق. ونفذ المسح ميدانياً خلال المدة (20 شباط/ فبراير - 6 آذار/ مارس 2007)، واستثني إقليم كردستان لتمتعه بالاستقرار النسبي.
وأمكن من خلال هذه المنهجية المركبة للقياس استخلاص قيم ثلاثة أدلة لأمن الإنسان تجمع أغلب قيم أمن الإنسان كما حددها تقرير التنمية البشرية العالمي لعام 1994، وهي:
- الدليل الأول: (العوامل المهددة لأمن الإنسان)، ويضم مجموعة التهديدات والمخاطر والمخاوف.
- الدليل الثاني: (الآثار المترتبة على فقدان الأمن)، ويعبر عن ضياع فرص التمتع بخيارات الناس التي تتيحها لهم قدراتهم الإنسانية الواسعة، والتي هي في الوقت نفسه انتهاك ومصادرة لحقوقهم من وجهة نظر تحليل حقوق الإنسان (الجيل الأول والثاني من الحقوق).
- الدليل الثالث: (عوامل تحقيق أمن الإنسان) ويجمع بين ضمان الحقوق الأساسية، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وبين ممارسة تلك الحقوق في إطار الحكم الصالح الذي يسمح بممارستها عملياً.
وتم تحديد هذه المؤشرات على هذا النحو، بسبب طابعها العملي ولكونها تصلح للتوظيف في صياغة السياسات الكفيلة بتحقيق الأمن وتعزيز التنمية البشرية. وفضل التقرير عدم تصميم دليل مدمج من الأدلة الثلاثة.
واستخلص التقرير أنه ليس ثمة تنمية من دون بيئة مؤاتية تتميز بالاستقرار وتخضع لقوانين نافذة وعادلة، وحكم صالح، وفرص متساوية، ومشاركة حقيقية، تحقق الأمن الذي يصبو اليه الناس. وبينت نتائج استطلاع الرأي حول أمن الإنسان مدى وعي الناس بالعوامل التي تحقق أمنهم في إطار ضمان الحقوق الأساسية والاقتصادية والاجتماعية وإرساء الحكم الصالح. وبالنظر الى الأهمية النسبية لعوامل تحقيق الأمن يتضح ان إرساء الحكم الصالح يحظى بأهمية اكبر نسبياً من بين العوامل الأخرى ويعكس هذا وجهة نظر الناس في أهمية دور الدولة والمؤسسات في ضمان أمن الناس. هذا مع العلم، ان مضمون الحكم الصالح حسب رأي الناس، لا يتطابق بالضرورة مع ما يدخل ضمن هذا المفهوم حسب الأدبيات التنموية، بقدر ما هو يعبر عن الوظائف الأساسية للدولة في ضمان الأمن الجسدي، وتحملها مسؤولية رعاية مواطنيها على كافة المستويات، لاسيما فرض القانون.
1- في ما يتعلق بضمان الحقوق السياسية والأمن الجسدي:
أهم الوسائل لضمان الحق في الأمن الشخصي هي القضاء على الجريمة والإرهاب، إيقاف عمليات التهجير القسري، القضاء على العنف الطائفي، حرية العبادة وممارسة الطقوس، والقضاء على العنف او التهميش بسبب الجنس. وهناك ما يشبه الإجماع الذي يقترب من 100 في المئة بالنسبة للعوامل الثلاثة الأولى، وهي شديدة الترابط فيما بينها.
2- في ما يتعلق بضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية:
إن توفير نظام البطاقة التموينية، توفير الخدمات، تأمين فرص التعليم، توفير فرص عمل مناسبة، تأمين دخل مناسب، توفير مسكن مناسب، تأمين العلاج والوقاية، توفير نظام لشبكة الحماية الاجتماعية، إعادة العمل بالتعليم الإلزامي، وتقوية دور المؤسسة الدينية، هي من أهم الوسائل لضمان الأمن الاجتماعي والاقتصادي وبترتيب يتفاوت حسب أهمية كل موضوع من وجهة نظر الأفراد، اذ يحظى نظام البطاقة التموينية وتوفير فرص العمل وتأمين دخل مناسب بالأهمية القصوى، التي يوليها الناس لأمنهم الاقتصادي.
لقد بينت آراء الناس أن توفير الخدمات يساهم في تحقيق الأمن، وجاء تقييمهم لجهود الحكومة متناسباً مع طبيعة الوضع الأمني ومستوى أداء المؤسسات الخدمية وتفاوته بين المحافظات. فقد بلغت نسبة الذين يتفقون مع الرأي القائل بوجود تحسن في جهود الحكومة في توفير الخدمات 50 في المئة في حين لا يتفق مع ذلك 47.3في المئة، ويظهر التفاوت بشكل حاد في وجهات النظر، حيث تتصدر نينوى، وهي غير المستقرة نسبياً، المحافظات التي لا تتفق مع هذا الرأي بنسبة 99.7 في المئة تليها كركوك وديالى وصلاح الدين. ويلاحظ أن نسبة الذين لا يتفقون مع هذا الرأي في الريف أعلى منها في الحضر. وهذا يعني أن الريف لا يزال أقل حظاً في الحصول على الخدمات.
3- إرساء الحكم الصالح
وجود حكومة قوية، تقوية دور القوانين والمحاكم، واستقرار النظام السياسي، هي مقومات إرساء الحكم الصالح الذي حظي باتفاق وأهمية كبيرة لدى أفراد العينة. وقد أتت إجاباتهم على النحو التالي:
- تحقيق الأمن يتطلب وجود حكومة قوية
بلغت نسبة الأفراد الذين يرون أن هذا العامل مهم جداً 99 في المئة وهي أعلى نسبة مسجلة من بين كل العوامل التي تم استطلاع آراء الأفراد عنها. ولم تسجل أية فروق في وجهات النظر بين الأفراد المستطلعة آراؤهم عند المستويات المختلفة من خصائصهم الديموغرافية والاقتصادية والاجتماعية.
- تقوية دور القوانين والمحاكم
أشار 98 في المئة من الأفراد المشمولين بالاستطلاع إلى أن تقوية القوانين والمحاكم عامل مهم جداً.
- استقرار النظام السياسي
يتفق جميع الأفراد الذين استطلعت آراؤهم تقريباً على إن استقرار النظام السياسي يعد عاملاً مهماً جداً (84.8 في المئة) في الشعور بالأمن والاستقرار، وإن 12 في المئة يرون أنه مهم. ولم تسجل فروق تذكر بين المحافظات (باستثناء محافظة المثنى التي تتصف بالاستقرار الأمني، اذ تنخفض نسبة من يراه مهماً جداً الى 39.2 في المئة ومن يراه مهماً 33.6 في المئة في حين لم يجب ربع الأفراد المشاركين بالاستطلاع عن هذا السؤال). مما يؤكد ومن وجهة نظر الاستطلاع أن أساس الأزمات في البلد يرتبط بالعامل السياسي إلى حد كبير.
وأظهر تحليل تقاطعات المتغيرات الأساسية مع آراء المواطنين العراقيين النقاط الرئيسية الآتية:
1- لم تسجل تفاوتات تذكر، حسب مجمل المتغيرات المعتمدة في التحليل (المحافظات، ريف وحضر، العمر، الجنس، المستوى التعليمي، الوضع في العمل، والوضع الأسرى)، بالنسبة لعدد من الأسئلة. فقد سجل ما يشبه الإجماع الوطني (90 في المئة وما فوق من الإجابات) على عدد من النقاط ذات الطابع السياسي بالدرجة الاولى، وتحديداً ضرورة وجود حكومة قوية، وإيقاف التهجير القسري والعنف الطائفي، وتقوية دور القوانين والمحاكم، ووقف جرائم القتل والإرهاب، ورفع مستوى الدخل، وتوفير فرص العمل، ووقف الفساد.
2- التفاوتات الأكثر أهمية هي بين المحافظات، وترتبط بشكل خاص بالأوضاع الأمنية في المحافظات المختلفة – بشكل عام، وأثناء إجراء الاستطلاع. كما انها تتصل بالمزاج السياسي الجمعي في هذه المحافظة او تلك. وقد بين تحليل النتائج على سبيل المثال، ان محافظات الانبار، ونينوى، والمثنى وصلاح الدين، تسجل بشكل عام درجات رضى سياسي اقل، وتعتبر ان مصدر التهديد الأمني خارجي حصراً بنسبة أعلى من المحافظات الأخرى، وهي اكثر تشاؤماً في ما يتعلق بالمستقبل. وهي محافظات تتسم بدرجة عالية من عدم الاستقرار الأمني خلال تنفيذ الاستطلاع. في المقابل، فإن مواطني محافظتي ميسان وواسط على سبيل المثال، يبدون اكثر اطمئناناً، واقل المحافظات لجهة اعتبار ان المنزل هو المكان الأكثر أمناً.
وتتميز المحافظتان بوضع أمني افضل نسبياً. كما بدت المناطق التي تشهد توتراً امنياً شديداً (الانبار) اقل اهتماماً بمسألة الفساد الإداري والمالي في شبكة الحماية الاجتماعية.
3- في ما يتعلق بالمسائل الأكثر تعقيداً، تتداخل التفاوتات ويبرز أثر متغيرات أخرى. وينطبق ذلك على درجة اهتزاز الثقة بالأحزاب، حيث نرى النسبة ترتفع ارتباطاً بثلاثة أنواع من المتغيرات. الأول، الثقة بالأحزاب مهتزة في المحافظات التي تشهد توتراً أمنياً، وخصوصاً حيث هناك رابط بين الصدامات الأمنية وبين الكيانات السياسية والتنوع العرقي او الاثني في هذه المحافظات. كما ان النسبة أعلى في المناطق الحضرية بشكل محسوس عنها في المناطق الريفية، وبين الرجال مقارنة بالنساء. ويعكس هذا مستويات متفاوتة في الاهتمام السياسي بين الفئات المشار إليها. كما ترتفع نسبة اهتزاز الثقة مع ارتفاع مستوى التعليم.
4- هناك إجماع عند العراقيين جميعاً على مسؤولية الدولة والحكومة والجيش والشرطة في الحفاظ على أمن المواطن وحمايته. ولكن ثمة تفاوتات بالنسبة لأهمية دور المؤسسات الأخرى التي شملها الاستطلاع، لاسيما العشائر، والمؤسسة الدينية، والاعتماد على الذات ضمن جماعات محلية. فالريف اكثر قبولاً لدور العشائر من المدن، وسجل قبولاً اكبر لدور المؤسسة الدينية في النجف.
5- برزت أهمية متغير جنس المستجوب بالنسبة لعدد محدود من المسائل. وتبين تحديداً ان النساء ربات المنازل، والمطلقات، اكثر إحساساً بوجود قمع واستبداد سياسي من الرجال ومن المتوسط الوطني. كما ان المطلقات كن اقل اقتناعاً بأثر نظام البطاقة التموينية في تخفيف أعباء المعيشة على الأسرة بشكل كبير. ولعل ذلك يؤشر الى مشكلات خاصة في نظام البطاقة فيما يتعلق بتغطيتها للمطلقات.
اخيراً، واذا أردنا ايضاً رسم صورة إجمالية للأولويات التي عكسها الاستطلاع، فيمكن إيجازها على النحو الآتي:
- يأتي أولاً كل ما يتصل بالأمن الجسدي، وثمة إجماع على هذه الأولوية بين كل المناطق وحسب كل المتغيرات.
- هناك إجماع أيضاً على أولوية بناء دولة قوية وتعزيز الجيش وأجهزة الأمن. فالعراقيون يتطلعون عموماً الى دولة قوية ضامنة لأمنهم، وهم اقل رغبة في تسليم مصيرهم الى المؤسسات الأخرى.
- بعد الأمن والاستقرار السياسي وبناء الدولة، يأتي موضوع الدخل وتأمين فرص العمل بصفتها أولوية مجمع عليها أيضاً، وبدون اختلافات كبيرة بين العراقيين.
- يليها من حيث الأهمية موضوع الصحة، وهنا تبرز أهمية الصحة اكثر في المحافظات التي تعاني من مشاكل أمنية. وتبدو الصحة شأناً اكثر أهمية من التعليم في نظر العراقيين، واكثر ارتباطاً بظروف عيشهم، ومستوى الدخل، وأمنهم الشخصي.
- من خلال الاستطلاع، بدا الارتباط بين فقدان الأمن وتراجع فرص التعليم اقل قوة مما هو بالنسبة للمجالات الأخرى. ورفضت نسبة كبيرة من الإجابات في المناطق غير المستقرة امنياً الربط بينهما، ولم تعتبر ان الوضع الأمني غير المستقر أدى الى تراجع الالتحاق بالتعليم. ان الوقائع التجريبية بإمكانها ان تدحض هذا الرأي، ولكن ذلك يعبر بشكل واضح عن تراجع الأهمية النسبية للتعليم في قائمة الأولويات، بالنسبة للمستجوبين. وهو امر جدير بالاهتمام.
- أخيراً، الموقف من المرأة وتمكينها، وتقييم وضعها، كان موضوعاً لمواقف متفاوتة حسب متغيرات مركبة، ولكن بشكل عام، فإن نسبة كبيرة جداً من الإجابات كانت مدركة لواقع التمثيل المرتفعة للمرأة في البرلمان، واعتبرته تقدماً على طريق المشاركة.
- وكذلك، تفاوتت المواقف من القانون، والديموقراطية والحكم الصالح، نظراً للطابع المركب لهذه المفاهيم، وتفسيراتها المختلفة حسب المواطنين.
على صانعي القرار في العراق، الانتباه الى ان المواطنين لا يزالون ينظرون الى الدولة بصفتها الفاعل الأكثر أهمية في مجال الأمن خصوصاً، كما في المجالات الأخرى.
التركة الثقيلة
تعترض مسيرة التنمية البشرية تحديات عدة، تبرز كعقبات امام تحقيقها، والوصول الى غايتها الأساس، وأول هذه التحديات التركة الثقيلة التي خلفتها عقود من التاريخ المضطرب بالحروب والعقوبات واستبداد السلطة، وكلها فاقمت من تدهور أوضاع التنمية وتراجع حاد في مؤشراتها، فضلاً عن تقويض أسس النمو المستدام والاستقرار الاجتماعي والسياسي والاقتصادي.
واستمرار حالة انعدام الأمن والاستقرار منذ عام 2003، معطوفاً على الإرث المتراكم من الحقبات السابقة، ترك آثاراً بالغة الخطورة على أمن الإنسان والتنمية البشرية. وقد تجسد ذلك بشكل مباشر في أربعة أنواع من الآثار السلبية هي:
1- انتهاك الحق في الحياة.
2- ضياع خيار اكتساب المعرفة.
3- ضياع خيار العيش الكريم.
4- مصادرة خيار المشاركة.
هذه المكونات الأربعة هي نفسها مكونات التنمية البشرية، وهي جميعها مهددة بسبب استمرار العنف.
ومع الإقرار بالأهمية الاستثنائية لما سببه العنف الحالي من تعويق لمسار التنمية البشرية، فإن المعوقات المؤسسية التي أنتجتها عقود الحروب والحصار تبقى تحدياً أساسياً يستلزم المواجهة بأساليب تقود الى بناء مستقبل يزدهر فيه الاقتصاد ويجنب المزيد من التفتت والنزاعات المهددة لأمن الإنسان ومصادرة حقه في التنمية.
اما التحدي التاريخي الصعب الذي يواجه الشعب العراقي فهو يتمثل في كيفية النجاح في الحؤول دون ان يتحول انعدام الأمن في العراق الى إعدام لفرص التنمية البشرية. وفي كيفية العمل على منع تحول اسقاط النظام وتفككه عام 2003، الى سقوط وتفكك للدولة والمجتمع.
الفشل في هذه المهمة الصعبة، يعني ان المرحلة الانتقالية هي انتقال من نظام الاستبداد الدولتي، الى الفوضى السياسية والتفكك المجتمعي. والنجاح فيها، يعني ان المرحلة الانتقالية هي انتقال من نظام الاستبداد الدولتي الى التنمية والديموقراطية وحقوق الإنسان، وان كان هذا الانتقال متدرجاً وطويلاً.
* باحث وخبير في التنمية، عمل مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بين 1995 و2009، وحاليآً هو مستشار إقليمي لدى الاسكوا (اللجنة الاقتصادية الاجتماعية لغرب آسيا التابعة للأمم المتحدة). والمقال هو عرض لأقسام من ملخص التقرير الذي أعده الكاتب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.