اعتمد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز يوم الاثنين الماضي موازنة قياسية للعام الجديد 2012، وبدورها سجلت موازنة السنة الحالية التي تطوى سجلاتها غداً (السبت) عن إيرادات قياسية تجاوزت حاجز التريليون ريال، وهو رقم كبير لم تسجله موازنة السعودية في تاريخها سوى مرة واحدة في عام 2008. وكالعادة تسابقت وسائل الإعلام على استخدام صيغ التفضيل، وجاء حديثها عن الموازنة مقروناً بأضخم، وأكبر، وأعظم، وأهم، وهي صيغ لا مبالغة فيها، بل إنها تعبر عن حقيقة الأرقام المجردة التي تعلن وتتضاعف في كل موازنة سنوية منذ عام 2003. وبعد مرور تسعة أعوام من الفوائض، فإن المطلوب من الوزراء والمسؤولين حالياً ليس الاحتفاء فقط بكبر حجم الأرقام المجردة التي تعلن في الموازنة، ثم نسيان الموضوع بعد إرسال كلمتي ثناء ومدحاً عن الموازنة للصحف. فيما المواطن على اليد الأخرى ينظر الى الأرقام الكبيرة والمعلنة بترقب وتوجّس لأنه للأسف اعتاد منهم على وعود معسولة تخدره لفترة قصيرة ثم يثبت الزمن عدم صدقيتها. فالمواطن السعودي عقلاني، لا يطمح بالطبع إلى ان تتصل به وزارة المالية لتصرف له «شوالاً» او «كيساً» سعته 50 كيلوغراماً مملوءاً بالنقود من فئة ال500 ريال يحمله على ظهره عائداً به الى منزله، وإنما طموحه أن يوظف ابنه وابنته، وأن يجد السكن اللائق له بسعر مناسب، وأن يجد الطبيب والسرير متاحين حينما يمرض هو أو أحد أبنائه. وهذه المطالب اليسيرة التي هي حقوق للمواطن أصبحت بعد تسع سنوات من الوفرة أصعب منها في فترات الشحّ والقلة، وهذا يعني ان هناك شيئاً خطأ يجب إصلاحه وبسرعة وحيوية حتى يستفيد المواطن من الطفرة، ويفرح فعلاً بفائض الموازنات التي تعلن تباعاً كل عام. نقطة أخرى، وهي أن الأرقام يجب أن ينظر إليها بحسب قيمتها الحقيقية، وليست الاسمية، فالنقد قيمته تحسب بكم يشتري؟ والتضخم الذي تشهده أسواق العالم التي نستورد منها انتقل وتضاعف في سوقنا، كما ان ضعف الدولار وهو العملة التي نرتبط بها أثر سلبياً في قيمة وارداتنا وجعل الغلاء يتضاعف في سوقنا، وللمثال، فقد كان الدولار الواحد يساوي 120 يناً يابانياً قبل أربعة أعوام، لكنه لا يساوي اليوم أكثر من 78 يناً، بمعنى أننا ندفع لوارداتنا من اليابان 42 يناً إضافياً فقط لتعويض ضعف الدولار، وهو ما رفع كلفة وارداتنا، وجعل المواطن يضع يده على قلبه كل يوم خوفاً من تقافز الأسعار التي لم يعد دخله «المنهك» يستطيع اللحاق بها. نقطة ثالثة، وهو أن الموازنات الضخمة والفوائض الكبيرة ساعدت الحكومة على تنفيذ وترسية كثير من المشاريع، وأصبحت كل مدينة سعودية مشروع ورشة ضخمة للبناء والتطوير، كما أن السكك الحديد والجامعات والطرق السريعة المنفذة كلها مشاريع تخدم التنمية وتعزز فرص العمل والاستثمار للمواطن حالياً ومستقبلاً. ما يفسد هذا النجاح الكبير للحكومة للأسف هو سوء التنفيذ لبعض هذه المشاريع، فمعرض الكتاب «يخر» الماء على رؤوس العارضين بعد مطر خفيف، وبوابة قطار المشاعر تسقط جراء تزاحم الحجاج، ورخام جامعة حائل يتساقط على رؤوس الطالبات، ومشروع الاسكان في القريات يتصدع على رغم أنه بني بأعلى المقاييس وأعلى الأسعار. وللأسف هذه الأخطاء التي تمر بلا محاسبة ولامساءلة تفسد البهجة والفرح بوجود هذه المشاريع، بل إنها تعزز النظرة التشاؤمية بكبر حجم الفساد المصاحب لترسية هذه المشاريع. النقطة الرابعة والأخيرة، أن هناك مشاريع ناجحة على رغم ما يقال عنها ويجب أن تستمر كماً وكيفاً، بل ويضاعف الصرف عليها، ومنها على الخصوص مشروع الملك عبدالله للابتعاث، فهذا المشروع هو مستقبل البلاد، ويجب أن يدعم ويشجع، وأن تطرح الآراء المعارضة له أرضاً. فالتعليم الذي يستقيه مبتعثونا في أرقى الجامعات العالمية حالياً هو ما سينفع بلادنا بحول الله، ويجعلها تعتمد على إنسان هذه البلاد المؤهل بأعلى مستوى تعليمي ومهاري لإدارة الأجهزة المختلفة حكومية أو خاصة في المستقبل القريب. وأختم بأن ما يمكن أن توصف به الموازنة الأخيرة هو أنها موازنة الإسكان، فقد وجّه ملك البلاد بتوجيه كل الفوائض المالية والتراكمية لتنفيذ 500 ألف وحدة سكنية في مختلف مناطق المملكة، وهو قرار رائع للإسهام في حل المشكلة التي تؤرق كل شاب سعودي. إلا أن تعزيز هذا الانفاق بسياسات أخرى داعمة يسهم في خفض أسعار الأراضي بات مطلباً ملحاً لجعل مشكلة الاسكان جزءاً من كتب التاريخ لا الحاضر والمستقبل. * اقتصادي سعودي - بريطانيا. www.rubbian.com