تستوحي الكاتبة اللبنانية غادة علي كلش المادة الأولية لكتابها «عكس الريح» (درغام - بيروت) من ثلاثة مصادر على الأقل هي: الذاكرة والذات، والعين الداخلية. وتقوم بتشكيل هذه المادة في قوالب لغوية معينة تختلف باختلاف المصدر الذي متحت منه، فنصوص الذاكرة تختلف عن خواطر الذات وتأملاتها كما تفترق هذه الأخيرة عن الشذرات التي التقطتها العين الداخلية للكاتبة وجرّدتها ومضات خاطفة تكثّف المعنى في أقل قدر من الكلمات. وهكذا، يحتوي «عكس الريح» على مادة أدبية متنوعة في الشكل والمضمون. من الذاكرة تقتطع كلش ثلاثة عشر نصاً تسرد فيها جوانب مختارة من سيرتها الذاتية الغارقة في المعاناة والألم والمأساة، فنكتشف مجدداً قدرة الألم على تفجير الكتابة، وكأن هذه الأخيرة بلسم متأخر من شأنه ان يبلسم جراح النفس. وعليه، فإن ذاكرة غادة كلش من الناحية النوعية ليست حيادية أو عامة أو موضوعية، بل هي ذاكرة ذاتية بامتياز تدّخر تجربتها المرة مع الحياة وتختزن جوانب من معاناتها. وهي من الناحية الزمنية ذاكرة الطفولة والصبا غالباً. ولعل الكاتبة أرادت ان تتحرر من ثقل الذاكرة بكتابتها فتجعل منها «ذاكرة للنسيان» بدلاً من ان تكون ذاكرة للألم. تتعدد تمظهرات الألم في هذا القسم من الكتاب، وتتراوح بين الفراق والمرض والموت والإفلاس المادي... وغادة ليست مجرد شاهد على هذه التمظهرات بل هي منخرطة فيها تعيشها وتحياها. لقد شهدت في طفولتها زواج الأب وتجلّد الأم في مواجهة الأمر بإباء وكبرياء، وعاشت الفشل الكلوي الذي أودى بثلاثة من إخوتها وأخواتها، وعانت الألم بصمت حين تبرّعت بكليتها لأحدهم، وعرفت خسارة الأسرة ممتلكاتها بسبب الحرب. وهكذا، فإن نصوص غادة ليست ترفاً أدبياً تمارسه صاحبتها في أوقات الفراغ بل هي مغمّسة في جراحها ومعاناتها وتجربتها المعيشة. من هنا، قدرتها على التأثير في القارئ وإحداث المشاركة والتعاطف لديه، وهي ذات تنضح بالصدق الموضوعي والصدق الفني معاً. تمهّد الكاتبة، لنصها بشذرة تشكّل مفتاحاً للدخول إليه، من وجهة نظرها على الأقل، من دون ان يعني ذلك مصادرة حق القارئ في امتلاك مفتاحه الخاص وقراءته. ثم تروح تسرد واقعة معينة أو أكثر بطلاوة ويسر، وقد تطعّم النص بأمثال شعبية وتضمّنه حواراً معيّناً وتحدد مكاناً وزماناً وشخصيات حقيقية ما يجعل بعض النصوص يقترب من القصة القصيرة. ولولا حرص غادة كلش على قول تجربتها/ سيرتها الذاتية المعيشة، ولولا تمحور النصوص الثلاثة عشر حول الشخصية الحقيقية نفسها وتدرّجها زمنياً لكان بوسع الكاتبة ان تقدم مجموعة قصصية مع بعض الاهتمام بالجانب الفني الأمر الذي لم تتعمّده في كتابها. وفي مقاربة أخرى تبرز النصوص قيم الأمومة المثالية والتضحية ونكران الذات والتضامن الأسري والأخوّة المتفانية. المصدر الثاني الذي تمتح منه كلش في كتابها هو الذات، فتجرد من تأملاتها الذاتية سبعة نصوص، هي خواطر ترصد فيها حركة الزمن والعناصر والتفاعل بين الإنسان والكائنات الأخرى من جماد ونبات وحيوان... ويغلب على لغة هذه الخواطر المجاز ويلامس بعضها السوريالية في صوره كما في «خارج الواقع» التي تقترب من قصيدة النثر بما فيها من انزياح لغوي وصور غريبة. والخواطر تنحو منحى فكرياً مجرّداً يفلسف المرئيات والظواهر الخارجية. وغير بعيد عن هذا المصدر تطلق كلش عينها الداخلية في مراقبة الكائنات والأشياء، تجرّد من مراقبتها ثلاثين شذرة مختصرة هي بنت التأمل والملاحظة والتجربة، تكثف فيها المعنى في اقل قدر من الكلمات. والشذرة غالباً تصوغها بصيغة تقريرية تقرّر فيها حقيقة او استنتاجاً أو ملاحظة او مفارقة... وقد تكون سؤالاً مطروحاً، وقد تكون نتيجة مبنية على مقدمة معينة... وهي شذرات تتفاوت فيما بينها في شعريتها وتكثيفها. في «عكس الريح» تقدم غادة كلش صورة صادقة عن بعض سيرتها الذاتية، وتأملاتها، وملاحظاتها، وتضعنا وجهاً لوجه امام تجربة حية معيشة ومكتوبة، تولد فيها الكلمات من زخم المعاناة فلا تقع في فخ التكلس الذي تسقط فيه كتابات كثيرة.