لم يعد التاريخ مهماً في قصة الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين. فهذا الرجل الذي بدأ حياته في غرفة طينية مظلمة في قرية العوجة جنوب مدينة تكريت، نشأ مترعاً بروح تواقة وغامضة لتقمص التاريخ. ولم تفد في وقت توقه أسباب التخلف والظلمة والشقاء التي عجنت طفولته، بل ان كثيرين من معارفه وأصدقاء طفولته يؤكدون أن صدام ترعرع في انزواء لافت وحب غريب للاستغراق في التأمل، وان شغفه في أيام دراسته في القاهرة كان قراءة التاريخ الإسلامي القديم، والتآلف مع شخصياته وقادته وكبار رجالاته. بعد اعتقاله المدوي في مخبأ طيني مظلم في قرية الدور جنوب مدينة تكريت لم يعد كل ذلك مفيداً، فصدام حسين الذي انزوى فشغل بانزوائه الجميع، وخرج فشغلهم بخروجه مثلما شغلهم بحروبه العبثية، يقبع الآن في قبضة أعدائه الأميركيين والعراقيين وينتظر المحاكمة والمساءلة عن تشبثه بالتاريخ. لم يعد التاريخ مهماً، إنما المهم في قصة هذا الرجل الذي أثار كثيراً من الأسئلة والألغاز في سنوات حكمه، كما في الأشهر التي تلت إطاحة نظامه أو في الأيام القليلة الماضية منذ اعتقاله، هو اتجاهات المستقبل التي سترسمها عملية الاعتقال. ماذا عن مستقبل أعمال المقاومة المسلحة التي تنفذها مجموعات عراقية وغير عراقية ضد القوات الأميركية والمدنيين بعدما تم القبض على من يصفه الأميركيون بأنه العقل المدبر والمنظم والموجّه لأكثر تلك العمليات؟ وهل يمكن القول ان اخراج صدام حسين من حفرة العنكبوت إلى سجن أميركي على أرض عراقية سيضع حداً لمشاكل هذا البلد الذي مزقته الحروب والعقوبات والصراعات الداخلية والخارجية؟ ثم ماذا عن محاكمته ومصيره؟ وهل ستتم محاكمته داخل الأراضي العراقية وأمام محكمة عراقية؟ أم أنه سينقل إلى لاهاي أو بروكسيل أو أي عاصمة أوروبية أخرى للمثول أمام محكمة دولية؟ أسئلة يصعب التكهن بجواب محدد عليها. لكن مع هذا يتفق أكثر من مراقب سياسي ومعني بالشأن العراقي على أن اعتقال صدام حسين هو نقطة تحول كبيرة في تاريخ العراق الحديث، مضيفين ان العراقيين الذين أبدوا مظاهر حذرة من الفرح والاستبشار بسقوط صدام حسين في قبضة الأميركيين، لا يزالون مترددين في تصديق أن الشخص المعتقل هو صدام بعينه. ويفسر بعضهم الفرح العراقي المشوب بالحذر بأنه تعبير عن دوام خوف العراقيين من صدام حسين، حتى وهو في المعتقل. ولا أدل على هذا من الاشاعات التي راجت بين العراقيين، وتفيد بأن الأميركيين استخدموا غازات سامة لتخدير صدام في مخبئه قبل القاء القبض عليه، أو أن الشخص الذي قدموه على أنه صدام ليس في الحقيقة سوى رجل شبيه أتى به الأميركيون من بلد آخر! إلى ذلك، يضيف المعنيون ان اعتقال الرئيس السابق يظل مجرد عملية عسكرية وأمنية قد لا تفوق في تأثيراتها انعكاسات مقتل نجليه عدي وقصي في الموصل قبل أشهر. فمخاطر صدام حسين في رأي هؤلاء لا تتجسد في كينونته المادية وحضوره الشخصي فحسب، بل في وجوده المعنوي والسياسي والثقافي في نسيج العراقيين والعرب. وفي هذا الإطار يشدد المعنيون على أن إزالة الآثار الفكرية والأخلاقية والثقافية لتجربة صدام حسين تحتاج إلى فترة زمنية غير قصيرة نسبياً، خصوصاً أنه أبدى طوال سنوات حكمه براعة غير قليلة في التغلغل القسري أو الطوعي في أفكار الآخرين، ما يفسر، إلى بعض الحدود، غلالة الحزن والكآبة اللافتة التي طغت على الشارع العربي بعدما أعلن الأميركيون نبأ اعتقاله. لكن ماذا عن الحالة الداخلية العراقية؟ ماذا عن مستقبل هذه الحالة؟ هل يمكن القول إن تغييب الرئيس السابق في قبو سجن أميركي لا يُعرف مكانه داخل العراق، سيساعد في استتباب الأمن وحلّ المشاكل القائمة ووقف الهجمات التي تستهدف الأميركيين؟ استبعد الدكتور محمود عثمان، أحد الأعضاء الخمسة عن الكتلة الكردية في مجلس الحكم العراقي، أن يضع اعتقال صدام نهاية للمشاكل العراقية الحالية، مرجحاً أن يفرز هذا الاعتقال مشاكل لا تقل حدة عن المشاكل التي أفرزها وجوده طليقاً في مخبئه السري جنوب شرقي تكريت. ويضيف الدكتور عثمان في اتصال هاتفي مع "الوسط" انه يتوقع أن تتصاعد أعمال المقاومة المسلحة ضد الوجود الأميركي والمنشآت المدنية العراقية، على رغم وجود احتمال ضئيل لجهة تراجع حدتها لفترة قصيرة. فهذه الهجمات ليست من تنفيذ أنصار صدام لوحدهم، إنما يشارك فيها إسلاميون متشددون، عرب وعراقيون، إضافة إلى عصابات وأشخاص تحركهم الحاجة الاقتصادية والمعيشية، على حد تعبير عثمان. إذن لن تتوقف الهجمات المسلحة وأعمال العنف التي تهز مدناً وقرى والعاصمة بغداد؟ يرد الدكتور عثمان على هذا السؤال بقوله إن الهجمات قد تشهد نوعاً من الخفوت والتراجع في الأيام والأسابيع القليلة المقبلة. لكن إذا لم يبادر الأميركيون إلى اتخاذ خطوات سياسية واقتصادية لمعالجة الوضع المتردي القائم في العراق، ولم يسرعوا في نقل السلطات السيادية إلى العراقيين، فإن هذه الهجمات قد تعود بوتيرة أشد. لكن الواضح أن اعتقال صدام حسين عكس تأثيرين واضحين على الوضع الداخلي العراقي: الأول لجهة شعور مؤيديه بالاحباط والانكسار نتيجة وقوع رمزهم في الأسر الأميركي، والثاني لجهة شعور مناوئيه بالحماس والانطلاق في دعم التغييرات الحاصلة في العراق. ويتفق عثمان مع هذا الرأي، لكنه يضيف ان المشكلة الكبيرة ستتمثل في المستقبل القريب في محاكمة صدام حسين وموقع هذه المحاكمة وطريقتها والقوانين التي ستتحكم بها. فالأميركيون لا يحبذون، في رأيه، أن تُجرى أي محاكمة لصدام حسين، دولية أو عراقية، معتبراً أن هذه الرغبة الأميركية التي لا تعلن عنها واشنطن تتأتى من خوف الولاياتالمتحدة من افتضاح دورها في دعم حروب العراق ضد إيرانوالكويت، وقيام شركات أميركية وغربية بتزويده معدات وتقنيات خاصة بتصنيع أسلحة الدمار الشامل في الفترة بين عامي 1984 و1990، إضافة إلى مخاوفهم من الانعكاسات التي يمكن أن تخلقها هذه المحاكمة على الفضاء الاقليمي العربي والإسلامي. ويشير الدكتور عثمان إلى أن ما يهم الأميركيين في هذه المرحلة بالذات هو الحصول على أكثر ما يمكن من معلومات أمنية وعسكرية واستراتيجية يحتفظ بها الرئيس العراقي السابق في ذاكرته، خصوصاً ما يتعلق بأسلحة الدمار الشامل والدول أو الجهات التي ساعدته في إدارة عمليات المقاومة ضد الأميركيين طوال الأشهر الماضية، على رغم إعلان واشنطن المتكرر أنها مستعدة لمساعدة العراقيين في ترتيب محاكمة عادلة لصدام حسين. لكن ماذا عن مجلس الحكم العراقي ومواقف أعضائه حيال المحاكمة التي ستكون، في حال حصولها، إحدى أهم محاكمات القرن؟ هل ستكون عراقية أم دولية؟ يرد عثمان على ذلك بقوله إن هناك اتفاقاً تاماً بين مجلس الحكم على ضرورة محاكمة صدام حسين أمام محكمة عراقية. من جهة ثانية، تحدثت "الوسط" إلى أحد المساعدين الأمنيين لزعيم "المؤتمر الوطني العراقي" أحمد الجلبي، وسألته عن قراءته لمستقبل الهجمات المسلحة ضد الأميركيين في العراق، فقال المساعد، الذي لم يشأ ذكر اسمه، إنه من الصعب توقع انهيار الجهاز السري الذي أنشأه وقاده صدام حسين لشن الهجمات ضد الجنود الأميركيين والمدنيين العراقيين، لكن مع هذا يمكن القول إن هذا الجهاز اصيب بنكسة كبيرة نتيجة أمرين: الأول فقدانه قائده صدام حسين، والثاني استيلاء الأميركيين في مداهمة مخبأ الدور على أسماء ومعلومات أمنية ثمينة، أفضى في الأيام القليلة الماضية إلى اعتقال اثنين من أهم رؤوس المقاومين العراقيين في العاصمة بغداد. مشاركة الأكراد في اعتقال صدام لكن ماذا عن قصة المشاركة الكردية في عملية اعتقال الرئيس العراقي السابق؟ ماذا عن هذه القصة في ظل مشاركة الأكراد مع الأميركيين في اعتقال مسؤولين سابقين من أمثال طه ياسين رمضال نائب صدام ووزير دفاعه سطان هاشم قبل شهرين؟ ينفي عثمان، الذي ترأس في عام 1970 الوفد الكردي إلى مفاوضات مطولة مع صدام حسين انتهت إلى توقيع اتفاق 11 آذار مارس، حصول مشاركة كردية في الخطط العسكرية الميدانية للهجوم على مخبأ صدام حسين، مؤكداً أن الدور الكردي لم يتجاوز تسليم الأميركيين معلومات أمنية حصل عليها "الاتحاد الوطني الكردستاني" من بعض شيوخ العشائر العربية التي تنتشر في منطقتي بيجي والحويجة المتاخمة لتكريت، مشيراً إلى أن تلك المعلومات التي وصلت إلى كوسرت رسول علي، مسؤول المكتب السياسي في "الاتحاد الوطني الكردستاني"، أفادت بأن صدام حسين يختبئ في منزل طيني يقع في المثلث الذي تمتد أضلاعه من تكريت إلى قرية الدور ومدينة سامراء. وبما أن الأميركيين كانوا قد حصلوا على معلومات متشابهة من مصادر أخرى، فإنهم تأكدوا من المعلومة الكردية، لكنهم نفذوا العملية لوحدهم من دون مشاركة أي طرف عراقي أو كردي. أما ابلاغ الجانب الكردي فتم في فجر اليوم التالي من الاعتقال، أي في الرابع عشر من الشهر الجاري، بعدما تأكد الأميركيون من أن الشخص الذي ألقي القبض عليه في المخبأ هو صدام حسين. ويؤكد المساعد الأمني للجلبي حصول تعاون أمني بين الأكراد والقوات الأميركية لاعتقال صدام، كما يؤكد أن المسؤول الكردي الذي حصل على المعلومة المتعلقة بمكان اختفاء صدام هو كوسرت رسول علي، موضحاً أنه لم يلمس أي مشاركة ميدانية عراقية أو كردية في اعتقال صدام حسين. في هذا الإطار، اتصلت "الوسط" بمسؤول رفيع المستوى في قيادة "الاتحاد الوطني الكردستاني"، لم يشأ ذكر اسمه لحسابات تتعلق باتفاق مسبق مع الأميركيين، وسألته عن حقيقة المشاركة الأمنية الكردية في اعتقال الرئيس السابق، فأكد حصول تعاون أمني بين الطرفين. وقال إن مقتضيات التحالف الأميركي - الكردي تتطلب تقديم أي معلومة تتعلق بصدام حسين ومسؤولي النظام السابق إلى الأميركيين من دون تردد. وأكد أيضاً أن له شخصياً علاقات جيدة مع رؤساء العشائر العربية في منطقة تكريت، ما يسمح له ولمسؤولين آخرين في حزبه باستقاء المعلومات عن تحركات مسؤولي النظام السابق من مصادرها الأصلية. لكن هل يعني هذا ان هناك معلومات عن مطلوبين آخرين؟ يرد المسؤول الكردي، الوثيق الاطلاع على الأمور الأمنية في حزبه، بأن كل شيء ممكن، وأن المسؤولين السابقين، وفي مقدمهم عزة إبراهيم الدوري نائب صدام حسين، سيلقى عليهم القبض طوعاً أو عبر عمليات عسكرية في مستقبل غير بعيد. المحاكمة يتوزع دعاة تقديم صدام حسين إلى المحكمة بين فريقين: الأول يدعو إلى محاكمته داخل العراق وأمام محكمة عراقية خالصة، فيما يدعو الفريق الآخر، وهو في الغالب يتألف من أقربائه ومؤيديه ومناصريه، إلى نقله إلى خارج العراق ومحاكمته أمام محاكم دولية غير مسيّسة، لأن المحاكم العراقية تنطلق من أحكام سياسية غير قانونية، ولأن الأميركيين يقفون وراءها. ويضيف بعضهم الآخر ان الجهاز القضائي العراقي لم يعد مؤهلاً لاجراء محاكمات كبيرة وتاريخية، لأنه تعرض للتدمير والاحتواء طوال العقود الثلاثة الماضية، ما يمكن أن يجعل من الصعوبة ايجاد قضاة نزيهين لمحاكمة صدام حسين. لكن وزير العدل العراقي الدكتور هاشم الشبلي أكد ل"الوسط" أن القضاء العراقي لا يزال قادراً على تولي هكذا ملفات قضائية، مشدداً في الوقت ذاته على أن وزارته ليس لديها أي اتصالات أو محادثات في خصوص ملف صدام حسين مع الإدارة المدنية الأميركية في العراق، مؤكداً أن الجهة التي ستتولى محاكمته هي المحكمة الجنائية العراقية المختصة بمحاكمة مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية. وفي رده على سؤال عن القوانين التي ستعمل بها هذه المحكمة، قال الشبلي إن قانون تشكيل المحكمة الجنائية العراقية ينص على العمل بقانون العقوبات العراقي الذي كان معمولاً به قبل تعليق عقوبة الإعدام، مضيفاً ان المحكمة ستعقد جلساتها وفق القانون في العاصمة بغداد، وان مجلس الحكم العراقي سيوفر الحماية الأمنية العراقية اللازمة لسريان أعمالها بشكل طبيعي. أما مساعد الجلبي، فأكد أن مجلس الحكم قدم طلباً خطياً إلى سلطة التحالف الموقتة في بغداد لمثول الرئيس العراقي السابق أمام محكمة عراقية، نافياً أن تكون الموافقات الأولية التي أبداها الأميركيون على هذا الطلب ذات علاقة بما يشاع في أوساط عربية ودولية من أن الأميركيين خائفون من افتضاح تورطهم في دعم صدام حسين في حرب إيران وغزو الكويت وتصنيع أسلحة الدمار الشامل. مع هذا كله، يبدو صدام حسين وهو في معتقله، لغزاً لا يقل في تعقيداته عن لغزه وهو طليق أو قابع في مخبأ تحت الأرض