الدنيا ربيع والأيام حزينة، ولكن لا أريد ان أنغص عيش القارئ بحديث عن درب الآلام العربي، ولا أريد أن أهاذره، لأن الأخبار مسحت البسمة، فأكتفي برواية قصة هي عندي منذ سنوات. القصة رواها دون هاربر ميلز، رئيس الجمعية الاميركية للأبحاث الجنائية، في العشاء السنوي للجمعية في سان دييغو سنة 1995. قال الدكتور ميلز: في 23 آذار مارس 1994 فحص الطبيب الشرعي جثة رونالد أوبوس، وقرر انه مات من رصاصة بندقية صيد في رأسه. وكان الضحية قفز من الدور العاشر داخل مطلع الأدراج في البناية التي يسكنها، معتزماً الانتحار بعد ان ترك رسالة تشرح يأسه من الحياة. غير انه فيما كان يسقط أمام الطابق التاسع انطلقت رصاصة من بندقية صيد من داخل نافذة شقة، اصابته في رأسه وقتلته فوراً. ولم يكن المنتحر، أو مطلق الرصاصة، يعرف ان شبكة مدت عبر الطابق الثامن لحماية عمال كانوا يدهنون سقف البناية من الداخل، وهذا يعني ان المنتحر ما كان توفي لو لم يقتل على الطريق. والدراسات تظهر ان الانسان الذي يعتزم الانتحار ينجح في النهاية حتى اذا كانت الوسيلة غير ما اختار في البداية. لو ان اوبوس قتل بالرصاص ثم سقط الى الأرض، وهي سقطة مميتة، لما تغير موته من انتحار الى قتل. غير ان وجود الشبكة في الطابق الثامن جعلت الطبيب الشرعي يقرر انه أمام جريمة قتل. تبين ان الغرفة في الطابق التاسع التي صدرت منها الرصاصة القاتلة يسكنها رجل عجوز وزوجته، هما والدا رونالد المنتحر. وكان الزوجان يتجادلان والرجل يهدد زوجته بالبندقية كعادته عندما يختلفان. وهو ضغط على الزناد مهدداً فانطلقت الرصاصة القاتلة. والقانون يقول انه اذا حاول "ألف" قتل "باء" وقتل "جيم" بدلاً منه، فهو متهم بالقتل. وعندما ووجه الرجل وزوجته بالتهمة أصرا على انهما لم يكونا يعرفان ان البندقية ملأى بالرصاص، فهي دائماً فارغة ومثبتة الى حائط فوق المدفأة. وقد اعتاد الوالد العجوز ان يهدد بها زوجته اذا اختلفا، وان يضغط على الزناد، وينتهي الأمر عند ذلك. وأدى تحقيق واسع للشرطة الى اكتشاف شاهد قال انه رأى الإبن المنتحر القتيل يضع الرصاص في البندقية سراً قبل الحادث بستة اسابيع. واكتشفت الشرطة ان الأم كانت قطعت المساعدة المالية عن الإبن العاطل عن العمل قبل ذلك. وبما ان الإبن يعرف ان أباه يهدد أمه بالبندقية مع كل خلاف بينهما، فهو حشاها بالرصاص أملاً بأن يقتل الأب الأم في الخلاف القادم بينهما. هذا الاكتشاف جعل المحققين يقررون ان الإبن ارتكب جريمة قتل بحق نفسه، ولو عن طريق الخطأ، فنحن هنا نعود الى القانون، واذا اعتبرنا الأب "ألف" ويريد قتل زوجته "باء"، ولكن قتل "جيم" أي الإبن في المحاولة، فإن "ألف" يصبح مسؤولاً عن جريمة قتل "جيم". وفي حين ان تقرير الشرطة لا يظهر اذا كان رونالد أوبوس يتعاطى المخدرات، فإنه يؤكد ان الإبن فاشل في الحياة عاطل عن العمل يعتمد على والديه لمساعدته حالياً، وهو يقيم في شقة صغيرة فوقهما، ويبدو ان قرار الأم قطع المساعدة المالية عنه جعله يفكر في وسيلة للخلاص منها والحصول على الورثة كاملة على اعتبار انه ابنها الوحيد. ورجحت الشرطة ان الإبن الفاشل جرب وسائل كثيرة للخلاص من الأم انتهت بالفشل، لأنه لا يعرف كيف يتدبر أمره، ولعل حشو بندقية الصيد بالرصاص كان احدى هذه المحاولات. غير ان الإبن انتظر أسابيع من دون ان يختلف الوالدان ويهدد الأب الأم بالبندقية كعادته. واخيراً استبد به اليأس، وانتحر في اللحظة التي كان والده فيها يهدد أمه بالبندقية ويطلق الرصاص، فيصيبه في رأسه ويقتله، وهو يسقط امام النافذة منتحراً. أمام هذه المعطيات قرر المدعي العام انه أمام حادث انتحار، وأغلق القضية. ما رأي القارئ؟