قصة السيدة الزهرة ضريف ارملة الزعيم الجزائري الراحل رابح بيطاط قصة رحلة امتدت حوالي نصف قرن من الكفاح على الجبهات العسكرية والسياسية والاجتماعية. بدأت رحلة هذه المرأة التي تنتمي الى عائلة كبيرة في تيارت حين كانت طالبة جامعية عند اندلاع ثورة التحرير في 1954، وفضلت أن تقتحم مباشرة ميدان الفداء الوعر، الى جانب أبطال "معركة العاصمة"، ومنهم مصطفى فتال والسعدي ياسف. وعاصرت صدور قرار نقل حرب العصابات الى الأحياء الأوروبية في المدن الكبرى، في اجتماع ترأسه القائد الشهيد العربي بن مهيدي. وعايشت أحداث الاستقلال وأزمة تنازع السلطة بين "الحكومة الموقتة" و"المكتب السياسي"، هذه الأزمة التي ما لبثت ان كشفت عن نزاع متعدد الأطراف بين الحزب وبن بله، وبين الحزب والجيش، ثم بين الجيش وبن بله. وكان زوجها الزعيم رابح بيطاط حلقة مهمة في كل هذه الصراعات، باعتباره "المسؤول الفعلي" للحزب في بداية الاستقلال. واضطرت أمام الانعكاسات السياسية لهذه الصراعات - عليها وعلى زوجها - ان تبدأ من جديد، لتفرض ذاتها في ميدان العدالة والمحاماة ابتداء من سنة 1967. وكانت بذلك شاهدة عيان على تطور العلاقات الاجتماعية والأثر الايجابي لهذا التطور على مكانة المرأة الجزائرية ودرجة الحرية الفعلية التي أضحت تتمتع بها. ولهذا وقفت في 1984 ضد قانون الأسرة الحالي الذي اعتبرته "أول تظاهرة للتطرف الاسلاموي"! وتعود بيطاط الى الواجهة مع عودة الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة في ربيع 1999، من خلال "لجنة اصلاح العدالة"، ثم عبر منبر مجلس الأمة الغرفة الثانية للبرلمان كعضو ضمن الثلث الرئاسي المعيَّن. وتفسر هذه العودة ب "حاجة الرئيس بوتفليقة الى دعم لاصلاح ما يمكن اصلاحه" بعدما اوشكت الدولة على الانهيار والتفكك، حسب رأيها. وتتضمن هذه القصة حقائق جديدة يزاح عنها الستار للمرة الأولى، مثل "صفقة الرئيس بن بله مع خيضر بوساطة سفير مصر"، هذه الصفقة التي فتحت باب المعارضة على مصراعيه أمام الأمين العام للمكتب السياسي آنذاك. تزامن التحاق الطالبة الزهرة ضريف بكلية الحقوق جامعة الجزائر في الموسم الجامعي 54-1955، مع حدث تاريخي فاصل: اندلاع ثورة تشرين الثاني نوفمبر 1954 بقيادة "جبهة التحرير الوطني". كانت هذه المفاجأة التاريخية لحظة الحسم التي كانت الطالبة تنتظرها وهي تتابع احداث تونس 1952 والمغرب 1953، فضلا عن مختلف أطوار أزمة "حزب الشعب الجزائري" التي أسفرت عن ظهور جبهة التحرير واندلاع الثورة. كانت الطالبة الزهرة تتساءل، مع كثير من أبناء وبنات جيلها: "لماذا تثور تونس والمغرب وتتأخر الجزائر؟" وبعيد التحاق الجزائر بالركب، أضحت تقول في قرارة نفسها: لو كتب لي الالتحاق بالثورة، لاخترت حمل السلاح، لأنها لم تكن تحبذ المشاركة في تحرير الجزائر بالكتابة أو الاتصالات، أو جمع الأموال ومساعدة عائلات "المجاهدين" و"الفدائيين" والمعتقلين. كان عدد الطلبة الجزائرين قليلا قياساً بأبناء المستوطنين الأوروبيين، وكان الوطنيون منهم قلة فحسب. واستطاع بعض العناصر ان يجد طريقه الى الثورة وقيادتها في الجزائر العاصمة، بحكم سابق علاقتها ب"حزب الشعب الجزائري" وجناحه الثوري الذي بادر باعلان الثورة. من تلك العناصر رشيد عمارة ومحمد بن يحيى والأمين خان. غير أن استعداد الطالبة واصرارها، ما لبثا ان فتحا امامها هذا الطريق الوعر، بواسطة زملائها في "جمعية الطلبة المسلمين لشمال افريقيا". كانت البداية الفعلية في مطلع 1956 بينما كانت الطالبة في سنتها الثانية بكلية الحقوق. ويبدو أن ثقة الزملاء الذين رشحوها للعمل في صفوف الثورة كانت كبيرة، بدليل ربطها مباشرة بشبكة قائد رئيسي في العمل الفدائي بالعاصمة هو المجاهد مصطفى فتال. لكن هذه الثقة الكبيرة لم تمنع المجندة الجديدة من المرور بالمرحلة الابتدائية للكفاح من خلال وضعها على محك التجربة، وتكليفها بمهمات من قبيل مواساة عائلات المجاهدين والمعتقلين وتقديم المساعدات الضرورية لها، نقل الرسائل بين مسؤولي الأفواج، وتطور ذلك الى نقل الطرود والأسلحة. هذه المرحلة كانت ضرورية للطالبة الفدائية، لأنها مكنتها من التعرف على مختلف أحياء العاصمة التي ظلت معرفتها بها محدودة على رغم التحاقها بثانوية "فرومنتان" للدراسة الاعدادية والثانوية في 1945 و1946. وذات يوم في نهاية أيار مايو 1956، بينما كانت الطالبة الفدائية تغادر الحي الجامعي، فوجئت بنبأ مثير في الصحافة المحلية: اعتقال "ارهابي" كبير اسمه مصطفى فتال! الذي لم يكن سوى "المسؤول الكبير" الذي كانت تعمل ضمن مجموعته! ادركت انها تكافح في حركة ثورية مسلحة! وما لبثت دوامة العمل المسلح ان جذبت اليها هذه الطالبة، مثلما كانت ترغب في ذلك. تقول الطالبة الفدائية في هذا الصدد: "كانت مهماتنا تزداد خطورة من دون أن ندري، وكنا ننفذها من دون نقاش، ولم نكن نعرف مع من كنا. كانت المناضلة لا تعرف غير شخصين أو ثلاثة باسماء مستعارة". ومع التورط أكثر فأكثر في دوامة العمل المسلح، أصبحت مثار شبهات، الأمر الذي اضطرها الى دخول حياة السرية والانتقال الى القصبة المدينة القديمة، الحصينة بتشابك مبانيها وضيق أزقتها الملتوية، وانضمام جزء من سكانها الى الكفاح الثوري بمختلف أشكاله وبدخول القصبة وجدت نفسها في قلب نظام الفداء حرب المدن، على صلة مباشرة بالقيادة العليا ممثلة في الشهيد العربي بن مهيدي والسعدي ياسف المسؤول العسكري في العاصمة. في أيلول سبتمبر 1956، دعا ياسف الزهرة ورفيقاتها حسيبة بن بوعلي، جميلة بوحيرد، سامية الأخضري الى اجتماع مهم برئاسة بن مهيدي الذي كان الجميع يعرفه باسمه الحربي "الحكيم". كان الموضوع تصعيد العمليات الفردية والجماعية، رداً على "الحرب الشاملة" التي كانت تشنها قوات الاحتلال في شكل عقوبات جماعية وقتل بلا تمييز، استعملت فيه الأسلحة المحرّمة مثل قنابل النابالم. كان الهدف من هذا التكثيف توجيه ضربة موجعة ومؤثرة على معنويات المستوطنين بقنابل موقوتة تستهدف بعض المحلات العمومية في قلب المدينة الأوروبية. عن خلفيات هذا القرار الخطير تقول الفدائية: "لم تكن الحرب في المدينة متكافئة. كانت قوات الأمن والجيش تستبيح الأحياء العربية، تزرع فيها الرعب والموت في كل لحظة، بينما كانت الأحياء الأوروبية ما تزال تعيش في أمن واطمئنان وسعادة، كأن الحرب ضدنا وحدنا". ولوضع هذا القرار موضع التنفيذ تطوعت الفدائيات، لأن بإمكانهن ان يعشن أو يتنقلن وسط الأوروبيين بلا عقد أو لفت انتباه، خلافاً لمعظم الجزائريين الذين كانوا يومئذ "أجانب في الحي الأوروبي"، يمكن التعرف إليهم من بعيد بسبب السحنة أو الهندام أو السلوك. وهكذا كانت تلك السلسلة من التفجيرات المدوية التي ضربت بدءاً من نهاية أيلول سبتمبر مقاهي وحانات في الشوارع الرئيسية من المدينة الأوروبية، كانت ترمز لترف المستوطنين وغطرستهم. وكانت بطلاتها: الزهرة ورفيقاتها. هذه العمليات التي استمرت حتى مطلع 1957، ورافقها في نهاية كانون الأول ديسمبر مقتل أميدي فروجي رئيس كونفيدرالية عمداء البلديات، أصابت الاحتلال بالذهول، فتنازل للجيش، اعتباراً من 7 كانون الثاني يناير 1957، عن أهم صلاحياته في ميدان الأمن والقضاء. وجاء قرار جبهة التحرير شن اضراب عام لمدة 8 أيام لمناسبة عرض القضية الجزائرية على الجمعية العامة للأمم المتحدة، ليزيد الوضع تعقيداً وتدهوراً. فقد اعتبرت ادارة الاحتلال هذا الاضراب "عصياناً مدنياً"، مما جعلها تطلق أيادي الفرقة العاشرة من المظليين بقيادة الفريق ماسو الذي استباح الأحياء الشعبية، بدءا بالقصبة. وتقول الزهرة ضريف عن تلك الأيام الصعبة: "اصبحنا نعيش مع الاعتقال والموت في كل لحظة". بعد تشديد الخناق على القصبة، طلبت "لجنة التنسيق والتنفيذ" قيادة الثورة من ابن مهيدي الانسحاب الى المدينة الأوروبية، لكن قوات ماسو تمكنت من اقتفاء أثره والقبض عليه في 28 شباط فبراير، واعدامه من دون محاكمة في 4 آذار مارس. وتقول الزهرة في هذا السياق: "كنا نتابع ما وقع للحكيم لحظة بلحظة الى ساعة اغتياله ومحاولة تمويه ذلك باعتباره انتحاراً. كان الفقيد مسؤولا بارزاً في قيادة الثورة، لكننا احتسبناه كبقية المناضلين بلا تمييز". بعد اعدام ابن مهيدي واضطرار قيادة الثورة الى مغادرة الجزائر - تحت ضغط قوات الاحتلال التي شددت الخناق على القصبة بصفة خاصة - أصبح السعدي ياسف ومساعدوه محور العمل الفدائي في العاصمة. واستطاع هذا القائد أن يقيم تنظيماً محكماً، مكنه من الصمود أمام الجيش الفرنسي بضعة أشهر أخرى، على رغم تواضع أسلحة الفدائيين التي كان أهمها رشاش من نوع "مات 49"، كان بحوزة الشهيد علي عمار المشهور ب"علي لابوانت". لكن كيف تمكنت قوات الاحتلال في نهاية المطاف من ياسف وتنظيمه؟ حدث ذلك حسب شهادة الزهرة ضريف، بعد اعتقال حسن قندريش أحد نواب الشهيد الشريف الذبيح، اذ تمكن العقيد جودار مسؤول المكتب الثاني لفرقة المظليين العاشرة من قلب قندريش واستعماله لاختراق تنظيم القصبة خاصة. وبسبب هذه الخيانة، استطاع الأمن الفرنسي ان يحدد مأوى القائد ياسف، قبل اعتقاله في 24 أيلول برفقة الزهرة ضريف. وكان آخر نشاط لهما عقد جلسة عمل مع الحاج اسماعيل الذي كان في طريقه الى تونس، وتسليمه تقريراً الى قيادة الثورة هناك. بدأت قصة الفدائية الزهرة ضريف مع السجون بسجن "بربروس" ثم "الحراش" بعد محاكمتها بتهمة عقوبتها الاعدام. تقول: "ادارة الاحتلال كانت تطبق على المحكوم عليهم بالاعدام نظام 9 في 3". أي اعدام 27 مناضلا شهريا موزعين بين العمالات المحافظات الثلاث: الجزائر، وهران، قسنطينة. ووسيلة الاعدام كانت المقصلة التي تتجول بين سجون المحافظات المذكورة. وغداة حوادث 13 أيار مايو التي أعادت الجنرال ديغول الى الحكم بعدما تسببت في سقوط الجمهورية الرابعة، حاول بعض الغلاة في الجيش وميليشيات المستوطنين، اقتحام سجن "الحراش" واغتيال من فيه من أعضاء جبهة التحرير الوطني. ولتجنب تكرار مثل هذه المحاولة وما قد ينجم عنها من فضائح، فضلت الحكومة الفرنسية الجديدة نقل الزهرة ضريف ورفيقاتها الى فرنسا، حيث ادخلن سجون "بومات" مرسيليا و"فرات" ضواحي باريس وتولوز وغيرها. وكان السجن بالنسبة للزهرة ورفيقاتها فرصة لمواصلة الكفاح بوسائل أخرى: أولا للمطالبة بحقوقهن كأسيرات حرب، ثم لمواصلة تعليمهن. وتمكنت الفدائية الأسيرة من المشاركة بنجاح في امتحان السنة الثانية من كلية الحقوق في جامعة باريس 1961. وكان كل ذلك يصب في اطار التحضير لما بعد الاستقلال، لأن الزهرة مثل بقية رفيقاتها كانت على قناعة بأن "الاستقلال آت لا ريب فيه"، حسب أحد الشعارات المشهورة آنذاك! مكثت الزهرة في السجون حتى نيسان ابريل 1962، بعد توقيع اتفاقات ايفيان ووقف القتال. كانت حالة البلاد الأمنية يومئذ - بسبب منظمة المستوطنين الارهابية - لا تسمح بعودة السجناء والسجينات مباشرة الى الجزائر، لذا نزلت الزهرة بتونس أولا، قبل أن تدخل الجزائر في نهاية حزيران يونيو للمشاركة في استفتاء تقرير المصير. عادت المناضلة الطليقة الى العاصمة، خالية الذهن تقريباً من الصراعات الجارية في أروقة السلطة بين "الحكومة الموقتة" بقيادة بن يوسف بن خدة، وهيئة أركان الجيش بقيادة العقيد هواري بومدين الذي استطاع استمالة ثلاثة من "الزعماء الخمسة" وفي مقدمهم أحمد بن بله. كان من الطبيعي ان تشكل العاصمة حلقة رئيسية في التسابق من اجل الحكم بين الفريقين. لكن ضريف كانت بعيدة عن تلك الأجواء المحمومة، لا تفكر في شيء غير المشاركة في بناء الاستقلال الوطني، في ظل الاتحاد والاخاء. وصادفت عودتها من تونس قدوم المناضلة جميلة بوحيرد من المغرب، فأقامت عندها بعض الوقت بحي القصبة الشهير. كان يوم العودة بهيجاً، تغمره العواطف الجياشة: عواطف اللقاء بعد طول فراق، في أجواء التهاني بالنصر. في مثل هذا الجو الاستثنائي، لم تكن الزهرة تتوقع ما ينتظرها ورفيقتها جميلة في الصباح الباكر من اليوم التالي! إذ داهمت مجموعة من الجنود في زي المظليين، منزل عائلة بوحيرد وقاموا باختطاف جميلة وضيفتها الى مكان مجهول. لم تستطع الزهرة تصديق ما حدث، هل هو واقع فعلا؟! أم كابوس من مرحلة "معركة الجزائر"؟ هذه العملية الغريبة كانت من تدبير أنصار "الحكومة الموقتة" بقيادة الرائدين عزالدين وأوصديق، على أساس الاعتقاد بأن المناضلتين دخلتا العاصمة بالتنسيق مع هيئة الأركان، بهدف التمهيد لقدوم القوات المرابطة على الحدود الشرقية وزحفها على هذا الموقع المهم. طبعاً كان رد فعل أنصار هيئة الأركان فورياً، بواسطة رجلهم في العاصمة، وهو الرائد السعدي ياسف المسؤول السابق عن كل من جميلة والزهرة، إذ ارسل الى ممثلي "الحكومة الموقتة" تهديداً بحرق العاصمة، اذا لم يسارعوا بالافراج عن المناضلتين قبل العاشرة من صباح اليوم نفسه! وفعلا تم الافراج عن جميلة وضيفتها في الوقت المحدد. هكذا وجدت هاتان المناضلتان نفسيهما من دون أن تدريا في ركاب بن بله وأنصاره، وفي مقدمهم الزعيمان محمد خيضر ورابح بيطاط. تقول الزهرة ضريف: "استأنفت النضال في اتحادية جبهة التحرير بالعاصمة، ومن المبادرات التي قمت بها رفقة جميلة ومناضلات أخريات، تلك التظاهرات التاريخية التي خرج فيها الشارع مطالباً بوقف الصدامات المسلحة بين جيش الحدود وقوات الولاية الرابعة، مردداً الشعار الشهير: "سبع سنين بركات" أي كفاية!. بعدما تمكن "المكتب السياسي" من فرض نفسه في صيف 1962، قررت الزهرة ان تسارع ببناء عش الزوجية في ظل الاستقلال، وكان شريكها في ذلك واحدا من "التاريخيين الستة" وهو رابح بيطاط. غير أن هذا الاختيار لم يمنعها من مواصلة النشاط السياسي، كنائبة في المجلس التأسيسي الذي كان من المفروض أن يضع مسودة أول دستور في تاريخ الجزائر المستقلة. كانت السيدة بيطاط ترى اسوة بغيرها من المناضلين والمناضلات، ان الاستقلال ليس غاية في حد ذاته، بل مرحلة فقط على طريق بناء الدولة الجزائرية. وفي هذا السياق كان طموحها يتلخص في "المساهمة في بناء الجزائر الجديدة بكفاءاتنا المتواضعة" حسب قولها، في اشارة الى انها ومعظم رفيقاتها أدركن الاستقلال وهن ما زلن في ريعان الشباب، ولم يكنّ بالتالي على خبرة بالبناء الميداني. لكن الاتجاه العام للبناء كان واضحاً، على أساس المحتوى الاجتماعي لحرب التحرير، أي بناء دولة جمهورية وديموقراطية تتيح امكانية الانفتاح والرقي للجماعات والأفراد "فقد كانت استعادة السيادة الوطنية في أذهاننا مقرونة باستعادة الفرد أيضاً لكامل حرياته". في رحاب المجلس التأسيسي كانت السيدة بيطاط تحاول مع عدد من نظيراتها، تكريس مشاركة المرأة الجزائرية في بناء البلاد، على قدم المساواة في الواجبات والحقوق. وجاء مشروع الدستور الأول مطابقاً لهذا التطلع المشروع، بإقرار مبدأ المساواة بصرف النظر عن الجنس أو العرق أو العقيدة، وسارت على هديه تشريعات العمل المختلفة التي تم سنها منذ فجر الاستقلال الى يومنا هذا. غير أن هذه المناضلة، ما لبثت ان اصطدمت بالواقع الاجتماعي الذي كان لا يزال دون هذه الارادة التشريعية السابقة لأوانها، كما اصطدمت أيضاً بالواقع السياسي، من خلال السباق المحموم للاستيلاء على السلطة واجهزتها المختلفة. تقول السيدة بيطاط: "اصطدمنا منذ البداية بإرادة السلطة الجديدة في كم أفواه الجميع مناضلين ومناضلات"! لكن السيدة بيطاط اصطدمت بحقيقة أخرى: انها "رهينة" زواجها من أحد أقطاب ثورة التحرير وبداية الاستقلال الزعيم رابح بيطاط. وتفسير ذلك، ان الرئيس بن بله كان مهووساً يومئذ بمحاولة تحييد الزعماء من رفاقه، لكي يصبح الزعيم الأوحد الذي لا شريك له في "الكاريزما" و"الشرعية التاريخية". وللوصول الى هذه الغاية، لم يكن يتحرج من محاولة ضرب الجيش بالحزب، أو الحزب بالجيش، كما لم يكن يرى حرجاً في محاولة ضرب خيضر ببيطاط أو هذا بذاك! زوجان حران كان بيطاط يومئذ هو المسؤول الفعلي لجبهة التحرير، فكان بن بله يحاول اثارة محمد خيضر عليه فيعاتبه من حين الى آخر بقوله: "انك تزجي الوقت في الاستقبالات وشرب الشاي مع ضيوفك، تاركا شؤون الحزب كلها بيد بيطاط". وكان بيطاط حريصاً على تطبيق مضمون "برنامج طرابلس" - الذي صادق عليه مجلس الثورة عشية استقلال الجزائر - فإذا به يجد نفسه بين المطرقة والسندان: مطرقة الجيش وسندان بن بله. هذا الوضع الذي كان يعيشه بيطاط، ما لبث ان انعكس على زوجته الزهرة التي تشرح ذلك بقولها: "على رغم انني أبرمت اتفاقاً مع زوجي على أن يكون كل منا حراً في مواقفه السياسية، الا انني سرعان ما أدركت ان جل مواقفي الشخصية تحسب عليه"! فهي لم تكن في نظر زملائها في المجلس التأسيسي - أو في اتحادية العاصمة للجبهة - الزهرة المجاهدة، بل السيدة بيطاط فحسب! لم تفهم السيدة بيطاط حقيقة وضعيتها في بداية الأمر، لاحساسها بأن وجودها في المجلس التأسيسي مثلاً كان ثمرة كفاحها الخاص وليس ارضاء لزوجها! ولأنها كانت تتصرف سياسياً بكامل حريتها. وتؤكد ان الذين اعتقدوا عكس ذلك كانوا مخطئين، وهذا ما ذكرت به لاحقاً بالقاسم الشريف أحد المقربين الى العقيد هواري بومدين في تلك الفترة، عندما قالت له: "وقعتكم في كثير من المآزق السياسية، لخطأ اعتقادكم بأنني مجرد نسخة من زوجي". هذا الخلط طبعاً، جعل كل ما يمس بيطاط المسؤول الفعلي للحزب ينعكس عليها مباشرة! ويذكر ان بن بله عندما قبل صفقة التحالف مع العقيد بومدين في نهاية حرب التحرير، تمكن من كسب اثنين من رفاقه في السجن هما خيضر وبيطاط، مما فرض عمليا نوعا من العزلة على اثنين آخرين من "الزعماء الخمسة" وهما محمد بوضياف وحسين آيت احمد. لكن التحالف الثلاثي لم يصمد طويلا، وتشير الزهرة الى صفقة أخرى أبرمها بن بلة مع خيضر الأمين العام للمكتب السياسي بوساطة من سفير مصر آنذاك علي خشبة. تمت هذه الصفقة في ربيع 1963، ومضمونها ان يتنازل خيضر عن صلاحياته في المكتب السياسي للرئيس بن بله، ليتمكن بذلك من الجمع بين السلطات السياسية والتنفيذية، تجنباً لوجود قطبين متنازعين في قمة هرم السلطة. هذه الصفقة كانت تعني بيطاط طبعاً باعتباره "المسؤول التنفيذي" في جبهة التحرير، وكان بن بلة يومئذ كثير التذمر من "توزيع السلطة الفعلية بين بومدين في الجيش وبيطاط في الحزب" حسب قوله. كان من الطبيعي ان يعترض بيطاط على "هذا الاتفاق الذي لا صلة له بالسياسة" حسب رأيه. وقد عتب على خيضر الذي كان "من حقه أن يستقيل وليس ان يتنازل لبن بله عن الحزب كله". وكان رأي بيطاط ان المشكلة تخص المكتب السياسي بكامل أعضائه، وليست مشكلة اثنين من أعضائه فقط مهما بلغت اهميتها، كما ان المشكلة تتعلق بالدولة ومستقبل البلاد، وليست مسألة شخصية بين بن بله وخيضر. وبالتالي كان ينبغي طرحها على المكتب السياسي أو اللجنة المركزية. وحسب شهادة الزهرة بيطاط، فإن زوجها وخيضر كانا في البداية متفقين على إعادة بناء الحزب، طبقاً لتوجيهات "برنامج طرابلس" الذي صادق عليه مجلس الثورة عشية الاستقلال في العاصمة الليبية. لكن بن بله ما لبث ان اختلف معهما مدعياً انه هو الحزب! بعد انسحاب خيضر، غداة الصفقة المذكورة، رفض بيطاط سياسة الأمر الواقع، وبقي صامداً مع بعض الأوفياء لفكرة الحزب، الى ما بعد مؤتمر الجزائر الذي عقد في نيسان ابريل 1964. لكن بن بله الذي خرج - في الظاهر - معززاً من المؤتمر، بدأ يفكر بجد في حسم الخلاف لمصلحته، سواء مع دعاة "أولوية الحزب" أو مع أنصار "أولوية الجيش". حاول بن بله في 24 حزيران يونيو 1964 اعتقال بيطاط ونفيه الى أعماق الصحراء، كما فعل قبل ذلك مع عدد من خصومه، بينهم محمد بوضياف رفيقه السابق في محنة السجون، وفرحات عباس رئيس المجلس التأسيسي. غير أن بيطاط العارف بدواخل بن بله، وصاحب الخبرة الطويلة في النضال السري، استطاع ان يضلل "رجال الرئيس" ويفلت من قبضتهم. ولجأ الى فرنسا، لكنه ادرك بسرعة ان معارضة الحكم من الخارج مضيعة للوقت، فعاد ادراجه غير آبه بما ينتظره من رفيقه السابق الذي فرض عليه نوعاً من الاقامة الجبرية، ووضعه تحت المراقبة الدائمة للشرطة. وبقي على هذا الوضع حتى وقوع انقلاب 19 حزيران 1965 الذي أطاح بأول رئيس للجزائر المستقلة. أما الزهرة بيطاط فقد حفظت جيداً دروس عهد بن بله، ومنها ان العمل النسوي في الميدان السياسي كان يبدو آنذاك سابقاً لأوانه، لذا فضلت اقتحام مجال المحاماة لفرض نفسها وتحقيق استقلاليتها في الجزائر الجديدة. كان ذلك سنة 1967، بعدما استكملت دراستها في كلية الحقوق بجامعة الجزائر التي كانت تركت مقاعدها سنة 1956. وكان عدد المحاميات آنذاك لا يتجاوز اصابع اليد الواحدة. تقول السيدة بيطاط في مزايا هذه المهنة "انها تضعك في صميم الواقع"، لا سيما انها شخصياً اختارت الدفاع في قاعات المحاكم لتكون قريبة من الناس ومشاكلهم. وقد رافعت كثيراً خارج الجزائر العاصمة، في محاكم الشلف ووهران وتلمسان وغيرها، "ما أتاح لها أن تتابع عن كثب مسار التطور في البلاد بايجابياته وسلبياته" حسب قولها. أوضاع المرأة وعايشت المحامية بارتياح التطور الحاصل في مستوى أوضاع المرأة ومكانتها في المجتمع. وتعزو هذا التطور الايجابي الى عاملين: - أولاً: "تطلع الى التطور من المحيط العائلي نفسه. فكل أم كانت تريد لابنتها أن تكون أحسن منها بدءا بالمستوى التعليمي". - ثانياً: "تطلع قوي من المرأة نفسها الى المشاركة في بناء الجزائر الجديدة على جميع الأصعدة". وساعد التطور السريع في العقلية الجزائرية بصفة عامة في احتلال المرأة الجزائرية مكانة أفضل نسبياً من التي وصلت اليها جاراتها في البلدان الشقيقة خصوصاً، ويتجلى ذلك بوضوح على مستوى التحرر الفعلي. وترفض الزهرة بيطاط اتهام الجيل الجديد من النساء المناضلات الجيل السابق "بالانسحاب من الميدان السياسي بعد الاستقلال". وترى انها ورفيقاتها بقين في الميدان صامدات، على رغم ان الظروف السياسية بعد الاستقلال مباشرة فرضت عليهن التكيف والبدء من جديد، تماشياً مع الأوضاع المستجدة. وتؤكد انه بفضل نضال الرعيل الأول من الجزائريات تم تضمين مبدأ المساواة بين الجنسين أول دستور للجزائر المستقلة 1963، وتكريسه في مختلف تشريعات العمل المنبثقة عنه. وتقدم مثالاً على ذلك سلك العدالة والمحاماة على رغم حساسيتهما، فقد اقتحمت المرأة هذا الميدان منذ فجر الاستقلال، وكان التساؤل المطروح يومئذ: "هل يثق الرجل في دفاع امرأة عنه"؟ غير أن الممارسة كشفت ان مثل هذا التساؤل لم يكن في محله، "فقد منحنا أشخاص واجهوا أحكاماً بالاعدام الثقة الكاملة في الدفاع عنهم". وأضحت المرأة قاضية ونائبة عامة، فضلا عن اقتحام ميادين أخرى أقل حساسية من العدالة. قانون الأسرة في 1984، طرح مشروع قانون جديد للأسرة على مجلس النواب الذي كان يرأسه زوجها الذي توفي سنة 2000، فسارعت الزهرة بيطاط وعدد من رفيقاتها المجاهدات لرفض المشروع الذي رأت فيه: أول تظاهرة للتطرف الاسلامي على مستوى التشريع. كانت الزهرة بيطاط من موقعها كمحامية تواجه يومياً المشاكل المتعلقة بالأحوال الشخصية، وكان القانون المدني قبل ذلك يترك مسألة الاستفادة من السكن العائلي - على سبيل المثال - لتقدير القاضي حسب اوضاع المرأة. لكن القانون الجديد جاء يحسم هذه المسألة الدقيقة لمصلحة الزوج. وتتساءل: "هل يجوز شرعاً أن نرمي الزوجة المطلقة وابناءها في الشارع"؟ وترى ان الذين وضعوا قانون الأسرة ربما "انطلقوا من حالتهم كرجال وليسوا كمشرعين، يتعين عليهم رصد التطورات الحاصلة على مستوى العائلة والأقارب والمجتمع ككل". لو فعلوا ذلك لتبينوا ان المرأة المطلقة، لم تعد تتمتع اليوم بالكفالة الجماعية نفسها التي كانت تضطلع بها الأطر التقليدية كالعائلة والعشيرة وغيرها. إن رد الفعل الغالب لوالد المطلقة اليوم، عندما تعود الى بيت والديها: "انت على الرحب والسعة. اما الأبناء فاتركيهم له"! شاركت الزهرة بيطاط بناء على رفض هذا المشروع مع عدد من المحامين والمحاميات في حملة باتجاه مجلس النواب والحزب الحاكم يومئذ، بدأت بتقديم مشروع بديل، وانتهت بالاعتصام أمام مبنى المجلس، لكن هذه التحركات لم تحدث صدى، مما زاد السيدة بيطاط وزميلاتها اصراراً على مواصلة المقاومة بطرق أخرى بعيداً عن الأضواء. واستمر نضال السيدة بيطاط في الظل أكثر من ثلاثة عقود متواصلة، قبل أن تعود الى الواجهة غداة انتخاب الرئيس بوتفليقة في ربيع 1999. وكانت أول مهمة لها خلال العهد الجديد تعيينها في لجنة اصلاح العدالة التي قدمت لبوتفليقة اقتراحات جوهرية، يعكف وزير العدل الحالي احمد أويحيى على تطبيقها. وحسب محدثتنا "فإن عشرية مكافحة الارهاب زادت تضخيم الأمراض السابقة لجهاز العدالة وسارعت بتفكيكه"، ما يوجب الاسراع باصلاحه. وترى ان عودة الاستقرار الى البلاد شرط أساسي لذلك، طالما أنه من الصعوبة بمكان انجاز أي اصلاح والنار لا تزال مشتعلة. وبعد لجنة اصلاح العدالة، عين بوتفليقة الزهرة بيطاط عضواً في مجلس الأمة الغرفة الثانية في البرلمان ضمن قائمة الثلث الرئاسي المعين، وتبدو السيدة بيطاط وفية لمسعى بوتفليقة الذي سارعت لتبني برنامجه الانتخابي مطلع 1999، على أساس الاعتقاد بأنه "قد يوقف انزلاق الدولة نحو الانحطاط والتفكك". وقد بدأ منحنى الانحطاط - حسب رأيها - في منتصف الثمانينات، ومن أبرز مظاهره إحالة كبار الموظفين الى التقاعد في سن الأربعين! فضلا عن تدمير الاقتصاد وما سبق بناؤه بجهد كبير منذ فجر الاستقلال. تقول الزهرة بيطاط: "ان الحكم في عهد الرئيس بن جديد، بدل أن يعالج أو يصحح أخطاء تجربة الرئيس بومدين قام بتدميرها نهائياً". ووجد الرئيس بوتفليقة نفسه غداة انتخابه امام تحد من نوع خاص، يتمثل في اعادة وضع أسس الدولة "في ظروف أصعب من ظروف الاستقلال". لذا ينبغي "الوقوف بجانبه في معالجة ما يمكن علاجه" حسب قولها.