ارتفاع الدولار بعد اتفاق تجاري بين الولايات المتحدة والصين    محمية الإمام عبدالعزيز بن محمد تزيل أكثر من 719 ألف طن من الأنقاض    زيارة ترمب للمملكة تجدد التأكيد على عمق العلاقات السعودية الأمريكية وشراكة متعددة الأبعاد    الصين من النسخ المقلد إلى صناعة المتفوق    وسام استحقاق المجلس الأولمبي الآسيوي لابن جلوي    رباعيات «الزعيم العالمي» تعود    خطوة واحدة يا عميد    غرامة 20,000 ريال للحج بلا تصريح    الدفاع المدني: لا تستخدموا المصاعد أثناء الحرائق    70 % من مرضى الربو يعانون من حساسية الأنف    المملكة شريك موثوق في صياغة الحلول ودرء الأزمات    ترمب في السعودية.. الدلالات والمآلات الاستثمارية    النفط يرتفع مع تخفيف حدة النزاع "التجاري العالمي"    فهد بن سلطان يستعرض جهود «الكهرباء» في تبوك    نظير إسهاماته في تنمية الحركة الأولمبية .. المجلس الأولمبي الآسيوي يمنح"ابن جلوي"وسام الاستحقاق    عبدالعزيز بن سعود يرعى تخريج 1935 طالباً في كلية الملك فهد الأمنية    من كوينسي إلى نيوم.. "ترمب" يعود إلى الرياض    تعليم المدينة ينفذ إجراءات التوظيف التعاقدي ل1003 مرشحين    «المتحف الوطني» يحتفي باليوم العالمي للمتاحف    الحرف اليدوية.. محاكاة الأجداد    مكتبة الملك فهد الوطنية تطلق خدماتها عبر «توكلنا»    «الشؤون الإسلامية» بجازان تحقق 74 ألف ساعة تطوعية    المملكة.. حضور بلا ضجيج    ضمن مبادرة"مباراة النجوم".. القادسية يستضيف 30 شخصاً من ذوي الإعاقة    3 أيام لمعالجة عوائق التصدير    تعاونية جامعة الملك سعود تعقد إجتماع عموميتها الأثنين القادم    "الشريك الأدبي" في جازان: حوار مفتوح بين الكلمة والمكان    طلب إفلاس كل 6 ساعات عبر ناجز    استقرار معدلات التضخم عند 2% بدول الخليج    الشؤون الدينية تطلق خطتها التشغيلية لموسم الحج    سمو ولي العهد يستقبل لاعب المنتخب السعودي لألعاب القوى البارالمبية عبدالرحمن القرشي بمناسبة تحقيقه ذهبية دورة الألعاب البارالمبية في باريس    حماية مسارات الهجرة بمحمية الملك    الهلال يستمر في مطاردة الاتحاد بالفوز على العروبة    التحالف الإسلامي يدشن مبادرة لتعزيز قدرات فلسطين في محاربة تمويل الإرهاب وغسل الأموال    مجلس الوزراء: نتطلع أن تعزز زيارة الرئيس ترمب التعاون والشراكة    ٦٠ مراقبا ومراقبه في ورشة عمل مشتركة بين الأمانة وهيئة الغذاء    حفل ختام وحدة الثقافة والفنون بكلية الآداب في جامعة الإمام عبدالرحمن    محافظ الطائف يكرّم الجهات المشاركة في برامج وفعاليات أسبوع المرور    "مبادرة طريق مكة".. تأصيل للمفهوم الحقيقي لخدمة ضيوف الرحمن    ورشة "قرح الفراش" ترفع الوعي وتعزّز جودة الرعاية في منازل مستفيدي القصيم الصحي    وداعًا يا أمير التنمية والإزدهار    إنقاذ مريضة تسعينية من بتر الطرف السفلي    الناصر: أرامكو أثبتت قوة أدائها وأرباحها ر    حاجة ماليزية تعبر عن سعادتها بالقدوم لأداء فريضة الحج    أمريكية وابنها يحصلان على الماجستير في اليوم نفسه    الهروب إلى الخيال..    اعتماد 32 عضوًا بالمجلس الاستشاري للمعلمين    فريق كشافة شباب مكة يكرّم الأحمدي    نُفّذ لتحسين سبل العيش في محافظة لحج.. فريق مركز الملك سلمان يطّلع على مشروع «التمكين المهني»    انطلق بمشاركة 100 كادر عربي وأوربي.. أمين الرياض: «منتدى المدن» يعزز جودة الحياة ويقدم حلولاً مشتركة للتحديات    بتنظيم من وزارة الشؤون الإسلامية.. اختتام تصفيات أكبر مسابقة قرآنية دولية في البلقان    سورلوث مهاجم أتلتيكو يتفوق على ميسي ورونالدو    السعودية تقود المشهد من حافة الحرب إلى طاولة التهدئة    أسرة الجهني تحتفي بزواج عمّار    عودة «عصابة حمادة وتوتو» بعد 43 عامًا    المملكة تواصل ريادتها الطبية والإنسانية    أمير منطقة تبوك يرعى بعد غد حفل تخريج متدربي ومتدربات المنشات التدريبية    تخريج الدفعة ال 19 من طلاب جامعة تبوك الأربعاء المقبل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المتنبي "عاشق حزين" في افتتاح "مهرجانات بعلبك الدولية" . منصور الرحباني : فيروز موهبة عظيمة لكن مسرحنا لم يقم على نجوميتها
نشر في الحياة يوم 09 - 07 - 2001

لا يزال منصور الرحباني السبعيني غزير العطاء، لذا لا يجد محاوره صعوبة في السؤال عن جديده. الصعوبة تكمن في البحث عن أسئلة جديدة بعد سنوات طويلة من العطاء، كرست الرحبانيين بين أبرز مؤسسي الأغنية اللبنانية الحديثة. فقد طُرِحت على الأخوين رحباني أسئلة كثيرة، وطاول النقد مختلف جوانب المؤسسة الرحبانيّة. لذا لا مفرّ من أن يكون الحديث مع منصور الرحباني، بمعنى ما، إستعادة لتساؤلات قديمة، يجيب عليها هو بلغته الخاصة، بمفردات الأخوين الرحباني، تلك التي أغنيا بها قصائدهما وأعمالهما المسرحية.
التقينا منصور وهو في غمرة التمارين على أحدث أعماله، أي أوبريت "المتنبّي" التي افتتحت بها "مهرجانات بعلبك الدوليّة"، قبل أيّام قليلة، برنامجها الحافل لهذا الموسم. وسبق للمسرحيّة أن عرضت في دبي، وكشف منصور الرحباني مباحثات تجري مع وزير الثقافة المصري فاروق حسني لعرض "المتنبي" في مصر. واحتفظ لنفسه بحق رفض الإجابة على أي سؤال لا يعجبه، لكنه أجاب في النهاية على كل الأسئلة. قال إن المسرح الغنائي لا يقوم على نجمة واحدة، وإن أعمال الرحابنة ليست كلها قروية الطابع، وإنه يترك لكل مشاهد أن يقرأ عمله كما يريد. وعبّر عن حنين كبير إلى أيامه مع عاصي.
أجاب منصور على كل الأسئلة، واحتفظ بكل الأسرار. لم يقل كيف كان يعمل مع أخيه الأكبر، ولا كيف توزعت المساهمات والمسؤوليّات بينه وبين عاصي، مع العلم أن هذا السرّ يشكّل، بالنسبة إلى كثير من النقّاد والدارسين ناهيك بالجمهور العريض، سحراً يزيد من فرادة المغامرة الرحبانيّة التي لم تعرف الأغنية العربيّة المعاصرة لها مثيلاً.
لماذا اخترت المتنبي؟ وأي "متنبي" قدمت، ونحن نعرفه واحداً من أهم الشعراء العرب؟
- إخترته لأنه واحد من أهم الشعراء العرب. حياة هذا الإنسان غنية جدّاً، تشكّل مصدراً ثريّاً للالهام. منذ 1500 سنة وهو يُستعاد كل يوم في كل المدارس، وفوق كل المنابر الاعلاميّة، في كل أنحاء العالم العربي. تسمعين كل يوم على لسان الناس العاديين، بعض أبياته التي ذهبت أمثالاً وحكماً: "إذا أتتك مذمتي من ناقص..."، "ومن نكد الدهر على الحر أن يرى..."، وقيسي على ذلك. المتنبي حاضر بيننا كأن كل هذا الزمن لم ينجح في محو صورته، وابتلاع صدى صوته.
من جهة ثانية، عاش هذا الشاعر الكبير خلال فترة شهدت انهيار السلطة العباسية، وكان همه إعادة توحيدها في سلطة عربية واحدة، والتقى بسيف الدولة، وما إلى ذلك. لذا قيل الكثير عن ديوان المتنبي الذي حمل أغراضاً متعددة، لكنّ قلّة اهتمّت بالبعد العاطفي لهذا الشعر. لماذا تمّ تجاهل الحب لدي أبي الطيّب؟ أنا أردت أن أسلّط الضوء على هذا الجانب: المتنبي كان عاشقاً حزيناً، يخبئ امرأة في أعماقه ويرحل بها. على أي حال لا أحب أن أشرح العمل الفني، كي لا أسجن المتلقي في الزاوية التي أريدها. فليتفاعل كل إنسان مع العمل بطريقته الخاصة، وقد ألعب دوراً في التأثير على المتفرّج، لكن من خلال الصور والحالات التي خلقتها، لا من خلال الشرح والتنظير. إذا كان في الصالة ألف شخص يشاهدون العمل، سيكون هناك ألف تفسير له، وهذا أجمل من الشرح بكثير.
سقراط الرحباني
لكن من المؤكد أن جزءاً من منصور الرحباني يختبئ في هذا العمل.
- من دون شك. عندما يتصدى الفنّان لمشروع ابداعي، لا بدّ أن يترك عليه بصماته، ويعبّر من خلاله عن رؤيته. ولا بدّ من أن يعكس هذا العمل حساسيّة الفنّان وجوانب من شخصيّته وذاته. عايشت المتنبّي، ولا شك في أنني سأصل من خلاله إلى الناس. وهكذا كان الأمر بالنسبة إلى سقراط، بطلي السابق، مثلاً. لقد قدمت سقراط الرحباني. على أية حال لست متأكّداً من وجود صورة واقعيّة أمينة لسقراط الذي وصلنا بطريقة غير مباشرة، من خلال أفلاطون وزينون. وهكذا نقرأ "متنبي" إدوار البستاني، و"متنبي" رضوان الشهال. المتنبّي الذي كتبته فيه، بطبيعة الحال، الكثير من منصور الرحباني.
مشروع مثل "المتنبي" لا بدّ من عرضه في مصر، فهل فكّرت في ذلك؟
- هذا صحيح. طبعاً فكّرت في ذلك، ثمة محادثات مع وزير الثقافة المصري فاروق حسني، لعرض المسرحيّة الغنائيّة في القاهرة.
أي أنك ستعيد المتنبي إلى مصر.
- للمتنبي أصدقاء كثر في أرض الكنانة. ولا شكّ في انّ كثيرين في مصر يحفظون شعره ويحبونه. لذلك ربّما تحمّس الوزير حسني للفكرة. الشعب المصري واع جداً، ومنفتح، ويحب الجمال أياً كان مصدره.
قبل أن يعرض العمل في لبنان، ثمة نقاد أخذوا عليك اختيارك شخصية محبوبة تحظى بالإجماع، وتثير التعاطف، وتجذب الجماهير... لماذا لم تختر شخصية تثير الجدل في لبنان والوطن العربي ؟
- وماذا يريد هؤلاء النقّاد؟ أكل العنب أم قتل الناطور؟ صار الإنتقاد غاية في ذاته هذه الأيّام! يمتلك المبدع مطلق الحريّة في اختيار الموضوع الذي يحبّ، والشخصيّة التي يشاء، وله أن يقدّم الطرح الذي يتناسب مع أفكاره ورؤيته. إذا كان المقصود هو أنّني أقدّم تنازلات للسوق ولشبّاك التذاكر، فهذا النقد أقرب إلى الهذيان. لا يكفي اسم المتنبّي كي تحقق النجاح، بل بالعكس. قد ينتظرك الناس عند أقلّ زلّة أو خطأ في مثل هذه الحالات. من حقّ النقاد والجمهور، أن يطالبوني بعمل جميل، متماسك شكليّاً، ومجدد فنيّاً. ومن حقّي أن أكون سيد أفكاري، أختار ما أريد، وأعرف ماذا أريد أن أقدم، وقادر على توصيل الرسالة.
وهل هناك تجديد فنّي في المسرحيّة؟
- انتظروا ريثما تشاهدون العمل، وستحكمون بأنفسكم!
هل نقلت المتنبي كما هو، أم قمت ب "عصرنته"؟
- أصغيت إلى هذا الشاعر، وسافرت في حياته ومشاعره وعصره، ثمّ عدت بحصاد فنيّ يخاطب عصري وجمهوري. سترون العمل، وأترك للمشاهد أن يقدم حكمه.
هل أغير نفسي؟
من يتابع أعمالك بعد رحيل شقيقك عاصي الرحباني، يرى فيها امتداداً للخط الفني الذي بدأتماه. هل يعود السبب إلى خيار واع، بأن تبقى "أميناً" للمدرسة الرحبانيّة؟ أم أنّك لم تتمكّن بعد من الخروج على الخطّ الذي رسمتماه معاً؟
- أنا أحد الأخوين رحباني، فهل أغير نفسي؟ لقد بقيت كما أنا، وواصلت وحدي الرحلة الفنيّة التي بدأتها مع عاصي، لكنني أشير إلى أن هذا الخط يتطور، بفكره وطرحه وأدواته وأسلوبه. المفردات كائنات حيّة، يسقط بعضها كل يوم وتغتني بالجديد. والنغمات الموسيقية تتغير، وكذلك تقطيع السيناريو. فقد صار مع مرور الأيام أسرع. إن الحياة تتطور، هكذا صار الرحباني اليوم، غير ما كان عليه قبل عقدين. ولو كان عاصي موجوداً اليوم، لكان سيتغير ويتطوّر بالضرورة. من يتوقف عند حد معيّن ينتهي.
أهذا عامل من عناصر نجاح الرحابنة؟
- لا أستطيع أن أقول إن كان هذا العامل أحد عناصر نجاح الرحابنة أم لا. لكن الوقوف يعني أن الإنسان انتهى، من الطبيعي أن يسير مع الحياة، والحياة تتغير، يجب أن يماشي الإنسان عصره.
ارتبط المسرح الغنائي الرحباني بثلاثة أشخاص، هم أنت وعاصي والمطربة فيروز.
- مقاطعاً لماذا تنسون دائماً نصري شمس الدين؟
لكن ارتباط فيروز بهذا المسرح التصق أكثر في أذهان الناس.
- لا شك. فيروز من العائلة الرحبانية، هي أحد الثلاثة، عندما كنا جميعنا غير مشهورين، تمسكنا ببعضنا ومشينا. وفيروز، هي هذه الموهبة العظيمة، وهذا الحضور والصوت القادر على إيصال الفكرة بأمانة. هل هناك أجمل من صوتها وحضورها؟ لكننا عملنا مع آخرين. عملنا مثلاً مع المطربة صباح.
انطلاقاً من واقع تميز حضور فيروز وصوتها، وهي واحدة من العائلة الرحبانية، ألا تجد صعوبة في إيجاد من تحل مكانها؟
- إنها فكرة خاطئة. لا يرتكز مسرحنا على نجمة، بل على أشخاص وعلى أبطال عدة. وفي المسرح العالمي اليوم، بطولات عدة، وأنا أتبع هذا النهج العالمي. في المسرح أبطال وبطلات، وذلك حسب الموضوع الذي نعالجه، عندما نقدم سقراط يكون البطل رجلاً، أليس كذلك؟
حدود القرية الرحبانيّة
نشعر أن القرية لا تزال حاضرة في أعمالك، فيها إنطلياس القديمة، والمقهى.
- لا، هذه مرحلة قديمة. في مسرحية "الشخص" طرحنا قضية دولة، وفي "يعيش يعيش"، و"جبال الصوان"، و"فخر الدين"، كانت القرية مجازاً للوطن. أما "موسم العز" فهي تروي قصة قرية وتقاليد. من ناحية أخرى يحتاج الإنسان إلى أرضية تقوم عليها حكايته، علينا أن نحدد الأشخاص والأمكنة. مثلاً كانت هناك شخصية اسمها سعيد، فلا بدّ أن نتصوّرها في اطار مكاني مجدد، هكذا نجعلها تعيش في قرية اسمها جويا مثلاً. عندما أراد ديستويوفسكي أن يكتب رواية، كان يبحث عن قرية يحددها، لكي تصير القصة حقيقية قائمة على أرضية راكزة، ومن ثم يُدخل إليها عواطف عالمية. مفهوم العالمية لا يعني أن نتنكر للمكان الأوّل، من المحدود نفتح طاقة على اللامحدود.
لكن مفردات القرية وروحها وعاداتها حاضرة بقوة في أعمال الرحابنة، في المسرحيّات والأغاني التي كتبتموها.
- في نوع من الأغاني فقط. ماذا عن القرية عندما نقول "يا ريت إنت وأنا بالبيت/ شي بيت أبعد بيت/ ممحي ورا حدود العتم والريح/ والتلج نازل بالدني تجريح/ تضيّع طريقك ما تعود تفلّ/ وتضلّ حدّي تضلّ/ وما يضلّ بالقنديل نقطة زيت/ يا ريت...". إنها قصة معاناة عاطفية وإنسانية، أيّاً كان الديكور الملموس. أريد أن أنبه إلى مسألة مهمة، لا يجب أن نخلط بين القرية والطبيعة، لا شعر خارج الطبيعة في كل العالم.
هل تعتبر أن أعمال الأخوين رحباني لم تقتصر على القرية، بل رافقت تطور المجتمع اللبناني والعربي؟
- نحن انبثقنا من مكان معين، من قرية. لكننا انطلقنا منها إلى المجتمع كله، وخاطبنا العالم أجمع.
وكنتم أول من أدخل الأغنية القصيرة إلى الإذاعة اللبنانية.
- طبعاً كنا أول من قدمها في العالم العربي.
في هذا الإطار، هناك من يعتبر أنّكما غرّبتما الأغنية العربية.
- لا "غرّبنا" ولا "شرّقنا"! نحن نعيش في هذه البقعة من حوض المتوسط، إننا عرب المتوسط. تأثرنا بتيارات موجودة في أرضنا، تيارات إسلامية، ومسيحية، وسريانية، وبيزنطية، وأرمنية، وتركية... وتأثرنا بما درسناه وسمعناه، بالموسيقى الكلاسيكية العالمية. وشبابيك الشعوب مشرّعة اليوم على الحضارة أكثر من أي وقت مضى. لكن عندما قدمنا أعمالنا قدمناها رحبانية، هذه هي الشخصية الرحبانية، وهذه هويتي. أنا شرقي عربي لبناني، وهذه هي موسيقاي.
هل كان عاصي أوسترالياً ؟
لماذا يميّز بعض النقاد بين أعمالكم والأعمال العربية الأخرى؟
- نحن صنعنا الموسيقى الرحبانية، ونحن عرب. هل أنا أوسترالي، هل كان عاصي أوسترالياً؟ الموسيقى الرحبانية عربية حكماً، نحن عرب لبنانيون. وأهم عامل في الشعر والموسيقى والفنون كلها هو الأرض، الأرض والمناخ. أي الهويّة.
وهل الهويّة وحدها تحدد الأسلوب؟ أي علاقة بين الثقافة والموهبة؟
- العناصر الجماليّة ترتبط، بشكل من الأشكال، بالهويّة وخلفياتها وروافدها. لكنّ الأسلوب خلاصة تفاعل مع كلّ ما ينجز في العالم من دون تمييز جغرافي أو اتني أو معرفي. أما الموهبة فلم تعد كافية لخلق الفنّان. لم يعد من المقبول في عصرنا هذا أن يقال فلان موهوب فقط. الموهبة عنصر أساسي ومهمّ، لكن الفنّان يحتاج إلى المعرفة والإطلاع والتفاعل مع انجازات عصره والعصور السابقة. لا يمكن لعمل ناجح أن يقوم على الموهبة وحدها، الثقافة هي عماد النجاح الفنّي، والشرط الذي لا بدّ منه للتمايز، فكرياً وابداعياً وانسانياً. ما النفع إذا كان الفنان الفلاني موهوباً وأمياً، ينتج أعمالاً بدائية، هناك من سبقه إليها قبل مئات السنين؟
هل اعتمدت هذه المنطلقات لإنجاز "المتنبي"؟
- لا أقدم عملاً من دون العودة إلى المراجع، قبل أن أكتب مسرحية "المتنبي" درست حوالي 26 مرجعاً. أنا إنسان يقرأ كثيراً، ولا أقدم إلا الأعمال المستندة إلى واقع تاريخي، حياتي وعلمي. ولا أزال أقرأ إلى الآن كتابين كل أسبوع.
جمهورنا كلّ الناس!
تتحدث عن أهمية الثقافة في زمن يبتعد فيه الناس عن الأعمال الثقافية، فمن هو جمهورك حالياً؟
- جمهورنا هو كل الناس، المثقف والإنسان العادي. نشكر الله لأننا نصل إلى كل طبقات المجتمع، وغاية الفنان أن يصل إلى الآخرين، أن ينزرع في الآخرين لأنه يخاف على نفسه من الزوال. إنّه يجد شيئاً من العزاء في الوصول إلى الآخرين. أنا أريد أن أصل إلى كل الناس، وعندما لا أصل إلى الجمهور الواسع بكلّ فئاته، أراجع نفسي وأفكّر أنني قد أكون أنا المخطئ.
هل ما زلت تتمتّع بجمهور واسع لأنك منصور الرحباني؟
- كلا. بل لأننا عرفنا كيف كتبنا وألّفنا. هذا هو سرّ نجاحنا. إننا أبناء هذا الشعب، عواطفنا هي عواطفه، وقد التقطنا وجعه وهمومه وتوقه إلى الحرية.
وماذا عن الفنانين الجدد من آل الرحباني؟
- لا بدّ أوّلاً من التوقّف عند الياس وهو يصغرني ب 15 سنة. لقد بدأ التلحين بعدما اشتهرنا عاصي وأنا أي "الأخوان الرحباني"، فكان من الطبيعي أن يوقع اسمه وحده. والياس صار أستاذاً كبيراً، وله أعمال مهمة. أما في ما يتعلق بالجيل الرحباني الجديد، فإننا لم نقصد أن نجعلهم فنانين، أتينا لهم بأساتذة موسيقى ليدرسوها مع علومهم الأخرى، لكنهم اشتغلوا جميعهم في الموسيقى. لم أرد ذلك لأنها مهنة القلق.
لكل منهم خطه الموسيقي.
- صحيح. لقد تأثروا بنا، كبروا في محيطنا، لكنهم درسوا الموسيقى وتثقفوا. وعندما يريد الإنسان أن يعطي يقدم من ذاته، خصوصاً أبناء المشاهير. على أي حال كلهم موهوبون.
أي زياد وأسامة وغسان.
- كلهم موهوبون.
هل يمكن الحديث عن وراثة عائليّة في الفن؟
- كلا. لا وراثة في الفن. قد يكون إبني الفنان شخص لا أعرفه، مثلاً لقد تبين أن أولادي أسامة وغدي ومروان موهوبون. وتبين أن مروان أهم مخرج حتى الآن، لأن أحداً لم يخرج مثله. ولا يمكن لأحد في أوروبا مثلاً أن يخرج مسرحية "المتنبي"، لقد حرك مجاميع كبيرة، ورأيت أن مستوى غدي وأسامة متميز فتعاونت معهما.
وماذا عن علاقتك بأخيك الأكبر؟ لنعد إلى أيامك مع عاصي، كيف كان التعاون بينكما، أي كيف كانت طبيعة عملكما، هل تحن إلى تلك الأيام؟
- بلا شك... عاصي رحل، هذه إرادة الله، لا شك أني فقدت الشيء الكثير، لم أعتقد يوماً أني سأقف وحدي. كنا دائماً معاً عاصي وأنا، والتأليف كان عملاً مشتركاً بيننا، وكذلك التلحين. قد ألحن قطعة، ويؤلف هو قصيدة، أو العكس، أحياناً كنا نجلس معاً نكتب القصائد والألحان معاً. والأعمال المسرحية كنا نكتبها معاً، أكتب مقطعاً وأعطيه إياه، يكتب هو مقطعاً ويعطيني إياه لأقرأه، ثم نعيد كتابة العمل مرات. نعقد الجلسة الأخيرة، وهو المعلم، الأكبر سناً، يقول إقرأ لي العمل وأنا أكتبه، ونرسله إلى الطباعة. سيمر وقت طويل، طويل جداً، قبل أن يظهر فنانان يصل التعاون بينهما إلى درجة قيام كلّ منهما بإنكار ذاته ليكوّنا إسماً واحداً.
هذا ما نبحث عن معرفته. ما الذي جعل كلا منكما ينكر نفسه ليذوب في تسمية "الأخوين الرحباني"؟
- كنا دائماً معاً، متلازمين، منذ الطفولة. وكانت الوحدة التي يفرضها علينا والدنا قاسية، كنا دائماً مع بعضنا، نتحدث معاً، نخلق عوالمنا الخاصة لنتسلى. وعندما كبرنا وجدنا أننا نستطيع أن نوقّع أعمالنا معاً، وأن نبقى دائماً معاً. شعرنا أن هذا الأمر طبيعي. هذه حالة فريدة، استثنائيّة، لا تنتظري منّي شرحاً أوضح! وقد يكون شبه مستحيل، أن يعمل اثنان مجدداً بالطريقة نفسها، ويكونان سعيدين بالعطاء معاً، كما كنا عاصي وأنا. لم يكن هناك مكان للأنانيّة، لم تكن فرديّة كلّ منّا مهمّة. الأهم كان عطاؤنا.
في أعمال الأخوين رحباني كنا نعيش وطناً جميلاً وهادئاً. ثم سقط هذا الديكور، وبان الواقع على فجاجته ودمويّته!
- نحن تحدثنا عن لبنان كما هو. وتحدثنا عن كل لبنان، وكل أرضه. في مسرحية "يعيش يعيش"، يُنفذ انقلاب ضد الإمبراطور، لكنه يعيد ترتيب أموره، ويستعيد الحكم. وبقدر ما قدمنا لبنان الحلو، قدمنا لبنان بجراحه. ويخطئ من يقول إننا تحدثنا فقط عن لبنان الجميل. لكن عندما قلنا "لبنان يا أخضر حلو"، كان لبنان أخضر وجميلاً. الآن هل أستطيع أن أقول ذلك؟ لا، سأقول: "يا وطن الاسمنت"


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.