كولن باول، وزير خارجية الولاياتالمتحدة، هو نجم أميركا الصاعد. هو حاكمها الفعلي في ظل العجز المشهود للرئيس جورج دبليو بوش عن ادراك العالم وفهم تعقيداته. هذا ما يقوله بعضهم. لكن بعضاً آخر يقول: صحيح انه كذلك. ولكنْ: حتى الآن فالرجل مرشح في اية لحظة لأن يهوي من عليائه. ولدى التنقيب في الأسباب، يقال: ابحث عن رجل أفغاني قضى قبل أيام اسمه... عبدالحق! لكن قبل عبدالحق الذي اعدمه رجال "طالبان" قبل حوالي أسبوعين، لا بأس من الرجوع قليلاً الى سيرة الجنرال وزير الخارجية. القيم التي اعتنقها مبكراً فباول أول أفرو أميركي أسود يتبوأ المنصب الذي تبوأه في تاريخ الولاياتالمتحدة. في أيامه في الجيش كره دور بلاده في فيتنام حيث خدم شاباً، لكنه فعل حرصاً على الاميركان وحيواتهم، لا على الفيتناميين، ولا تمسكاً بأية نزعة سلمية مجردة. بيد أن معارضته الحرب لم تلغ وظيفيته و"تنفيذه للأوامر" التي استدعاها، في نظر البيت الأبيض، استمرار القتال. بعد ذاك علّمته محنة فيتنام تجنب التدخل في الخارج، فكتب وقد صار رئيساً لاركان الجيش في عهد جورج بوش الأب: "ان الحرب ينبغي ان تكون سياسة الملاذ الاخير". وتحفظ عن تحرير الكويت، وناوأ فكرة دخول بغداد واطاحة صدام، ثم وقف، بعد ذاك، ضد التدخل في البلقان. ذاك ان التدخل الوحيد المقبول لديه هو الذي يبدو انعكاسه بالغ الشفافية على المصالح الاميركية، فيما تكون اكلافه لا شيء البتة. وعملاً بهذا النهج تحقق "تدخل مضبوط" في الحروب البلقانية، لا سيما في كوسوفو. وباول، بيروقراطي المؤسسة العسكرية العريق، شغل الكثير من الوظائف التي تتوسط بين وزارة الدفاع والبيت الابيض. ففي ادوار كهذه تقلب بين 1969 و1993 فعمل مساعدا لوزير الدفاع كاسبار واينبرغر قبل ان يتولى رئاسة الاركان. لكن المسافة التي قطعها الى حيث هو الآن طويلة حقاً. فهو من مواليد هارلم في 1937، لأسرة مهاجرين جامايكيين. ترعرع في جنوب البرونكس، من أعمال نيويورك، قبل ان تفسّخها الجريمة والفقر، فشبّ نيويوركياً "أصيلاً" يمثل بيئة تعددية متماسكة نسبياً على رغم تردّيها الاقتصادي. والأهم، في ما خص مساره الشخصي، انه ابن بستانيّ تحول مشرفاً على ورشة بناء، فمسؤولاً عن قسم الشحن في مخزن تجاري، فيما كانت أمه نقابية وعاملة في صناعة النسيج. وبدوره عمل كولن الشاب موظفاً في دكان لبيع الالعاب، ثم درس في "سيتي كوليج" في نيويورك وانضم الى الجيش حيث باشر صعوده السريع. وهذا لم يمنعه، ابان عمله في ادارة ريتشارد نيكسون، من السهر والدأب للحصول على شهادة "ماسترز" في ادارة الاعمال. وقصارى القول ان حياة باول جعلته يؤمن بأربعة مبادىء: أولاً، تحسين وضعه من ضمن قنوات هادئة وشرعية، على الضد من الاتجاهات الراديكالية لكثيرين من الافرو أميركيين. والاعتقاد، من ثم، بامكان احراز الاهداف بوسائل متدرجة. ثانياً، الولاء للدولة ومؤسساتها، لا سيما الجيش. ففي هذه المؤسسات عرف الرجل صعوده المهني، بل صعوده الاجتماعي انطلاقاً من حياته ك"ابن بستاني" في البرونكس. ثالثاً، الابتعاد عن المواقف المتطرفة على انواعها، والميل الى توسيع التحالفات، وانجاز الاهداف "بالتي هي أحسن". رابعاً، الرفض الحاد، انطلاقاً من التجربة الفيتنامية، لكل تورط يؤدي الى سقوط قتلى اميركيين. الصراع مع أقصى اليمين وسارت الامور في صورة جيدة. ففي حرب الخليج التي حررت الكويت من العراق، من دون ان "تتورّط" القوات الاميركية بدخول بغداد، تحول باول "جندي أميركا المفضل". وهذا ما جعله مرشحاً موفور الحظ لنيل رئاسة الجمهورية، الا ان الموظف الذي فيه آثر التريّث. غير انه انضم الى الحزب الجمهوري الذي يقل في داخله حضور الاقليات العرقية، مع انه أصبح داخل الحزب احد براغماتييه أو "يسارييه" في مواجهة التيارات الايديولوجية المتصلبة. ومن موقعه هذا اتخذ مواقف غير محبوبة تقليدياً في الحزب، كالدفاع عن "نظام الكوتا" Affirmative Action في التوظيف، بما يحفظ حقوق السود والملوّنين. اما مع وصول جورج دبليو بوش الى السلطة، فوُصف اختيار باول لوزارة الخارجية، بأنه عنصر تلطيف مزدوج: داخلياً، يضفي، هو والمستشارة الرئاسية السوداء كوندوليزا رايس، وجهاً ملوّناً على ادارة شديدة البياض. وخارجياً، يقدم وجهاً اشد انفتاحاً على العالم الخارجي، بما لا يقاس، من سائر الوجوه اليمينيين الضيقي الأفق الذين صعدوا بوصول بوش الى البيت الابيض. وكان، ولا يزال، على رأس هؤلاء وزير الدفاع دونالد رامسفيلد، وخصوصاً نائبه بول فولفوفيتز. وهذه العلاقة الصراعية باليمين، لا سيما بفولفوفتيز، هي التي يرى بعضهم بداياتها في الموقف من العراق: ما بين تحفظ وزير الخارجية عن الاعمال "المتهوّرة" ضد بغداد والمسافة التي اراد توكيدها عن المعارضة العراقية، وبين حماس نائب وزير الدفاع للاقتصاص من بغداد ودعم المعارضة المذكورة. وكائنةً ما كانت الاسباب، فإن العلاقة الصراعية هذه هي التي أضعفت كولن باول كثيراً. وفعلاً وصل الامر بمجلة "تايم" في العاشر من ايلول سبتمبر الماضي، اي قبل يوم واحد على كارثة نيويورك وواشنطن، ان خرجت بغلاف يتساءل: "الى اين ذهبت يا كولن باول؟" ايحاءً منها باختفائه وضمور دوره. ففي الاشهر الفاصلة بين تولي بوش الرئاسة وحصول العمليات الارهابية، كانت السياسات الاميركية المعلنة تنحو كلها نحواً انعزالياً ومتشدداً، الشيء الذي رأيناه حيال روسياوالصين واوروبا والبيئة كما رأيناه حيال الشرق الاوسط. غير ان الكارثة اعادت وزير الخارجية الى دائرة الضوء، بل اعادته اكثر من اي شخص آخر في الادارة. هكذا رأيناه يسافر على نحو مكوكي متواصل الى سائر اطراف الكرة الارضية، ويتحول الناطق الرسمي الاوحد بلسان السياسة المصنوعة في واشنطن. السبب؟ ان الحرب، كا قال كلاوزفيتز مرةً، اهم بكثير من ان تترك للعسكريين وحدهم. واذا صح ان وزير الخارجية هو نفسه عسكري، الا انه - وكما رأينا - كان عسكرياً هادئاً ورزيناً، أو عسكرياً مسكوناً دائماً بالمدني. فما ان تولى وزارة الخارجية حتى تبين ان وزير الخارجية فيه اقوى بكثير من... العسكري. والحال ان حرباً كالتي وجدت الولاياتالمتحدة نفسها تخوضها، تحتاج الى السياسة قدر حاجتها الى القوة البحتة. فهي تطاول عدداً لا يحصى من الحلفاء والاعداء الذين تتفاوت وتتناقض العلاقة بهم والعلاقات في ما بينهم. وهذا العدد يمتد من اثنيات افغانستان الى اوزبكستان وطاجيكستان والصين والهند وروسيا وايران والعراق والمملكة العربية السعودية وسائر الخليج، فضلاً عن اوروبا الغربية. في هذا المعنى قامت نظرية باول لحرب افغانستان على ركائز ثلاث مستقاة من قناعاته الاصلية: الاولى، تقليل الاكلاف البشرية الاميركية ما امكن، عبر التعويل على "تحالف الشمال" المعارض بوصفه القوة البرية الضاربة. والثانية، حصر المشاكل مع "طالبان" واسامة بن لادن، وعدم توسيع البيكار الى العراق او غيره من الدول والتنظيمات المتهمة بالارهاب في الشرق الاوسط. اما الثالثة فالتركيز، في جميع الحالات، على تطبيق المبدأ الماوي الشهير: توسيع دائرة الاصدقاء وتضييق دائرة الاعداء. وهذا يعني، بين ما يعنيه، الاقتصار على شعارات موضعية محددة ومتواضعة. تغيّر الأحوال والنظرية هذه ما كانت لتُطبّق وتسود لولا الدعم الذي محضها اياه نائب الرئيس ديك تشيني، على رغم انه محسوب تقليدياً على التيار اليميني. فضلاً عن التزكية التي وفّرها رئيس الحكومة البريطانية توني بلير. وعلى العموم سلكت النظرية في الطور الاول للحرب حيث ترافق البناء السياسي للتحالف مع اقتصار المواجهة على اعمال القصف الجوي الاميركي لافغانستان. لكن الضربات التي وُجّهت الى نظرية باول ما لبثت أن تكاثرت، فضلاً عن صدورها عن جهات لا حصر لها: ففي باكستان، وهي الطرف الاهم في الموضوع، تبين ان استعداد الجنرال برويز مشرّف للمضي في التحالف مع الولاياتالمتحدة محدود جداً: فعواطف شعبه اقرب كثيراً الى "طالبان"، خصوصاً سكان المناطق الحدودية من اثنية الباشتون. والى ذلك تعمل اطالة القصف الجوي الاميركي، وتزايد الاخطاء المترتبة عليها، على مفاقمة الغضب. واهم من هذا، ربما، ان السياسة الاميركية التي حاولت ضبط التوتر الهندي - الباكستاني عجزت تماماً عن ذلك، بحيث اوشك البلدان النوويان على الانجرار الى مواجهة يصعب تقدير مخاطرها. ومن السهل، لدى الجمهور الباكستاني العريض، ربط العداء للهند "الهندوسية" بالعداء لاميركا "المسيحية"، ومن ثم استخلاص هجمة مشتركة على الاسلام والمسلمين. والحال ان تصوّرات وهواجس من هذا النوع هي التي حملت عدداً من المتعصبين المسلمين في باكستان على ارتكاب المجرزة التي ارتكبوها بحق مواطنيهم المسيحيين قبل ايام. وفي الشرق الاوسط، وبعدما استطاع الفلسطينيون انتزاع اعتراف اميركي على اعلى المستويات بضرورة قيام الدولة، راحت الامور تتدهور. فالقمع الكثيف الذي راحت تتبعه حكومة ارييل شارون فتح الباب واسعاً للردود والردود المضادة التي عجزت الادارة الاميركية عن ضبطها. هكذا تم اغتيال الوزير الاسرائيلي رحبعام زئيفي انتقاماً لاغتيال الأمين العام ل"الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" ابو علي مصطفى. وكان ان دخلت بالنتيجة القوات الاسرائيلية اراضي السلطة الفلسطينية وارتُكبت ما ارتُكب من اعمال قتل هددت بالتحول الى حرب مفتوحة. ولئن تمكن باول من طي صفحة العراق، هي التي اراد فتحها غلاة اليمين في الادارة، جاء التركيز على "دور عراقي" وراء الرسائل الحاملة للانثراكس ليلبّد الاجواء... وهذا علماً ان ما من برهان واحد جدي حتى الآن يجزم في امر التورط العراقي. وغني عن القول ان كل كلام عن تمتين التحالف الاميركي - العربي في ظل سياسات متشددة تجاه العراقوالفلسطينيين، سيبدو اقرب الى اللغو والهذر. في ما خص بكين اما مع الصين، ففي مقابل اجماع المراقبين على ان قمة شنغهاي ذللت الخلاف الكبير الناجم عن الهبوط الاضطراري لطائرة التجسس الاميركية في جزيرة هانيان، هناك اجماع لا يقل اتساعاً على ان ما تم هو طمس المشكلات الثنائية وليس حلها. فماذا عن تايوان؟ واذ تلاقت مصلحتا واشنطنوبكين على مكافحة الارهاب في آسيا الوسطى، فماذا عن التعامل مع النفوذ الصيني الصاعد في باقي المناطق: من جزر الباسيفيكي الى الهملايا الى المنحدرات المنغولية؟ والمعروف ان للصين مزاعمها في بحر جنوب الصين حيث تتشدد في توكيد ملكيتها لحوالي 80 في المئة من مياه ذاك البحر تقع في موازاة برّ فيتنام غير بعيدة عن ماليزيا وبروناي والفيليبين. وكيف يمكن اقناع الصين المتهمة بأنها اعطت الباكستانيين مسودة قنبلتهم النووية، بالكفّ عن دعم اسلام اباد في مواجهة نيودلهي؟ وهناك مشكلات مع اليابان التي وافق برلمانها على مرسوم مضاد للارهاب، وصار في امكان "قوات الدفاع عن النفس" اليابانية ان تشارك في الاعمال العسكرية للمرة الاولى منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. لكن الاعمال العسكرية المطروحة مطروحة لمناطق لا تحيط باليابان تعريفاً، اي انها لا يمكن ادراجها في خانة "الدفاع عن النفس". ولأن دستور ماك ارثر الشهير ينزع صلاحية شن الحرب من حقوق "سيادة الدولة"، محظّراً استخدام القوة لفض نزاعات دولية، فالحجج التي سيتسلح بها الجمهور الياباني المتحفظ عن السياسة الاميركية والمناوئ للحرب، لن تكون بالقليلة. وحتى روسيا التي فككت قاعدتيها في فيتنام وكوبا، وحملت الجمهوريات السوفياتية السابقة في آسيا الوسطى على التعاون مع الجهد الحربي الاميركي، لم تتبدد شكوكها كلياً في ما خص برنامج الدرع الصاروخية الاميركية. واهم من هذا في المنظور المباشر مسألة الشيشان: فموسكو لم تكتم رغبتها في ترجمة "الحرب على الارهاب" لمصلحة حربها في الشيشان، وهو ثمن يُشَك كثيراً في ان تستطيع الولاياتالمتحدة، وسائر الغرب، دفعه لقاء تعاونها بعد كل ما أثير من تعاطف غربي مع "قضية الشيشان العادلة" في مواجهة "القمع الروسي الشرس". ومن الواضح ان اطلاق الهنود النار على المواقع الباكستانية، في كشمير علامة واضحة على ان محاولة باول في نيودلهي لم تفلح تماماً. فالهنود مصرون، مثلهم في ذلك مثل الباكستانيين، على ابقاء معركتهم على كشمير حيّة ومستقلة عن كل معركة اخرى وكل اعتبار آخر. لكن الاهم يبقى في افغانستان نفسها. ف"تحالف الشمال" لم يُبد القوة التي تخوله التقدم جنوباً واحتلال العاصمة كابول. والظاهر انه بعدما فقد قائده الكاريزمي أحمد شاه مسعود، عشية ابتداء الحرب، غدا اكثر اهتماماً بحصص رجالاته في السلطة الجديدة مما بتطوير فعاليته العكسرية. اما "طالبان" فبدورها لم تتفكك، مستفيدة من التفاف العصبية الباشتونية حولها، كما من دعوات الجهاد ضد "الكفّار الاجانب". وفي الوقت نفسه بات واضحاً ان المواقع المتعاطفة مع "طالبان" في السلطة الباكستانية والتي بُنيت على مدى سنوات من التعاون، لن تترك لواشنطن وحلفائها الافغان كبير متّسع للحركة والمناورة. فهم، إذن، يعملون في ظل ظروف غير مناسبة شعبياً ورسمياً على السواء! في هذا المعنى جاء اعدام عبدالحق يلخص هذه الصعوبات جميعاً، كما يرمز اليها. وما من شك في ان نظرية باول كانت شريكة القائد الافغاني المعارض في تلقي حكم الاعدام. فقد بات من الواضح ان احتمال سقوط القتلى بين الجنود الاميركيين هو ما لا يمكن تجنبه، لأنهم هم الذين سيقومون بالجهد البري الاساسي وليس "تحالف الشمال". وفي الاطار نفسه غدا لا بد من التركيز على العمل من طرف واحد مع البريطانيين فقط لأن الحلفاء الآخرين "أعباءٌ ومشكلات وقيود على حركتنا اكثر منهم دعماً وحلولاً" على ما يصرّ اليمينيون المنافسون لباول. واذا صحّ هذا السيناريو المتشائم يكون "عهد" باول موشكاً فعلاً على نهايته. لكنْ متى؟ وكيف؟ وفي أية وجهة؟.