بما ان ايرادات النفط تشكل 70 في المئة من ايرادات الدولة، فقد ساهم ارتفاع الاسعار في خفض العجز المالي لموازنة المملكة العربية السعودية في 1999 بنحو عشرة مليارات ريال الى 34 مليار ريال، ولكن هل سيؤدي استمرار هذا الارتفاع الى ازالة العجز البالغ 28 مليار ريال في موازنة العام 2000 وتحقيق التوازن المالي؟ عندما وضعت حكومة المملكة العربية السعودية موازنة العام 1999، تأثرت بنتائج انخفاض اسعار النفط بشكل حاد في 1998، لذلك اعتمدت على افتراض متوسط سعر البرميل في حدود عشرة دولارات، وقدرت الايرادات ب121 مليار ريال 26.32 مليار دولار والنفقات ب165 مليار ريال 44 مليار دولار وبعجز يبلغ 44 مليار ريال 73.11 مليار دولار غير ان النتائج الفعلية خالفت التوقعات التقديرية بسبب ارتفاع الاسعار الى مستويات قياسية، وحققت الايرادات 147 مليار ريال 2.39 مليار دولار بزيادة نسبتها 4.21 في المئة، وفي مقابل ذلك زادت الدولة نفقاتها بمقدار 16 مليار ريال وبنسبة 7.9 في المئة الى 181 مليار ريال 26.48 مليار دولار، وتراجع العجز الفعلي الى 34 مليار ريال، وبالتالي تراجعت نسبته الى مجموع النفقات من 6.26 الى 7.18 في المئة. ولوحظ ان اسباب ارتفاع النفقات الفعلية تعود الى استئناف التعيين في الوظائف الحكومية والذي كانت الحكومة قد اوقفته بسبب التقشف، اضافة الى دفع جزء من المبالغ المستحقة للشركات والمقاولين والمزارعين عن سنوات سابقة، الامر الذي عزز ثقة القطاع الخاص بالاقتصاد السعودي. ونظراً إلى التحسن الذي طرأ على اسعار النفط منذ نهاية آذار مارس 1999، سجل الناتج المحلي الاجمالي نمواً ايجابياً في قيمته بالاسعار الجارية بلغت نسبته 44.88 في المئة، وقدر بنحو 3.521 مليار ريال 139 مليار دولار مقارنة مع 8.480 مليار ريال 2.128 مليار دولار عام 1998. واستمر القطاع الخاص في أدائه الايجابي، اذ شهد نمواً في قيمته بالاسعار الجارية بنسبة 4.2 في المئة، كما حقق قطاع الصناعات التحويلية غير النفطية نمواً ايجابياً بنسبة 3.6 في المئة، وقطاع التشييد والبناء 1.2 في المئة، وقطاع الكهرباء والغاز والماء 9.3 في المئة، وسجل قطاع النقل والتخزين والاتصالات نسبة نمو 4.2 في المئة. وتوقعت الدراسات التي وضعتها وزارة المال السعودية ان تبلغ نسبة مساهمة القطاع الخاص في الناتج المحلي الاجمالي 38 في المئة بالاسعار الجارية، وبنسبة 48 في المئة بالاسعار الثابتة، الامر الذي يساعد على نضوج القطاع الخاص وزيادة فعاليته وخفض اعتماده على الانفاق الحكومي. ونتيجة لارتفاع اسعار النفط وسياسة ترشيد الانفاق التي اتخذتها الحكومة بالاضافة الى عدد من الاجراءات التي تمثلت في زيادة اسعار البنزين ورسوم تأشيرات استقدام العمالة ورسوم المطار، بهدف زيادة الموارد، فقد انخفض العجز في الحساب الجاري لميزان المدفوعات لعام 1999 بنسبة 3.70 في المئة ليصل الى 6.14 مليار ريال 9.3 مليار دولار مقارنة مع 2.49 مليار ريال 1.13 مليار دولار عام 1998. موازنة 2000 في ضوء النتائج الفعلية لموازنة العام 1999 وضعت الحكومة السعودية ارقام موازنة العام 2000 التي بلغت 185 مليار ريال للنفقات بزيادة 11 في المئة، و157 ملياراً للايرادات بزيادة 33 في المئة، وحملت عجزاً بلغ 28 مليار ريال، سمحت الحكومة لوزارة المالية بتغطيته عن طريق الاقتراض الداخلي من المصارف. وقبل ان تعلن وزارة المال أرقام الموازنة، كانت توقعات الخبراء تشير الى ان ارقام العجز ستنخفض حتماً الى اقل من عشرة مليارات ريال، خصوصاً بعد ارتفاع اسعار النفط الى مستويات قياسية حيث اقفل سعر البرميل بنهاية العام 1999 على نحو 25 دولاراً. لكن يبدو ان تقديرات الحكومة السعودية كانت متواضعة جداً وحريصة على احتساب الايرادات النفطية على اساس سعر البرميل ب14 دولاراً، الامر الذي ساهم في خفض التقديرات وابراز العجز، لذلك يتوقع الخبراء ان ترتفع ارقام الايرادات الفعلية مع ارتفاع عائدات النفط وبشكل يساهم في خفض العجز وربما ازالته وتحقيق التوازن المالي بنهاية العام 2000. واذا كانت فعاليات القطاع الخاص قد رحبت بموازنة العام 2000، كونها تلحظ مبلغ 20 مليار ريال 3.5 مليار دولار لتمويل استثمار مشاريع جديدة، اضافة الى استمرار دفع المستحقات الى شركات المقاولات والشركات الصناعية، فإن الحكومة السعودية ستلعب دور المحفّز لتفعيل القطاع الخاص، وذلك عبر تهيئة الاطر القانونية والهيكلية التنظيمية الملائمة ليحل هذا القطاع تدريجياً محل القطاع العام ويقوم بدور اكبر في الاقتصاد. ويبرز في هذا المجال التخصيص الذي تعتبره الحكومة خياراً استراتيجياً يعكس رغبتها في زيادة تنويع مصادر ايراداتها بعيداً عن قطاع النفط، وزيادة مشاركة القطاع الخاص في الانشطة الاقتصادية المختلفة والاستخدام الامثل للموارد وزيادة حصته في الناتج المحلي. وتنفيذاً لذلك، حوّلت خدمات الموانئ الى القطاع الخاص، وكذلك خصص قطاع الاتصالات السعودية، ودمجت شركات الكهرباء في شركة واحدة تحت اسم "الشركة السعودية للكهرباء" برأسمال يبلغ 7.33 مليار ريال تمهيداً لتحويلها لشركة مساهمة، وصدرت الموافقة على انشاء شركة للخدمات في مدينتي الجبيل وينبع لتهيئة الخدمات بشكل مستمر حتى يواكب النمو الصناعي الكبير في مجال انتاج البتروكيماويات. ويعتبر الخبراء المناخ الاقتصادي القائم في المملكة مناسباً لتبني الحكومة اجراءات اكثر لزيادة الخصخصة خلال العام 2000، وبناء قطاع خاص قوي يساهم بإيجابية في الناتج المحلي الاجمالي. واذا كان القطاع الخاص قد سجل نمواً بنسبة 4.2 في المئة عام 1999 بالاسعار الجارية وبلغت مساهمته في الناتج المحلي 38 في المئة، فمن المتوقع ان يبلغ معدل النمو بين 6 الى 7 في المئة خلال السنوات المقبلة، في حال تمكن هذا القطاع من ايجاد فرص عمل جديدة واستيعاب طالبي العمل الجدد مع تحقيق نسبة معتدلة من الكفاءة الانتاجية. الأداء المصرفي ما هو تأثير نتائج موازنة 1999 على النشاط المصرفي وما هي التطورات المرتقبة خلال العام 2000؟ لقد واصلت البنوك السعودية سياستها الرامية الى تعزيز قدراتها المالية في 1999، اذ ارتفع رأسمالها واحتياطاتها بنسبة 7.4 في المئة لتصل الى 1.42 مليار ريال، وبلغت نسبة كفاية رأس المال او الملاءة المالية 1.21 في المئة، او ما يقارب ثلاثة اضعاف النسبة الدنيا المحددة من قبل لجنة "بازل" الدولية التابعة ل"بنك التسويات الدولي" البالغة 8 في المئة. ولكن لوحظ انه كان لانخفاض عجز الحساب الجاري لميزان المدفوعات بأكثر من 70 في المئة من 2.49 الى 6.14 مليار ريال اثره المباشر في خفض حجم التمويل المصرفي للقطاعين العام والخاص، وذلك لتوافر السيولة نتيجة طبيعية لارتفاع اسعار النفط وعائدات الدولة. وعلى افتراض ثبات اسعار النفط عند معدلات فوق ال20 دولاراً للبرميل، اي اكثر بنحو 6 دولارات عن تقديرات الحكومة للاسعار التي بني عليها حجم الايرادات، فإن حجم القروض المقدرة والمطلوبة من المصارف قد يقل عن 28 ملياراً قيمة العجز المقدر في موازنة العام 2000، وبالتالي فإن عجز الحساب الجاري سيسجل مزيداً من الانخفاض، ويعكس ذلك مؤشراً لانخفاض حجم الائتمان المصرفي للقطاعين العام والخاص. وفي مقابل تراجع الائتمان المصرفي، كشف التقرير السنوي الخامس والثلاثون الصادر عن "مؤسسة النقد العربي السعودي" التوسع في حجم الودائع المصرفية التي بلغت 7.240 مليار ريال بنهاية آب أغسطس 1999 مقارنة ب5.227 مليار ريال في الفترة ذاتها من العام 1998 اي بزيادة نسبتها 6.5 في المئة. وحصلت هذه التطورات في وقت يبدأ فيه القطاع المصرفي السعودي مرحلة جديدة في بداية القرن الحادي والعشرين، ويواجه تحديات مختلفة تنذر بظروف صعبة تكتنفها حمى منافسة شديدة وحروب اسعار ووفرة البدائل المتاحة امام العميل للاختيار بين عدد من المنتجات والخدمات المصرفية التي تزامنت مع الارتفاع الملحوظ في الوعي المصرفي لدى المستهلك. وتتلخص اهم التحديات في الآتي: - اولاً: انضمام السعودية الى "منظمة التجارة العالمية" مما سيترتب عليه انفتاح اسواق الخدمات في العالم، بما في ذلك خدمات المصارف، وازالة العوائق التجارية المالية فيما بينها، الامر الذي سيفرض على المصارف السعودية ان تنصهر في بوتقة ما يسمى العولمة، وبالتالي انتهاج الصبغة العالمية في تقديمها مستوى ونوع الخدمات لعملائها. كما ان ظروف انفتاح السوق المالية على بقية اسواق العالم ستتطلب ان تتوسع المصارف في تقديم خدمات مالية ومنتجات مصرفية اكثر تعدداً وتطوراً وتجانساً مع ما تقدمه البنوك المتقدمة في العالم، اذ لا تزال المصارف السعودية تقدم خدمات ومنتجات مصرفية محدودة، على رغم تعددها مقارنة بما تقدمه المصارف العالمية، خصوصاً في مجالات مصرفية متخصصة مثل الاستثمار والخزانة وادارة الاموال والتمويل المتخصص وخدمات الوساطة المالية. كما ان احد ابرز اهداف اتفاقية منظمة التجارة العالمية تقليص دور الحكومة والقطاع العام في النشاط الاقتصادي، وتفعيل دور القطاع الخاص، الامر الذي سيفرض على المصارف السعودية ان تلعب دوراً اكثر اهمية في النشاط الاقتصادي والمسيرة التنموية في البلاد من ذي قبل. ثانياً: التعامل مع متطلبات سعودة وظائف القطاع المصرفي، بما في ذلك توفير برامج التدريب والتأهيل المصرفي المتقدم، بحيث يصبح لدى المصارف السعودية كوادر مصرفية وطنية قادرة على استيعاب المستجدات والمتغيرات على الساحة المصرفية العالمية. - ثالثاً: تحديث وتطوير القوانين والتشريعات الخاصة بالعمل المصرفي، بحيث تصبح اكثر تجانساً وتوافقاً مع القوانين والتشريعات المصرفية العالمية، لأن من شأن ذلك ان يساعد على توسيع قاعدة التعاملات المصرفية الدولية، ويشجع على مشاركة المصارف العالمية والدخول في تعاملات مصرفية محلية. - رابعاً: تطوير التعاملات المالية الاسلامية التي حظيت بجمهور كبير من المتعاملين، بسبب تلبيتها حاجاتهم المالية والمصرفية بأسلوب يتوافق مع عقود فقه المعاملات