على الرغم من الشهرة الواسعة التي حققها الفنان المصري بهجت عثمان في عالم الكاريكاتير السياسي، فان الرسم للأطفال كان ولا يزال عالمه المفضل. عقب تخرجه في كلية الفنون الجميلة العام 1954 اشتغل بتدريس الرسم للأطفال لمدة عامين، ثم احترف العمل في الصحافة، فترك بصمات واضحة على أشهر مجلتين للصغار في مصر وهما "سمير" و"ميكي"، وكذلك كانت بصماته واضحة في مجلتي "ماجد" و"العربي الصغير"، كما صدر له العديد من كتب الأطفال التي تتمحور حول شخصية "بهاجيجو". وهذه الشخصية أتت بريشة بهجت لتجسد الكثير من القيم النبيلة على عكس شخصية "بهجاتوس" التي ابتكرها بهجت في نهاية السبعينات لينتقد من خلالها غياب الديموقراطية ووضعها على رأس بلد أسماه "بهجاتيا العظمى". قبل أيام من سفره الى لندن لمتابعة علاج بصره الذي بدأ يعاني أخيراً من ضمور في الشبكية، التقينا بهجت عثمان في شقته في حي المنيل في القاهرة حيث لمسنا عن قرب مدى بساطته كإنسان، كما لمسنا مدى صلابته كفنان يرفض أن يتخلى عن ريشته حتى لو فقد بصره نتيجة لمرضه، وهو احتمال - للأسف - ليس ببعيد بحسب الأطباء الذين شخّصوا حالته. صداقة بلا حدود بروحه الطفولية الجميلة، على الرغم من بلوغه الثمانية والستين من عمره، تحدث بهجت عن عشقه للأطفال الذين اختارهم بالذات ليكونوا قراء الجزء الأول من مذكراته، التي حملت عنوان "صداقة بلا حدود"، وجاءت بالتالي بعيدة تماماً عن النمط التقليدي للمذكرات، وقد ذيل سطورها ورسومها بتوقيع "بهاجيجو". في اللقاء تحدث بهجت ايضاً عن أمله في أن تعاد طباعة "صداقة بلا حدود" بعد أن نفدت طبعاتها التي أصدرتها "دار الفتى العربي" اللبنانية خصوصاً أنه شرع في كتابة الجزء الثاني من مذكراته ورسمها بأسلوب يناسب هذه المرة الفتيان، وسيحمل عنوان "أحلام صغيرة". في استهلاله كتاب "صداقة بلا حدود" يقول بهجت: "الصداقة عندي هي المحبة الخالصة... تمنحها بلا مقابل فيزداد رصيدك منها.. هي الشعور بوجودي في هذا العالم الذي نعيش فيه. فالأصدقاء هم ملح هذا العالم من دونهم تصبح الحياة فيه بلا طعم... وهي أيضاً مناخ العالم، فهي الدفء، دفء المودة والإعزاز وهي النسيم الهادئ الذي يحمل معه عطر الحب". وتنصرف هذه المشاعر الرقيقة التي يعمر بها وجدان بهجت وقلبه لتشمل الأشياء والناس على حد سواء. فأدوات الرسم التي كان يستعملها منذ أيام الدراسة ما زالت تتربع على عرش مكتبه حتى الآن، وذلك لأنها بحسب تعبيره "تذكرني دائماً بأحلى سنوات العمر. الأماكن التي تنقلنا فيها معاً لنرسم كل ما نراه: سوق القرية الاسبوعي. حواري المدينة، الموالد في الأحياء الشعبية، وجوه الناس البسطاء، ألعاب السيرك الخطرة وحيواناته. انها تذكرني بلوحاتي القديمة والمعاناة الحلوة التي كنت أعاني في رسمها، والفرحة العارمة حين أنهيها". وفي كتاب "صداقة بلا حدود" يتحدث بهجت عما يحبه وعمن يحبهم ابتداء من زوجته مصممة العرائس الفنانة بدر، مروراً بصلاح جاهين وناجي العلي وفيروز والرحابنة وحسين بيكار الذي يقول عنه: "صديقي وأستاذي الفنان الكبير حسين بيكار كان صديقاًَ على الورق ثم صديقاً في جريدة "المساء" ثم صديقاً ملء السمع والبصر. أول لقائي به كان على الورق على صفحات الكتب وقصص ومجلات الأطفال، التي كان يزينها برسومه البسيطة الخطوط الرائعة التكوين، المعبرة غاية التعبير. وهكذا أبحرت في عالم الفن الجميل تحملني سفينة الاستاذ بيكار الذي كان عندما يصفو الجو يحمل عوده ويعزف لنا أشجى الألحان فنتحير: أيهما أعذب... موسيقى الألحان أم موسيقى الألوان؟". بهجاتوس وبهجاتيا في العام 1989 كتب الناقد الدكتور علي الراعي، الذي رحل عن عالمنا أخيراً، مقدمة لكتاب "الدكتاتورية للمبتدئين" الذي تضمن عدداً من لوحات بهجت عن "بهجاتوس" وجمهورية "بهجاتيا"، فقال: "إن بهجت ابتكر شخصية بهجاتوس ووضع فيها شيئاً من ملامحه هو حتى يدرأ عن نفسه الحرج ثم جعل يحرك هذه الشخصية في مواقف كثيرة مألوفة من حكام العالم الثالث". وعندما سألت الفنان بهجت عثمان عما إذا كان يقصد بهذه الشخصية شخصاً محدداً، قال: هذه الشخصية "بهجاتوس" ترمز الى كل الدكتاتوريين وليس واحداً منهم بالذات. وكنت أنتقد من خلالها بعض الأوضاع العربية التي صارت بمرور الوقت أكثر إضحاكاً من قدرتنا على التعبير عنها... ولكنه ضحك كالبكاء أنا بعدما اصدرت كتاب "بهجاتوس.. الدكتاتورية للمبتدئين"، وفيه هجاء للديكتاتور، اكتشفت أنني أهجو الدكتاتورية وأدعو الى الديموقراطية وأن بهجاتوس الذي رسمته هو إنسان "غلبان" وأكثر ديموقراطية من كثير من الحكام". الكاريكاتير والسياسة وهل هذا ما دفعك الى الابتعاد في السنوات الأخيرة عن الكاريكاتير السياسي؟ - لقد أحسست أن ما تبقى لي من عمر يجب أن يخصص لانتاج شيء أكثر نفعاً. لقد كنا نرفع شعار "نحو غد أفضل"، ونصحو لنجد الغد أسوأ، فقررت - كما قرر غيري - أن أعدل من صيغة ذلك الشعار ليصبح "نحو بعد غد أفضل"، وهكذا توجهت الى الجيل المقبل، وتفرغت تماماً لمخاطبة الأطفال والفتيان لأنني أحسست بأنهم المعنيون بالأمر. فكتبت ورسمت "صداقة بلا حدود"، الذي تناولت فيه ما أحببت ومن أحببت في حياتي. ولأن ميثاق حقوق الإنسان وضعه البعض تحت الوسادة ونام، فقد قررت أن أقدم للأطفال بريشتي وقلمي كتاباً بعنوان "لنا حق" وتركت صفحاته بالأبيض والأسود ليقوموا هم بتلوينها بأنفسهم فيرسخ في أذهانهم أن لهم حقوقاً، وتولت منظمة "اليونيسيف" إصداره. وعلى كل حال أنا بدأت حياتي العملية بالتوجه جزئياً الى الأطفال، وهأنذا أعود إليهم متفرغاً تماماً هذه المرة. أما الكاريكاتير فهو والحمد لله ما زال بخير في عالمنا العربي، بفضل عدد لا بأس به من الرسامين المتميزين مثل العربي الصبّان في المغرب ورشيد آيت قاسي في الجزائر ومصطفى المرشادي وعلي عبيد في تونس ويوسف عبدلكي السوري ومحمد الزواوي الليبي وأنا لم أعد متأكداً ما إذا كان هذا الاخير لا يزال ينشر رسوماته العبقرية أم لا. الاحساس بعدم الجدوى في رأيك ما الذي يدفع رسام الكاريكاتير الى تركه الى مجال آخر؟ - الضغوط الرقابية والإحساس بعدم جدوى ما يمكن للرسام ان يفعله عندما ترفع دائماً في مواجهته لافتة تقول: أنت تقول ما تريد ونحن نفعل ما نريد. وهكذا توقف عن الكاريكاتير واتجه الى الرسم للأطفال كل من حجازي ومحيى اللباد وإيهاب شاكر وأنا. أما جورج البهجوري فاختار التصوير الزيتي في باريس ورجائي هاجر الى استراليا واشتغل في مستشفى لعلاج الأمراض العصبية بالرسم ووصل فيها الى منصب مرموق. في ضوء ذلك كيف تنظر الى واقع الكاريكاتير السياسي في العالم العربي الآن؟ - الكاريكاتير هو رغبة في تغيير الدنيا الى الأحسن، ولا يوجد، من وجهة نظري، كاريكاتير سياسي وآخر غير سياسي. فالكاريكاتير يحمل بالضرورة طابعاً سياسياً حتى ولو كان يتحدث عن الغلاء أو مشاكل الزوج والزوجة. وحتى النكتة التي بلا معنى حين تكون في الوطن هموم، فهي سياسة لإلهاء الناس عن مشاكلهم. الكاريكاتير مهم ولكن حين يصبح بلا جدوى فإن المرء يضطر الى البحث عن شيء ذي جدوى. أبلغ من مقال يؤخذ على بعض رسامي الكاريكاتير اللجوء الى تعليقات مطولة لتوضيح رسومهم، ما رأيك في ذلك؟ - الكاريكاتير بصفة عامة أبلغ من المقال وأقدر منه على مس شغاف قلوب الناس ولذلك يجب أن تكون العلاقة بين الرسم والتعليق صلبة. التعليق في أغلب الأحيان مطلوب حتى يصل الكاريكاتير الى الناس الذين يتفاوتون في قدرتهم على فك رموز الرسم. وناجي العلي مثلاً كان يرمز بالأشخاص المترهلين الى المسيطرين على مقدرات الشعوب، كما كان يرمز بالطفل "حنظلة" الى الشعب الفلسطيني، ومع ذلك فقد كان أحياناً يملأ الصفحة كتابة ليشرح وجهة نظر معينة. وهذا ليس عيباً. فالهدف هو أن تصل وجهة نظر الرسام الى القراء بمختلف مستوياتهم، وبالمناسبة فقد كان ناجي العلي هو أول من تنبأ بانتفاضة الحجارة حينما رسم حنظلة وهو يلقي بكل عزم حجرا في اتجاه مغتصبي أرضه