محافظ العارضة يستقبل مفوض الإفتاء فضيلة الشيخ محمد شامي شيبة    ترقيم الماشية شرط الرعي    الهيئة الملكية للجبيل وينبع    مذكرة تفاهم سعودية-موريتانية حول قطاعات الكهرباء والطاقة المتجددة والهيدروجين النظيف    توقيع مذكرتي تفاهم لتعزيز استدامة إدارة النفايات    السعودية للكهرباء تتلقى اعتماد العائد التنظيمي الموزون لتكلفة رأس المال على قاعدة الأصول المنظمة ب 6.65%    تأكيد خليجي على ضرورة وقف إطلاق النار في غزة    إسرائيل تناهض تحركات المحكمة الجنائية    وزير الخارجية يلتقي وزير الخارجية التركي    فيصل بن بندر يستقبل مدير 911 بالرياض.. ويعتمد ترقية منتسبي الإمارة    فتح بوابات سد الملك فهد ببيشة    شؤون الأسرة و"نبراس" يوقعان اتفاقية للتوعية من المخدرات    أمير المدينة يدشن مهرجان الثقافات والشعوب    اليوم.. آخر يوم لتسجيل المتطوعين لخدمات الحجيج الصحية    جدة: القبض على مقيمين لترويجهما مادة الحشيش وأقراصا خاضعة لتنظيم التداول الطبي    السنيد يتوج أبطال الماسية    مواهب سعودية وخبرات عالمية تقود الأوبرا الأكبر عربياً "زرقاء اليمامة"    حارس النصر "أوسبينا" أفضل الحراس في شهر أبريل    اختتام أعمال المنتدى الاقتصادي العالمي في الرياض    هل يُغادر صلاح ليفربول وينتقل إلى الاتحاد؟ صحفي إنجليزي يُجيب!    إنقاذ معتمرة عراقية توقف قلبها عن النبض    الاحتلال اعتقل 8505 فلسطينيين في الضفة الغربية منذ السابع من أكتوبر    نصف نهائي "أغلى الكؤوس".. ظروف متباينة وطموح واحد    «سلمان العالمي» يُطلق أوَّلَ مركز ذكاء اصطناعي لمعالجة اللغة العربية    أمير تبوك يطلع على نسب الإنجاز في المشاريع التي تنفذها أمانة المنطقة    أخبار سارة في تدريبات الهلال قبل الكلاسيكو    الكلية التقنية للبنات بجدة تطلق هاكاثون تكنلوجيا الأزياء.    زلزال بقوة 5 درجات يضرب شرق تايوان    أمير المدينة يستقبل سفير إندونيسيا لدى المملكة    النيابة العامة: التستر وغسل الأموال يطيح بوافد و3 مواطنين لإخفائهم 200 مليون ريال    القبض على 8 أشخاص لقيامهم بالسرقة وسلب المارة تحت تهديد السلاح    "جائزة الأميرة صيتة" تُعلن أسماء الفائزين بجائزة المواطنة المسؤولة    سياسيان ل«عكاظ»: السعودية تطوع علاقاتها السياسية لخدمة القضية الفلسطينية    افتتاح الملتقى السنوي الثاني للأطباء السعوديين في إيرلندا    أمطار مصحوبة بعدد من الظواهر الجوية على جميع مناطق المملكة    «مطار الملك خالد»: انحراف طائرة قادمة من الدوحة عن المدرج الرئيسي أثناء هبوطها    أمير الرياض: المملكة تدعو لدعم «الإسلامي للتنمية» تلبية لتطلعات الشعوب    وزيرا الإعلام والعمل الأرميني يبحثان التعاون المشترك    «رابطة العالم الإسلامي» تُعرِب عن قلقها جرّاء تصاعد التوترات العسكرية في شمال دارفور    نائب أمير مكة يطلع على تمويلات التنمية الاجتماعية    فيصل بن بندر يؤدي الصلاة على عبدالرحمن بن معمر ويستقبل مجلس جمعية كبار السن    الفيحاء يتوّج بدوري الدرجة الأولى للشباب    الأهلي بطلاً لكأس بطولة الغطس للأندية    ديوانية الراجحي الثقافيه تستعرض التراث العريق للمملكة    النقد وعصبية المسؤول    مهنة مستباحة    دولة ملهمة    اللواء الزهراني يحتفل بزفاف نجله صلاح الدين    فئران ذكية مثل البشر    إستشاري يدعو للتفاعل مع حملة «التطعيم التنفسي»    المصاعد تقصر العمر والسلالم بديلا أفضل    صحن طائر بسماء نيويورك    سعود بن بندر يستقبل أعضاء الجمعية التعاونية الاستهلاكية    ذكاء اصطناعي يتنبأ بخصائص النبات    تطبيق علمي لعبارة أنا وأنت واحد    كبار العلماء: لا يجوز الذهاب إلى الحج دون تصريح    هيئة كبار العلماء تؤكد على الالتزام باستخراج تصريح الحج    الأمر بالمعروف في الباحة تفعِّل حملة "اعتناء" في الشوارع والميادين العامة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



للمرة الأولى برلمان روسي بلا غالبية شيوعية روسيا : الانتخابات النيابية تخلط الأوراق وتدفع بوتين الى الكرملين
نشر في الحياة يوم 27 - 12 - 1999

أخيراً جرت الانتخابات البرلمانية في روسيا، أكبر بلدان العالم مساحة سدس مساحة المعمورة 17 مليون كيلومتر مربع تقارب مساحة الصين والولايات المتحدة معاً. وشارك فيها 60 في المئة من الناخبين البالغ عددهم 107 ملايين ناخب، وتصارعت 26 كتلة سياسية على 225 مقعداً خصصت للوائح الحزبية و225 مقعداً خصصت ل2300 مرشح فردي في 94 ألف دائرة انتخابية. وأشرف على الانتخابات مليون مسؤول أشرف على حراستهم نصف مليون شرطي، وحضر الاقتراع أكثر من ألف مراقب دولي. ولما كانت روسيا مقسمة الى 11 حزاماً توقيتياً، فإن الانتخابات في كالينينغراد غرباً بدأت في وقت انتهائها في كامتشاتكا شرقاً.
كانت الحملة الانتخابية أعنف وأقذر مسرحية سياسية شهدها تاريخ البلاد. لم يصب فيها أحد من السياسيين بأذى، لكن سيول الأوحال والتشهير دفعت المجتمع الى الحافة، فكاد يحشر في حمام من الدم لو أرجئ موعد الانتخابات اسبوعاً أو شهراً. وكان ثمة من الأسباب ما يكفي لتبرير ارجائها. فهناك الحرب الضروس في الشيشان. وكان يكفي انفجار خطير في عمارة سكنية بموسكو لالغاء الانتخابات.
وكانت هناك تدابير قانونية مشكوك فيها، فاللجنة الانتخابية المركزية حرمت أحزاباً بكاملها من المشاركة في الانتخابات لأسباب تافهة، منها ان زعيم أحد الأحزاب سجل في قائمة ممتلكاته سيارة روسية عتيقة، لكنه يستخدم في تنقلاته سيارة مرسيدس فارهة. لكن محكمة البداية ألغت ذلك القرار. وحصل هرج ومرج، وتوافرت كل المبررات القانونية لحزب فلاديمير جيرينوفسكي لأن يشكك في مصداقية اللجنة الانتخابية ويطالب بحلها وبتأجيل الانتخابات. ولكن محكمة الاستئناف جاءت لتلقي حكم محكمة البداية وأعادت الى اللجنة الانتخابية صدقيتها. غير أن جيرينوفسكي ظل يطعن في تلك الاجراءات واضطر الى تبديل اسم حركته. فما حصل لحزبه حدث قبل اسبوع من موعد الانتخابات الرسمي، أي بعد مرور أيام على بدء تلك الانتخابات في المناطق النائية، في عرض البحار وفي الدائرة القطبية الروسية. وحتى نهاية الحملة الانتخابية تلقت المحاكم أكثر من 50 شكوى ضد اللجنة الانتخابية المركزية، غير أن المحاكم رفضتها كلها.
إلا أن أهم سبب كان سيؤدي الى ارجاء الانتخابات هو موقف الكرملين منها، فالتصريحات التي صدرت عنه كانت شددت مراراً على انه يريد انتخابات شريفة في الموعد القانوني. ولسنا هنا بصدد امكانات تزوير النتائج، فتلك أمور سيكشف النقاب عنها في ما بعد. مشكلة الكرملين انه كان حتى قبل ثلاثة شهور من موعد الانتخابات لا يمتلك الوسيلة التي تمكنه من المشاركة فيها. كل الأحزاب أعرضت عنه. ورئيس الوزراء فلاديمير بوتين لا يمثل أي فئة أو منظمة سياسية. وكان لا بد للكرملين أن يجترح معجزة أو يؤجل الانتخابات. ماذا حدث؟
وقع اختيار الكرملين على وزير الطوارئ سرغي شويغو، الشخص الوحيد الذي صمد أمام كل الهزات السياسية وعمل في كل الوزارات التي تعاقبت على حكم روسيا منذ سقوط الاتحاد السوفياتي. وكان رصيده الأول ابتعاده عن السياسة. أما الآن فقد دفعه الكرملين لخوض غمارها وتأليف كتلة جديدة اطلق عليها اسم "حركة الوحدة الاقليمية" واختصارها بالروسية "ميدفيد" وتعني "الدب".
وأعلن الجنرال شويغو برنامجه لحل المشاكل المتفاقمة في البلاد بايجاد ركيزة سياسية برلمانية للحكومة تتكون من نواب كتلة "الوحدة" أو ائتلاف الكتل الراغبة في التنسيق معها لتنفيذ خطة تنموية لمدة أربع سنوات على الأقل. ولا بد، باعتقاد شويغو، من حل هذه المشكلة فوراً. وفي هذه الحال فقط يكون لعمل السلطتين التنفيذية والتشريعية معنى. ويرى المحللون أن ما دفع شويغو الى ممارسة السياسة استياؤه من القرارات غير الموزونة التي اتخذها البرلمان السابق وأكثريته الشيوعية. وفي الأشهر الأخيرة سجلت حكومة بوتين، خصوصاً على الصعيد العسكري نجاحات ملحوظة، مما دفع شويغو وسائر أنصار بوتين الى العمل من أجل تحقيق النجاح نفسه في البرلمان أيضاً.
كانت شعبية حركة "الوحدة" في بداية تأسيسها ضئيلة للغاية. إلا أن رئيس الوزراء ألقى بثقله لدعمها في الحملة الانتخابية، مبرراً خطوته بأنها الحركة الوحيدة التي أعلنت تأييدها للحكومة. وبين ليلة وضحاها ارتفعت شعبية "الوحدة" من 2 أو 3 في المئة الى 14 في المئة. وعشية الانتخابات توقع شويغو أن يجثم "الدب الروسي" على 10 أو 12 في المئة من مقاعد البرلمان الجديد. إلا أن النتيجة النهائية كانت 23.5 في المئة.
والحقيقة ان نجاحات حركة "الوحدة" اثارت الاستغراب والتساؤلات. ويعزو خصومها تلك النجاحات الى الدعم المالي من جانب الكرملين والمؤسسات المرتبطة به، ويشيرون بهذا الخصوص الى الملياردير بوريس بيريزوفسكي. ويشيرون الى احتكار زعماء الحركة، ومنهم المصارع العالمي بطل الألعاب الأولمبية الكسندر كاريلين، والجنرال الكسندر غوروف مدير الشرطة، لأكبر القنوات التلفزيونية في موسكو. أما أنصارها فيقولون ان وسائل الإعلام والتمويل وأحدث التقنيات الانتخابية وأكثرها تفنناً لن تسعف أي حركة سياسية اذا كانت تفتقر الى الشعبية. ولعل ظاهرة "الدب الروسي" تعكس التبدلات الجديدة التي طرأت على الوعي الروسي بعد أن مل الناخبون من الصفوة السياسية التقليدية التي خيبت آمالهم وظلت على حالها دون تغيير طوال عشر سنوات مليئة بالوعود المعسولة. وتأسيساً على ذلك زاد الطلب على أشخاص لا يحترفون السياسة وغير مرتبطين بالمؤسسة السياسية المعهودة.
ومما ضمن الفوز المذهل لحركة سياسية لا يتجاوز عمرها ثلاثة أشهر ان قائمتها الانتخابية تتجاوب مع هذا الطلب تحديداً، فقد تصدرها اطفائي ورياضي وشرطي لا يحترفون السياسة. كما ان الصفوة السياسية والحزبية في روسيا تتكون في معظمها من أبناء موسكو، فيما كان التذمر في الاقاليم من سياسيي العاصمة يزيد باطراد. أما أنصار "حركة الوحدة" وزعماؤها فهم أصلاً من تلك الأقاليم، وقد شددوا على كسب ود مسؤولي المناطق ومحافظي المدن الكبرى.
وإذا نظرنا الى خريطة الحملة الانتخابية فسنجد ان المعركة الأشد ضراوة قامت في الوسط. فعلى الجناحين لم يحدث شيء خارق للعادة، ذلك أن الحزب الشيوعي الروسي من اليسار احتفظ بناخبيه كان له في البرلمان السابق 157 مقعداً، كما احتفظت حركة "يابلوكو" الديموقراطية اليمينية بشعبيتها المعتادة. إلا أن الوسط شهد تحركاً فعلياً، إذ أن ال35 في المئة من الناخبين من غير اليسار وغير اليمين هم الذين قرروا مصير الانتخابات الجديدة وحددوا هويتها. كان هذا القطاع في حكم الغائب في برلمان 1995 - 1999. وفي نهاية الحملة الانتخابية الأخيرة ظهرت فيه كتلتان فتيتان هما "الوطن الأم - كل روسيا" بريماكوف - لوجكو - ياكوفليف وعمرها سنة أو نحو ذلك، و"وحدة الدببة" شويغو - كاريلين - غوروف وعمرها ثلاثة أشهر. والناخب في هذا القطاع متردد متهيب بطبيعته، لكنه سهل الانقياد للتحكم الدعائي، فتراه يسبح من ضفة الى أخرى. وفي أيلول سبتمبر الماضي كان هذا القطاع بأكمله يؤيد كتلة "الوطن الأم"، إلا أن الفترة القصيرة من الارهاب الإعلامي والاداري الذي تعرض له بريماكوف ولوجكوف لاحقاً مكنت الكرملين من استقطاب ثلثي ناخبي الوسط.
وفيما تحولت حركة "الوحدة" الى حزب السلطة وكسبت المزيد من الشعبية، كانت كتلة بريماكوف تتراجع على أكثر من صعيد، خصوصاً بعد أن أعلن ثاني زعمائها محافظ موسكو يوري لوجكوف، عداءه الصريح للكرملين ووصف عهد يلتسن بالحكم الاستبدادي، واعتبر العمليات العسكرية في القوقاز حرباً على الشعب الشيشاني وليس على الارهابيين. ودعا الى ترك الشيشان في حالها ومنحها الاستقلال. وكان لوجكوف قد ضم الى كتلته رؤساء الجمهوريات الاسلامية المعروفين بميولهم الطاردة للمركز ونزعتهم الأقرب الى الانفصالية، مثل منتمير شايمييف تترستاني ورسلان آوشيف انغوشيتيا ومرتضى رحيموف باشكورتوستان، مما جعل الناخب العادي يعتبر توجهات لوجكوف تفريطاً في مصالح الدولة الروسية الكبرى.
وخلال الاسبوع السابق للانتخابات، صدر حكم المحكمة العليا بعدم شرعية تغيير موعد انتخاب محافظ بطرسبورغ. وكان المحافظ فلاديمير ياكوفليف، وهو الرجل الثالث في لائحة بريماكوف الانتخابية، قرر تقديم موعد التجديد له كي يتزامن مع الانتخابات النيابية، فشكاه معارضوه الى المحكمة العليا التي اعتبرت هذا القرار مخالفاً للقوانين. وجاء الحكم ضربة موجعة لكتلة بريماكوف. كما ان تردد بريماكوف نفسه في شأن الانتخابات الرئاسية ترك أثره السلبي، فهو حتى قبل يومين من الانتخابات البرلمانية لم يعلن رسمياً نيته في الترشيح لرئاسة الجمهورية، فيما كان فلاديمير بوتين و"الدببة" يوظفون هذا التردد خير توظيف لخدمة الانتخابات البرلمانية بالذات، فضلاً عن الانتخابات الرئاسية.
كل تلك الملابسات، الى جانب حملة التشهير البشعة، أثرت في موقف الناخبين الذين كان السواد الأعظم منهم، حتى اللحظة الأخيرة، يؤيدون بريماكوف تأييداً شبه مطلق. وقد يكون تكتيك بريماكوف نفسه قد نفّر عدداً من ناخبيه. فهو، في البداية، كان فوق المعركة، بل وحتى "فوق الميول والاتجاهات"، إلا أنه دخل في ما بعد في سجالات دعائية انطلق فيها من مواقف الدفاع فهبطت به الى مستوى المهاترات.
وفي سياق الحملة الانتخابية اتهم بريماكوف الكرملين بمحاولة شراء ذمم مرشحي كتلته وصولاً الى الغاء مشاركتها في الانتخابات قانونياً اذا انسحب منها ربع أعضائها. ورد الكرملين على التهمة بعنف وطالب بذكر اسماء. فسمى بريماكوف رجل الأعمال الكسندر ماموت المستشار الفخري لمدير ديوان رئاسة الجمهورية. إلا أن السيد ماموت أقام دعوى على بريماكوف بتهمة القدح في سمعته، مما جعل الأخير يقيم، في المقابل، دعوى على الكرملين بتهمة الرشوة وشراء الذمم. لكن المحكمة التي نظرت القضية حكمت لمصلحة الكرملين، لعدم توافر الأدلة الثبوتية على شراء ذمم مرشحي لائحة بريماكوف - لوجكوف، مما كان له أسوأ الأثر في انحسار شعبية الكتلة.
ويقول خصوم بريماكوف ان كتلته لم تتألف أساساً من أجل البرلمان، اذ ان زعماءها لا ينوون ممارسة النشاط النيابي، لوجكوف مثلاً، وهو بحكم وظيفته عضو في مجلس الشيوخ، فكيف تتفرغ للتشريع في مجلس النواب؟ وبريماكوف سبق وصرح انه لا ينوي تولي مهام رئيس البرلمان يذكر انه عمل إبان العهد الشيوعي رئيساً للبرلمان السوفياتي. ويستنتج خصوم بريماكوف ان حركته تأسست وعينها على الانتخابات الرئاسية وليس البرلمانية. ولما كان الكرملين أفلح في تشويه سمعة لوجكوف فقد جر هذا الأخير بريماكوف أيضاً الى الأسفل.
وقامت وسائل الاعلام باستخدام الأوحال السياسية وتوظيفها لخدمة اللعبة الانتخابية. ومعروف ان في روسيا امبراطوريتين اعلاميتين يسيطر عليهما رجلا الأعمال اليهوديان بوريس بيريزوفسكي وفلاديمير غوسينسكي، و"عائلتين" متنفذتين تتحكمان في مقدرات الأمة، هما "عائلة" يلتسن و"عائلة" لوجكوف. يقوم بيريزوفسكي على خدمة العائلة الأولى اعلامياً، فيما يقوم غوسينسكي على خدمة العائلة الثانية. ولذا تجد المجال الاعلامي منقسما الى شطرين متباعدين على رغم ان صاحبيهما من أرومة واحدة. وما رجح احدى كفتي المعادلة ان الكرملين يسيطر من خلال بيريزوفسكي على القنوات التلفزيونية الأولى والثانية والسادسة، وكلها تبث ارسالها على نطاق روسيا بأسرها القناة الأولى يشاهدها 90 في المئة من السكان، والقناة الثانية يشاهدها 70 في المئة، فيما يسيطر لوجكوف، من خلال غوسينسكي، على القناة الرابعة العامة والقناة الثالثة المحلية. ويلاحظ الانقسام ذاته في الصحف والاذاعات. وما أكثر الفضائح والشتائم والاتهامات التي انهالت على رؤوس الناخبين المساكين في ثلاثة شهور كالحة بدت أطول من دهر.
وعلى كل، دخلت البرلمان الجديد 6 كتل فقط من أصل 26، وحصلت كتلة "الوطن الأم - كل روسيا" بريماكوف على أقل مما كانت تأمل فيه من مقاعد البرلمان المخصصة للوائح الحزبية 12 في المئة، وفازت كتلة "الوحدة الاقليمية" الكرملين بأكثر مما توقعته 23 في المئة. واجتازت عتبة ال5 في المئة كتلة "القوى اليمينية" رئيس الوزراء السابق سرغي كيريينكو ففازت ب9 في المئة وهي كتلة المصلحين الشبان الذين أخفقوا في دخول البرلمان السابق، فجاء دخولهم هذه المرة مفاجأة للجميع. وكان كيريينكو أعلن أخيراً تأييده لحكومة بوتين، وأعرب عن أمله في ان تنقلب عناصر عدة من كتلة بريماكوف عليه وتؤيد اليمين لو تحالفت حركة "الوطن الأم" مع الشيوعيين الذين حافظوا تقريباً على مقاعدهم في البرلمان الجديد 24 في المئة. وتقلصت نسبة كتلة "يابلوكو" الديموقراطية غريغوري يافلينسكي 6 في المئة. وكتلة فلاديمير جيرينوفسكي 6 في المئة. ولم تتمكن من اجتياز العتبة كتلة رئيس الوزراء السابق فيكتور تشيرنوميردين التي كان لها في البرلمان السابق 55 نائباً. وباضافة المقاعد الفردية تبدو اللوحة البرلمانية بشكلها التقريبي كالآتي: الشيوعيون 111 نائباً، "دببة" الكرملين 76 نائباً، بريماكوف 62 نائباً، كيريينكو 29 نائباً، يافلينسكي 22 نائباً، جيرينوفسكي 17 نائباً، المستقلون 105 نواب.
وهكذا جاء البرلمان الجديد أفضل من سابقه من حيث التوجهات الديموقراطية واصطفاف القوى. فقد توافر فيه للمرة الأولى منذ عشر سنوات امكان تكوين غالبية غير شيوعية. وعلى رغم العدد الكبير الذي فاز به الشيوعيون من المقاعد فانهم لن يبلغوا نسبة 50 في المئة حتى لو تحالفوا مع أنصار بريماكوف. وأعرب الناطق باسم الكرملين ايغور كبد الرسولوف نائب مدير الديوان الرئاسي عن ارتياحه لهذه النتيجة، وقال ان ثورة بيضاء حدثت في روسيا في 19 كانون الأول ديسمبر 1999. وجدد رهان الكرملين على ترشيح بوتين لرئاسة الجمهورية العام 2000، فهو الذي فاز في الانتخابات البرلمانية الحالية، من دون أن يشارك فيها.
ومن المستبعد أن تنجح محاولة الشيوعيين حجب الثقة عن حكومة بوتين. فقبيل الانتخابات كثر الحديث حول هذا الاحتمال لو تضافرت جهود كتلة بريماكوف والشيوعيين لاطاحة رئيس الوزراء الحالي. إلا أن بريماكوف، في آخر مقابلة تلفزيونية له قبيل اغلاق باب الدعاية الانتخابية، لم يؤكد نية كتلته في هذا الشأن. وقال ان الأمر يتوقف على تصرفات الحكومة لاحقاً وعلى تطور الأحداث الموضوعي. فإذا تمادت القوات الروسية في الحرب الشيشانية وإلحاق الأذى بالمدنيين فإن كتلة بريماكوف ستعيد النظر في موقفها "الودي" تجاه بوتين. وأكد بريماكوف أن الشيوعيين أيضاً لا يريدون الآن حجب الثقة عن الحكومة. وكان رئيس البرلمان السابق غينادي سيليزنيوف، الرجل الثاني في لائحة الشيوعيين للمجلس الجديد، قال قبل أيام من الانتخابات انه لا يرى مبرراً لاطاحة بوتين إلا إذا استجدت ظروف قاهرة وان من الحكمة ان تستمر الحكومة الحالية حتى 4 حزيران يونيو 2000 حين تنتهي صلاحياتها دستورياً بانتهاء ولاية الرئيس يلتسن.
والأكثر من ذلك أن بريماكوف أخذ يغازل بوتين صراحة، ربما لأغراض تكتيكية. فقد اقترح أن يتعاون معه في الانتخابات الرئاسية المرتقبة. ويفهم من كلام بريماكوف انه مستعد للتعاون في حال انتخابه رئيساً للجمهورية مع فلاديمير بوتين كنائب له أو كرئيس للوزراء. إلا أن هذا الاقتراح يبدو غير منطقي على خلفية استطلاعات الرأي العام التي تقول ان بوتين سبق بريماكوف من حيث الشعبية ثلاثة أو حتى أربعة أضعاف. وعلق بوتين على تصريح بريماكوف قائلا: "انا نفسي اقترحت عليه قبل أسابيع أن يرشح لرئاسة الجمهورية فرفض، ولا أرى الآن موجباً لبحث الموضوع من جديد".
تنفس الناس في روسيا الصعداء أخيراً لانتهاء الانتخابات البرلمانية من دون مذابح، إلا أن الحرب الإعلامية وحملات التشهير لم ولن تضع اوزارها. فالانتخابات الرئاسية على الأبواب، وحتى الآن أعلن أكثر من عشرين شخصاً نيتهم في الترشيح للرئاسة، والحبل على الغارب. ثم ان الحرب الأهلية الباردة قائمة في روسيا من أجل السلطة وإعادة اقتسام الملكية. وخط الجبهة يمتد بين اليمينيين واليساريين، وبين اليمينيين أنفسهم. هذا واقع موضوعي لا جدال فيه. والسؤال هل يمكن تفادي الانتقال من الأساليب السياسية "القذرة" الى الأساليب القسرية الساخنة؟ الانتخابات البرلمانية الأخيرة أجابت عن السؤال بالايجاب.
غير أن المحللين يتوقعون تصاعد الصراع قريباً على منصبي رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء وفق معادلة "بوتين زائد كيريينكو يساوي بريماكوف زائد لوجكوف". وفي ضوء انحسار شعبية بريماكوف يتوقع المراقبون أيضاً أن يشارك في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية زعيم الشيوعيين غينادي زيوغانوف، وان بوتين سيواجهه وليس بريماكوف في الجولة الثانية. وينتظر بالطبع أن يفوز مرشح الكرملين


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.