المملكة تتسلم رئاسة المؤتمر العام لمنظمة الألكسو حتى 2026    غوارديولا: مصيرنا بأيدينا ويجب علينا الفوز لحسم لقب الدوري الإنجليزي    بتوجيه الملك.. ولي العهد يزور «الشرقية».. قوة وتلاحم وحرص على التطوير والتنمية    ولي العهد يستقبل العلماء والمواطنين بالشرقية    تشكيل الهلال المتوقع أمام النصر    كاسترو وجيسوس.. مواجهة بالرقم "13"    خادم الحرمين الشريفين يصدر أمرًا ملكيًا بترقية 26 قاضيًا بديوان المظالم    أمطار وسيول على أجزاء من 7 مناطق    النفط يرتفع والذهب يلمع بنهاية الأسبوع    9 جوائز خاصة لطلاب المملكة ب"آيسف"    الإعلام الخارجي يشيد بمبادرة طريق مكة    ‫ وزير الشؤون الإسلامية يفتتح جامعين في عرعر    قرضان سعوديان ب150 مليون دولار للمالديف.. لتطوير مطار فيلانا.. والقطاع الصحي    بوتين: هدفنا إقامة «منطقة عازلة» في خاركيف    رئيس الوزراء الإيطالي السابق: ولي العهد السعودي يعزز السلام العالمي    «الأحوال»: قرار وزاري بفقدان امرأة «لبنانية الأصل» للجنسية السعودية    تراحم الباحة " تنظم مبادة حياة بمناسبة اليوم العالمي للأسرة    محافظ الزلفي يلتقي مدير عام فرع هيئة الأمر بالمعروف بالرياض    حرس الحدود يحبط تهريب 360 كيلوجرامًا من نبات القات المخدر    تشافي: برشلونة يمتلك فريقاً محترفاً وملتزماً للغاية    «عكاظ» تكشف تفاصيل تمكين المرأة السعودية في التحول الوطني    الطاقة النظيفة مجال جديد للتعاون مع أمريكا    جامعة الملك خالد تدفع 11 ألف خريج لسوق العمل    1.6 ألف ترخيص ترفيهي بالربع الأول    «الأقنعة السوداء»    السعودية والأمريكية    العيسى والحسني يحتفلان بزواج أدهم    5 مخاطر صحية لمكملات البروتين    تقنية تخترق أفكار الناس وتكشفها بدقة عالية !    حلول سعودية في قمة التحديات    فتياتنا من ذهب    تضخم البروستات.. من أهم أسباب كثرة التبول    بريد القراء    الرائد يتغلب على الوحدة في الوقت القاتل ويبتعد عن شبح الهبوط    الدراسة في زمن الحرب    76 مليون نازح في نهاية 2023    فصّل ملابسك وأنت في بيتك    الشريك الأدبي وتعزيز الهوية    التعليم في المملكة.. اختصار الزمن        WhatsApp يحصل على مظهر مشرق    ابنة الأحساء.. حولت الرفض إلى فرص عالمية    الاستشارة النفسية عن بعد لا تناسب جميع الحالات    مستقبل الحقبة الخضراء    رئيس موريتانيا يزور المسجد النبوي    حراك شامل    الإطاحة بوافد مصري بتأشيرة زيارة لترويجه حملة حج وهمية وادعاء توفير سكن    فوائد صحية للفلفل الأسود    خطر الوجود الغربي    كلنا مستهدفون    حق الدول في استخدام الفضاء الخارجي    ايش هذه «اللكاعه» ؟!    العام والخاص.. ذَنْبَك على جنبك    البنيان يشارك طلاب ثانوية الفيصل يومًا دراسيًا    أمير تبوك يرعى حفل جامعة فهد بن سلطان    رعاية ضيوف الرحمن    السفير الإيراني يزور «الرياض»    خادم الحرمين الشريفين يصدر عدداً من الأوامر الملكية.. إعفاءات وتعيينات جديدة في عدد من القطاعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صراع يتجاوز الجغرافيا الى القيم والحضارة والوجود : 12 محوراً في مفاوضات السلام العربية الاسرائيلية
نشر في الحياة يوم 25 - 10 - 1999

يدور نقاش واسع في مختلف الأوساط وعلى جميع المستويات، داخل المؤسسات الوطنية والاقليمية والدولية، حول موضوع المفاوضات العربية - الإسرائيلية، خصوصاً على المسارين السوري واللبناني: هل ستبدأ والصحيح ستستأنف؟ ومن أين ستبدأ؟ وما هي احتمالات نجاحها أو فشلها؟ وفي الوقت عينه، تبدأ جولة جديدة من المفاوضات بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية حول الحل النهائي. و"يتكهن" المراقبون بأنها قد تستغرق ما بين ستة أشهر وسنة. وتتسابق الدول الفاعلة الولايات المتحدة والدول الأوروبية على بذل مساعيها لإيجاد الصيغ المناسبة لمتابعة عملية السلام والتوصل إلى حلول ترضي أطراف النزاع!
إن موضوع المفاوضات العربية - الإسرائيلية هو من أكثر المواضيع الصراعية تعقيداً، وان مقاربته لا يمكن ان تتم من باب الاختزال أو التجزئة أو التبسيط. ذلك ان عناصر الصراع هي من العمق والشمولية بحيث تفرض العودة إلى الأساس. ومن دون هذه العودة يبقى الكلام مجرد انشائيات تطفو على سطح الصراع وتلامس جوانبه الخارجية من دون ان تنفذ إلى الجوهر. ولعل ما ينبغي توضيحه، قبل كل شيء، أمران: الأول، مفهوم التفاوض ومستلزماته، والثاني، الصراع العربي - الإسرائيلي الذي يجري التفاوض حوله.
أولاً، في مفهوم التفاوض ومستلزماته
إن إحدى أبرز مشاكل الفكر السياسي العربي هي "ضبابية" المفاهيم. وعندما يكون المفهوم Conception ملتبساً تصبح عناصره ونتائجه ملتبسة أيضاً. وفي ظل هذا الالتباس يصعب التوصل إلى نتائج ايجابية ومرضية. من ذلك ان الجميع يتحدث الآن عن المفاوضات بين العرب وإسرائيل من رجل المسؤولية إلى رجل الشارع ونادراً ما حاول بعضهم جلاء مفهوم التفاوض ومستلزماته لأنه في ضوء هذا الجلاء هذا الوضوح يمكن فهم ما جرى سابقاً وما يجري حالياً وما يمكن ان يجري غداً في مسار هذه المفاوضات.
في العربية، بحسب المعاجم اللغوية: ف و ض "أصل يدل على اتكال في الأمر على آخر ورده عليه". من ذلك فوّض إليه الأمر أي: "جعله حر التصرف فيه". وفاوضه مفاوضة: "ساواه وجاراه في الأمر" والفوضى تحدث عندما يفوّض كل أمره إلى الآخر فيختل النظام لأنه ليس فيهم رئيس مسؤول. وتفاوض الجانبان: "إذا اشتركا ففوض كل أمره إلى صاحبه = هذا راضٍ بما صنع ذاك وذاك راضٍ بما صنع هذا".
وفي الفرنسية معجم لو روبير Le Robert واللاتينية عامة، فإن تعبير Nژgocier nژgociation يعني = Faire du nژgoce affaire - commerce = commercer، ففيها أساساً معنى المفاصلة التجارية للوصول إلى تفاهم حول سلعة أو صفقة، ثم يرتقي هذا المعنى بالتجريد من دون ان يفقد معناه الأصلي فيعني "مجموعة مقابلات وتبادل لوجهات النظر واعتماد مسار معين للتوصل إلى اتفاق ينهي قضية معينة". أو أنه "البحث عن اتفاق يشكل حلاً سياسياً ويكون بديلاً لاعتماد اسلوب القوة والحرب". من هنا فإن الدعوة إلى التفاوض تعني حكماً الدعوة إلى الحوار.
خمسة أمور أساسية يمكن استخلاصها في ضوء هذا التعريف بمفهوم "التفاوض":
1- قبول مبدأ التفاوض أو رفضه، ذلك انه في كل جانب من الجانبين المتصارعين المتفاوضين توجد جهتان: واحدة تقبل مبدأ التفاوض وثانية ترفضه. واحدة تسووية وأخرى راديكالية. واحدة مع الحل السلمي وأخرى مع العمل المسلح "حتى التحرير"، وهو ما ينطبق على بعض العرب وبعض الإسرائيليين على حد سواء.
2- شرعية المتفاوضين، هذه النقطة متعلقة بسابقتها وخلاصتها: من أين يستمد المفاوضون شرعيتهم ليكون لهم الحق بالتفاوض نيابة عن الجماعة عن الدولة. هذه إشكالية خلافية، رافقت، وترافق، مسارات التفاوض كافة، وتزداد حدّتها بمقدار ما يكون الصراع حاداً. وعادة ما يكون الحسم فيها للممارستين: الديموقراطية، حين يحاول دعاة التفاوض والسلام الحصول على الأكثرية الشعبية في الانتخابات والاستفتاءات - أو عبر المؤسسات السياسية المجلس الوطني مثلاً، والبندقية، بمعنى السعي إلى استبعاد "زعماء" التفاوض بالوسائل السلمية، فإذا تعذّر ذلك، يصدر "القرار" بإلغائهم أي باغتيالهم، وهذا ما حصل للرئيس السادات والوزير الأول رابين وبعض مسؤولي منظمة التحرير الذين شرعوا في التفاوض مع الجانب الإسرائيلي واتهموا بالخيانة!
3- الحوار، لا يمكن ان يتم الحوار بين غائبين، بل بين حاضرين. الحضور مؤشر الحوار. ولكن العلانية قد تفجر الأوضاع والتناقضات ويستفيد منها المتطرفون في الجانبين. لذا كان الحوار السري بعيداً عن الأضواء اسلوباً معتمداً للتوصل إلى نتائج محددة نموذجه اتفاقات أوسلو بين إسرائيل والفلسطينيين. في وضع كهذا يتمكن المفاوضون من تجنب أربعة ضغوط: ضغط الشارع، وضغط الأحداث، وضغط الاعلام، وضغط الدول المعنية.
4- حد أدنى من الثقة بالآخر، فمن دون هذه الثقة يصبح التفاوض أشبه بحوار طرشان ومن الصعب عملياً خلق أجواء ثقة كاملة بين الجانبين بالمعنى الخلقي للكلمة. ذلك ان الهوة بينهما عادة ما تكون كبيرة وعميقة. وتكون العلاقات بينهما علاقات حذر وريبة، خصوصاً إذا كانت الممارسات السابقة تحمل شحنة من الاعتداءات والحروب والبغضاء الأحادية الجانب أو المتبادلة. إن تخطي حال عدم الثقة هذه بحاجة إلى الكثير من مغالبة النفس وضبط المشاعر وامتداد الزمن. على أن الأوضاع السياسية ليست مجرد حالات عاطفية. على العكس من ذلك، فإن المعيار الأول للعمل السياسي هو المصلحة. وهي التي تحدد في النهاية مواقف الافرقاء واتجاهاتهم. وبالتالي مدى انخراطهم في التفاوض للوصول إلى حل سلمي متفق عليه. وهذا يقود بدوره إلى جدال داخل كل معسكر حول: من يحدد المصلحة الوطنية والقومية والعقائدية.
5- ميزان القوى، إذا كان طرفا التفاوض قد وضعا مدافعهما جانباً ربما موقتاً وجلسا للتفاوض في ما بينهما، فإن لدى كل فريق منهما أسلحته "الأخرى" التي تشكل قدرته على التفاوض: استراتيجيته وتكتيكه من ضمن ميزان القوى الذي يستند إليه والذي يسمح له بالتفاوض من موقع القوة لا من موقع الضعف. فميزان القوى، على عكس ما يظن البعض، لا يشمل فقط القوة العسكرية، لذا يقول ايهود باراك: "إن ما يجعل الفارق بيننا وبين العرب هو قوتنا العسكرية والاستراتيجية، وكذلك قوتنا الاقتصادية والعلمية ونظامنا التربوي وتكنولوجيتنا".
بما أن هدف التفاوض هو التوصل إلى اتفاق حول قضية معينة هي بذاتها قضية خلافية، فمن الطبيعي ان يحاول كل طرف من أطراف التفاوض استغلال كل الأوراق التي يمتلكها لكي يأتي الاتفاق لمصلحته. وفي أحيان كثيرة، لكي يفرض اتفاقاً على الطرف الآخر، الذي، بسبب ميزان القوى المختل ضد مصلحته، يجد نفسه مجبراً على القبول بما عُرض عليه. وفي حالات كثيرة يعود هذا الأخير فينقلب على الاتفاق لدى حدوث تغيّر في ميزان القوى مثاله قبول نائب الرئيس العراقي صدام حسين العام 1975 باتفاق الجزائر بين العراق وإيران حول شط العرب، ثم الانقلاب عليه في حرب الخليج الأولى 1981.
في ضوء ميزان القوى هذا، نفهم كيف أن سورية مثلاً ظلت حتى انهيار الاتحاد السوفياتي 1989 تعتمد خيار التوازن الاستراتيجي مع إسرائيل، وبعد ذلك بعد مؤتمر مدريد 1991 بدأت تتحدث عن "السلام كخيار استراتيجي"، إذ فقدت ظهيرها الاستراتيجي الدولي وهو الاتحاد السوفياتي. ومثل هذا الوضع يسمح لباراك بالقول: "نحن البلد الأقوى على مدى 1500 كلم حول القدس" جريدة "لوموند" 22/9/1999. في هذا الكلام، بالمعنى الاستراتيجي إشارة ضمنية إلى مدى الصاروخ "أريحا -2" البالغ 1500كلم، والقادر على حمل قنابل نووية تمتلك إسرائيل منها نحو 200 رأس وتشكل مظلة لدائرة مركزها القدس ويصل شعاعها إلى باكستان شرقاً والقوقاز شمالاً والمغرب غرباً شاملة معظم الدول العربية ودول الشرق الأوسط كافة.
في مقابل هذا التفوق العسكري الإسرائيلي مدعوماً بظهيره الاستراتيجي الأميركي، يمتلك الجانب بل الجوانب العربي أربع أوراق أسلحة أساسية في الصراع:
سلاح الموقف من إسرائيل الوجود، الدولة والكيان، وهو الأخطر والأهم بالنسبة إلى إسرائيل، ومعناه ان العرب يملكون سلاح الاعتراف بإسرائيل ليس فقط كدولة، وهذا غير كافٍ، بل باعتبارها جسماً طبيعياً في جسد المنطقة وليست جسماً غريباً عنها. إن شرعية إسرائيل الوجودية وليس فقط شرعيتها الدولاتية Etatique هي الموضوعة على محك التفاوض. إنها الخلفية البعيدة لكل نشاطها السياسي بمعناه العام، منذ قيامها العام 1948، ولهذا تصر في كل تفاوض مع كل جانب عربي على مبدأ تطبيع العلاقات.
سلاح الديموغرافيا، والصحيح القنبلة الديموغرافية العربية والإسلامية التي تشكل التهديد المباشر للخمسة ملايين يهودي في إسرائيل. وهو تهديد لا يقتصر على محيط إسرائيل فقط، بل يشمل عرب إسرائيل داخل الخط الأخضر.
سلاح الحيّز الجغرافي Espace، ففي مقابل مساحة 20 ألف كلم مربع مساحة إسرائيل، ينبسط العالم العربي على مساحة 14 مليون كلم مربع، أي أن نسبة مساحة إسرائيل إلى العالم العربي هي 1/700. وهذا يعني استراتيجياً ان قنابل باراك المئتين النووية قادرة على إحداث تدمير جزئي في العالم العربي، في حين ان قنبلتين نوويتين عربيتين أو إسلاميتين فقط ستكونان قادرتين على إحداث تدمير كلي في إسرائيل. لهذا يقول باراك في "لوموند" إنه "قد يقوم خلال عشر سنوات ديكتاتور يمتلك قنبلة نووية مع امكانية اطلاقها"، وهذا الهاجس هو أحد أسباب تسريع عملية التفاوض. أكثر من ذلك، فهو يفسر لماذا تتعجل إسرائيل في مفاوضات الحل النهائي. فهي تحاول استباق الزمن الذي لن يكون في مصلحتها. ولن تكون قادرة في المستقبل على التحكم بوجود سلاح الدمار الشامل في أيدي القوى الراديكالية العربية والإسلامية.
سلاح الأجيال الجامعية العربية ذات الاختصاصات التقنية العالية والتي ستشكل تفوقاً عددياً وتحدياً مباشراً للتفوق النوعي الإسرائيلي.
6- التكتيك الإسرائيلي في المفاوضات
إن تيار التفاوض تيار السلام في إسرائيل يعتبر ان "السلام خيار حيوي" للدولة العبرية، وفي رأي باراك، ان مصالح إسرائيل الحيوية ترتبط بالسلام حيث يمكن للجميع أن يربحوا، وبديل الصرف على السلاح يتحوّل الصرف إلى التربية والعلم والبحث. ولكنه يضيف: "لن أحقق السلام بأي ثمن وبأي شرط". وعلى عكس الجانب العربي، تواجه إسرائيل عملية التفاوض بما كان يسميه هنري كيسنجر الفباء التفاوض وهو الجمع بين اثنين: الديبلوماسية والقوة وحسن استغلالهما بحسب الحاجة: ترهيباً أو ترغيباً. وعليه، فقد قام تكتيك إسرائيل التفاوضي على ست ركائز:
- استغلال قدراتها العسكرية وتفوقها الاستراتيجي لإملاء شروطها أو تغليب وجهة نظرها.
- تكليف مؤسسات ومراكز للدراسات الاستراتيجية الأكاديمية بوضع التصورات والخيارات الممكنة والمتاحة أمام إسرائيل في كل حل مع العرب، وهو ما لم يفعله العرب.
- تقسيم الموقف العربي لدى دول الجوار الجغرافي لإسرائيل - دول الطوق باستفرادها واحدة واحدة: من مصر إلى الفلسطينيين إلى الأردن، والآن في محاولة فصل المسارين اللبناني والسوري. وهو تقسيم يضعف الموقف العربي ويسهل لإسرائيل فرض رأيها وشروطها.
- تغييب المؤسسات الدولية وشلّها، ولا سيما الأمم المتحدة وإبعادها عن كل حل لأنها أكثر ولاء للعرب منها لإسرائيل!
- استيعاب الموقف الأميركي ومنعه من ان يكون متوازناً، بل العمل على جعله متبنياً بشكل شبه دائم وكامل للطروحات الإسرائيلية، وأكثر من ذلك، منعه من التدخل المباشر في المفاوضات بصفة راعٍ فاعل، بل بصفة راعٍ مراقب كي لا يؤدي تدخله إلى التأثير في ميزان القوى داخل المفاوضات، وهو ميزان مختل لمصلحة إسرائيل.
- استغلال الموقف الأوروبي من دون السماح للأسرة الأوروبية بالتدخل المباشر في عملية التفاوض لإتهام أوروبا بأنها أكثر قرباً من العرب، وقصر دورها على حمل الرسائل بين الجانبين، وتأييد الاتفاقات المعقودة والاصطفاف خلف الموقف الأميركي.
ثانياً: مواضيع الصراع التي يجري التفاوض في شأنها.
يدور التفاوض بين العرب وإسرائيل حول مواضيع عدة تمثّل النقاط الخلافية بين الجانبين وتشكّل في مجملها جبهتي المواجهة بينهما. إنها جبهة لا تمتد فقط على طول الحدود بين الجانبين، بل تتعداه إلى المقدسات والقيم والعقيدة وصراع الحضارات ومعركة الوجود والبقاء بمستلزماتها الجغرافية والبشرية والمؤسسية. وسنحاول اعطاء لمحة موجزة عن هذه المواضيع التي جرى ويجري التفاوض في شأنها كي نعطي نظرة شمولية عن أبعاد الصراع ومداه وتعقيداته.
1- حدود إسرائيل الدولية: تكاد إسرائيل أن تكون الدولة الوحيدة التي لم تتبن حدوداً نهائية كما تفعل بقية الدول في مطلع دساتيرها. وهذا عائد إلى المفهوم التوراتي ل"أرض إسرائيل" الذي لا يتطابق مع واقع الدولة العبرية. فمنذ العام 1948 وقرار التقسيم، تقوم إسرائيل بالتوسع على حساب جيرانها وهو توسع بلغ ذروته في حرب 1967. ويؤكد باراك أنه "لا عودة إلى حدود 1967"، مما يعني ان إسرائيل عازمة على ضم أراضٍ جديدة أكثرها في الضفة الغربية وبعضها على الجبهة السورية شرق بحيرة طبريا، علماً بأنها أعادت الأراضي المحتلة لمصر في اتفاق كامب دافيد 1978 وأعلنت صراحة بلسان أكثر من مسؤول أنه "لا مطامع لها في الأراضي اللبنانية". ولكن أين تقف هذه الحدود؟ وهل ستقف عند نقطة معينة؟ إن مفاوضات الحل النهائي مع الفلسطينيين والمفاوضات مع الجانب السوري ستلقي الضوء على هذين السؤالين.
2- الدولة الفلسطينية: إن حدود الدولة الإسرائيلية لا تشكل مأزقاً لحدود الدولة الفلسطينية فحسب، بل لوجود هذه الدولة وطابعها الدستوري وصلاحياتها وعاصمتها ومدى استقلاليتها وسيادتها وكيانها الجغرافي والديموغرافي وقدراتها العسكرية والتحكم بمرافقها الاستراتيجية براً وبحراً وجواً. إنها في وضعها الجنيني الحالي وعلى المدى المنظور أقرب إلى كوندمينيوم تتحكم به الدولة العبرية.
3- الأمن والضمانات الأمنية: مَن يضمن الأمن لمَنْ؟ الكل خائف والكل بحاجة إلى ضمانات في هذا الجانب أو ذاك. أمن الدولة وأمن الأفراد والمجموعات والأمن الخارجي بعدم الاعتداء. وما دامت الثقة قليلة والتجارب مريرة، فلا بد من اتخاذ اجراءات الحيطة والحذر كي لا تقع اعتداءات فجائية وغير محسوبة بدءاً بتفجير محلي وصولاً إلى اعلان حرب شاملة. وفي دولة أقلوية كإسرائيل فإن المسؤولين لا يفرقون بين الأمن والسياسة. "فمن المستحيل الفصل بين الأمن والسياسة" على حد تعبير باراك.
على الصعيد الداخلي، وضعت إسرائيل الأمن تجاه القوى الراديكالية الإسلامية شرطاً لتطبيق التزاماتها السياسية مع الفلسطينيين في المفاوضات والاتفاقات. وعلى الصعيد الخارجي هناك اصرار خصوصاً من جانب إسرائيل على خمسة أمور تشكل ضمانات أمنية، خصوصاً بالنسبة إلى الدول التي تمثل تهديداً مباشراً، وهي: إقامة منطقة حدودية مجردة من السلاح، وضع نقاط مراقبة للانذار المبكر، وضع قوات أجنبية للمراقبة خصوصاً من دولة كبرى مثل الولايات المتحدة، تحديد عدّة وعديد قوى المواجهة العسكرية على مدى جغرافي معين، والسعي لعدم حصول الطرف الآخر على أسلحة الدمار الشامل.
4- المستوطنات: لقد زرعت إسرائيل العديد من المستوطنات في الأراضي التي احتلتها العام 1967، في الضفة الغربية وقطاع غزة والجولان وبعضها في جهات العريش العصرية. إن المستوطنات هي حدود متقدمة للدولة العبرية. إن تهجير الفلسطينيين واخراجهم من الجغرافيا هو المدخل إلى اخراجهم من تاريخ فلسطين وإدخال المستوطنين بديلاً لهم كصنّاع لهذا التاريخ. ويطرح وجود المستوطنات جملة اشكاليات على عملية التفاوض:
- مصير المستوطنات من الوجهة الجغرافية الدولاتية.
- أمن المستوطنات: تحت سلطة مَن؟ إسرائيل أم الفلسطينيون؟
- تغيير الطابع الجغرافي والديموغرافي للأراضي المحتلة.
- تغيير الطابع التراثي للمدن القدس.
- قيام مجتمع مدني مسلح.
- استغلال ثروات فلسطين الطبيعية لا سيما المياه بنسب متفاوتة جداً.
5 - اللاجئون: ما هو مصير مئات ألوف اللاجئين الفلسطينيين الذين هجروا من ديارهم عامي 1948 و1967؟ هل ستقبل إسرائيل بعودتهم؟ هل ستعوض عليهم؟ هل يمكن تطبيق قرار الجمعية العامة الرقم 194 الخاص بعودة اللاجئين؟ وما هو مدى الصحة في رد إسرائيل بأن العديد من اليهود قد شردوا بالمقابل من الدول العربية، وان خسائرهم تكاد تعادل خسائر الفلسطينيين اللاجئين في الأردن وسورية ولبنان. وهل المطلوب توطينهم حيث يقيمون؟ وما هو موقف دول الاستقبال، خصوصاً لبنان، في الوقت الذي يردد باراك لاءاته ومنها: لا لعودة لللاجئين! باختصار: ما هي الحلول الممكنة لهذه المشكلة السياسية والإنسانية؟
6- القدس: لعل مصير القدس هو المسألة الأكثر صعوبة وتعقيداً في مسار المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلة. من هنا تأخير مناقشتها إلى نهاية المفاوضات كي لا تفجّر الاتفاقات، لما هي عليه من دقة وحساسية يختلط فيها الديني بالزمني. فالقدس هي مدينة مقدسة لدى الديانات السماوية الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام. وفيها العديد من الأمكنة المقدسة التي يستحيل على أبناء أي من الديانات التخلي عنها. وبعد احتلال الجزء الشرقي العربي منها 1967 عمدت إسرائيل إلى تهويد المدينة، وقال باراك بلغة حاسمة في آخر تصريحاته: "إن أورشليم هي مدينة موحدة وعاصمة أبدية لإسرائيل ونقطة على السطر". في المقابل، يصرّ ياسر عرفات على الإعلان دائماً "قيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف". وبين الموقفين المتناقضين تسعى جهات دولية وروحية مثل الفاتيكان إلى ايجاد حل يؤمن للديانات الثلاث حق ممارسة حرياتها الدينية في المدينة المقدسة.
7- المياه: إن تقاسم المياه الجارية والجوفية بين إسرائيل وجيرانها يشكل جزءاً أساسياً من عملية التفاوض. ذلك أنه في منطقة شبه صحراوية، لا يمكن للدول أن تحيا إلا إذا أمنت لنفسها الحد الأدنى من احتياجاتها المائية. وهو ما تنبه إليه رواد إسرائيل قبل قيام الدولة. وبما ان مصادر المياه محدودة يقوم صراع خفي ومكشوف لوضع اليد على مصادر المياه، بحيث تعمد إسرائيل إلى استغلال المياه الجوفية لتلال الضفة الغربية، وكذلك روافد نهر الأردن من لبنان وسورية والتمسك بالجولان لأسباب مائية تأمين حصة لها من ينابيعه. وتحاول ان تدخل لبنان في منظومتها المائية، وهذه "الهجمة" المائية الإسرائيلية تضع الدول المجاورة، لا سيما لبنان، في موقف صعب ابان المفاوضات، مما يستدعي قيام جهاز كفوء لجنة أبحاث يقوم بترسيم سياسة مائية لبنانية وعربية في مواجهة إسرائيل في المفاوضات المقبلة. وفي هذه النقطة بالذات يكمن السر في إصرار إسرائيل على التمسك بالضفة الشرقية لبحيرة طبريا ومنطقة الحمة على أساس الحدود الدولية لفلسطين لعام 1923 وليس على أساس حدود حزيران يونيو 1967 كما تطالب سورية.
8- المقاطعة العربية: كلفت المقاطعة العربية لإسرائيل المقاطعة الاقتصادية، منذ أواخر الأربعينات إلى اليوم ما يقارب الخمسين مليار دولار. وطبيعي أن تسعى إسرائيل، ومعها الولايات المتحدة، إلى طلب إلغاء المقاطعة العربية في كل اتفاقات بين الجانبين لسببين: لأن المقاطعة نقيض للتطبيع، ولأن لإسرائيل والولايات المتحدة مصالح اقتصادية مشتركة تتأثر سلباً بوجود المقاطعة العربية.
ولكن المقاطعة سلاح بيد الجانب العربي لا يمكنه أن يتخلى عنه إلا لقاء تنازلات تقدمها إسرائيل. وهو سلاح يكاد يفقد أهميته وفعاليته بتهالك بعض الأنظمة العربية بفعل الضغوط الأميركية عليها.
9 - التطبيع: ومعناه قيام علاقات طبيعية بين إسرائيل والدول العربية المجاورة والبعيدة، وهذا يفترض قيام توافق على معظم أمور التفاوض والتوصل إلى حل شامل وعادل، وهما صفتان تعنيان عادة أموراً مختلفة بالنسبة إلى الطرفين. والتطبيع حالة لا يمكن الوصول إليها بسرعة وسهولة نظراً إلى التجارب التاريخية الصعبة والمؤلمة. إنما قد تصبح أمراً ممكناً بمرور الزمن. وهو ما يقول به بعضهم ويرفضه بعضهم الآخر دعاة صراع الوجود لا صراع الحدود.
10- الأسرى: وهم في الغالب من الفلسطينيين المسجونين في السجون الإسرائيلية ويعدون بالمئات، الكثيرون منهم سجناء سياسيون، والافراج عنهم عن بعضهم يشكّل جزءاً مهماً من صفقة التفاوض لأنه يعبّر عن تليين في الموقف السياسي الإسرائيلي، وتنفيس الاحتقان داخل المجتمع الفلسطيني، وتدعيم موقف منظمة التحرير ازاء أهالي المعتقلين.
لهذا يصر ياسر عرفات في كل اتفاق وآخره اتفاق واي وملحقه في شرم الشيخ على اطلاق سراح مجموعة كبرى من الأسرى.
11- المقاومة في جنوب لبنان وداخل الصفة: وقد أصبحت المقاومة جزءاً أساسياً من المعادلة الأمنية السياسية - العسكرية بين إسرائيل ودول الجوار، بعدما حققت هذه المقاومة خصوصاً في جنوب لبنان انجازات عسكرية مهمة سواء في مواجهة جيش لبنان الجنوبي أم القوات الإسرائيلية. وصارت قوة يُحسب لها حساب بحيث بدأت إسرائيل تطالب باعتبارها أي المقاومة جزءاً من الحل على المسار السوري - اللبناني في كل مفاوضات مقبلة بل وكمدخل إلى هذه المفاوضات!
12- الصراع العقائدي صدام الحضارات: وهو الإطار العام الذي يحوي جميع الصراعات وتقع فيه المواجهة بين الحضارتين اليهودية والإسلامية. وهذه الخليفة العقائدية الايمانية للصراع بما هي فيه وعليه من معتقدات تجعل مسألة التفاوض أكثر صعوبة وتعقيداً، ذلك ان التسوية ممكنة بالنسبة إلى الأشياء وصعبة وتكاد تكون مستحيلة بالنسبة إلى القيم والمبادئ. وهذا ما يعبر عنه عادة بالخيارات المؤلمة التي على الجانبين ان يتخذاها للوصول إلى حل وسط متفق عليه.
لقد كانت "العودة إلى الأساس" ضرورية لدى تناول موضوع المفاوضات العربية - الإسرائيلية. سواء ما أجري منها وما سيجري في المستقبل. والعودة إلى الأساس تعني إعادة طرح مفهوم التفاوض من الأساس مع جميع مستلزماته وإعادة التذكير بالمحاور الأساسية التي يتم التفاوض حولها. وقد ذكرنا منها اثني عشر محوراً تشكّل مجموعها الفضاء التفاوضي بين العرب وإسرائيل، وهي لا تزال مطروحة كلياً أو جزئياً. لقد مرّ العرب بامتحانات صعبة حتى الآن في سياق مفاوضاتهم مع الدولة العبرية، تميّزت بسلسلة تراجعات في الشكل والجوهر على حد سواء، لذلك يأمل كثيرون أن تجرى المفاوضات على المسارين السوري واللبناني بنهج جديد ورؤية متجددة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.