موقف ميتروفيتش من مواجهة مانشستر سيتي    حقيقة تعاقد النصر مع جيسوس    نيوم يعلق على تقارير مفاوضاته لضم إمام عاشور ووسام أبو علي    رابطة العالم الإسلامي تُدين العنف ضد المدنيين في غزة واعتداءات المستوطنين على كفر مالك    رئيسة الحكومة ووزير الصحة بتونس يستقبلان الرئيس التنفيذي للصندوق السعودي للتنمية    لجنة كرة القدم المُصغَّرة بمنطقة جازان تقيم حفل انطلاق برامجها    ليلة حماسية من الرياض: نزالات "سماك داون" تشعل الأجواء بحضور جماهيري كبير    عقبة المحمدية تستضيف الجولة الأولى من بطولة السعودية تويوتا صعود الهضبة    "الحازمي" مشرفًا عامًا على مكتب المدير العام ومتحدثًا رسميًا لتعليم جازان    «سلمان للإغاثة» يوزّع (3,000) كرتون من التمر في مديرية القاهرة بتعز    فعاليات ( لمة فرح 2 ) من البركة الخيرية تحتفي بالناجحين    في حالة نادرة.. ولادة لأحد سلالات الضأن لسبعة توائم    دراسة: الصوم قبل الجراحة عديم الفائدة    ضبط شخص في تبوك لترويجه (66) كجم "حشيش" و(1) كيلوجرام "كوكايين"    أمير الشرقية يقدم التعازي لأسرة البسام    نجاح أول عملية باستخدام تقنية الارتجاع الهيدروستاتيكي لطفل بتبوك    صحف عالمية: الهلال يصنع التاريخ في كأس العالم للأندية 2025    مقتل 18 سائحًا من أسرة واحدة غرقًا بعد فيضان نهر سوات بباكستان    الهلال يحقق مجموعة من الأرقام القياسية في مونديال الأندية    إمام وخطيب المسجد النبوي: تقوى الله أعظم زاد، وشهر المحرم موسم عظيم للعبادة    12 جهة تدرس تعزيز الكفاءة والمواءمة والتكامل للزراعة بالمنطقة الشرقية    الشيخ صالح بن حميد: النعم تُحفظ بالشكر وتضيع بالجحود    تمديد مبادرة إلغاء الغرامات والإعفاء من العقوبات المالية عن المكلفين حتى 31 ديسمبر 2025م    بلدية فرسان تكرم الاعلامي "الحُمق"    مدير جوازات الرياض يقلد «آل عادي» رتبته الجديدة «رائد»    استشهاد 22 فلسطينيًا في قصف الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة    وزارة الرياضة تحقق نسبة 100% في بطاقة الأداء لكفاءة الطاقة لعامي 2023 -2024    رئاسة الشؤون الدينية تُطلق خطة موسم العمرة لعام 1447ه    ثورة أدب    أخلاقيات متجذرة    القبض على وافدين اعتديا على امرأة في الرياض    استمتع بالطبيعة.. وتقيد بالشروط    د. علي الدّفاع.. عبقري الرياضيات    في إلهامات الرؤية الوطنية    البدء بتطبيق"التأمينات الاجتماعية" على الرياضيين السعوديين ابتداءً من الشهر المقبل    نائب أمير جازان يستقبل رئيس محكمة الاستئناف بالمنطقة    الأمير تركي الفيصل : عام جديد    تدخل طبي عاجل ينقذ حياة سبعيني بمستشفى الرس العام    مفوض الإفتاء بمنطقة جازان يشارك في افتتاح المؤتمر العلمي الثاني    محافظ صبيا يرأس اجتماع المجلس المحلي، ويناقش تحسين الخدمات والمشاريع التنموية    لوحات تستلهم جمال الطبيعة الصينية لفنان صيني بمعرض بالرياض واميرات سعوديات يثنين    ترامب يحث الكونغرس على "قتل" إذاعة (صوت أمريكا)    تحسن أسعار النفط والذهب    حامد مطاوع..رئيس تحرير الندوة في عصرها الذهبي..    تخريج أول دفعة من "برنامج التصحيح اللغوي"    عسير.. وجهة سياحة أولى للسعوديين والمقيمين    أسرة الزواوي تستقبل التعازي في فقيدتهم مريم    الإطاحة ب15 مخالفاً لتهريبهم مخدرات    وزير الداخلية يعزي الشريف في وفاة والدته    الخارجية الإيرانية: منشآتنا النووية تعرضت لأضرار جسيمة    تصاعد المعارك بين الجيش و«الدعم».. السودان.. مناطق إستراتيجية تتحول لبؤر اشتباك    غروسي: عودة المفتشين لمنشآت إيران النووية ضرورية    استشاري: المورينجا لا تعالج الضغط ولا الكوليسترول    "التخصصات الصحية": إعلان نتائج برامج البورد السعودي    أمير تبوك يستقبل مدير فرع وزارة الصحة بالمنطقة والمدير التنفيذي لهيئة الصحة العامة بالقطاع الشمالي    من أعلام جازان.. الشيخ الدكتور علي بن محمد عطيف    أقوى كاميرا تكتشف الكون    الهيئة الملكية تطلق حملة "مكة إرث حي" لإبراز القيمة الحضارية والتاريخية للعاصمة المقدسة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العروض العربية بين المباشرة الفجة وموضة الرقص التعبيري . مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي : ديكتاتور يحتضر وقصص حبّ تبدأ ولا تصل
نشر في الحياة يوم 22 - 09 - 1997

واصل "مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي" مغامرته الجريئة في ارساء قواعد وتقاليد مختلفة لفنّ الفرجة. وحملت الدورة التاسعة علامات النضج والبلوغ، لجهة اختيار العروض، والبرمجة والتنظيم واثارة النقاشات... إذ احتضنت القاهرة عدداً من الأعمال العالميّة مقدّمة فرصة ثمينة لفتح آفاق المسرح العربي جمهوراً ومبدعين. إلا أن العروض العربيّة التي نركّز عليها في ما يلي، لا تزال في معظمها تتخبّط في فخاخ التعليميّة والصراخ والخطابيّة، وتخلط بين الأمثولة الهادفة والابتكار الفنّي. كأننا أمام سوء تفاهم مزمن يحيط بمفهوم التجريب على امتداد خريطة المسرح العربي.
إنتهت فعاليات الدورة التاسعة لمهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي بمشاركة أحد عشر عرضاً عربياً في مسابقته الرسمية مثلت تسع دول. عرضان لكل من تونس ومصر، وعرض واحد من لبنان، سوريا، الجزائر، الاردن، قطر، السعودية، الكويت... اضافة إلى عرض بلجيكي للعراقي حازم كمال الدين. كما احتضنت الخشبات القاهريّة 15 عرضاً مصرياً على هامش المسابقة الرسميّة. وسُجّل غياب ليبيا من دون اعتذار، وفلسطين بسبب العراقيل الاسرائيلية، والمغرب بسببب الفراغ الذي تعيشه الساحة المغربيّة. كما اضطرّ المسرحي اللبناني روجيه عسّاف إلى الاعتذار عن تقديم "جنينة الضائع" لاسباب شخصيّة قاهرة... وبين الدول العربيّة الأخرى التي غابت عن الدورة التاسعة، البحرين والعراق والسودان.
العروض العربية التي اعتمد معظمها، وبمستويات مختلفة، على التعبير الحركي والراقص، خرجت للمرة الأولى خالية الوفاض من جوائز المهرجان. وإذا كانت العروض الآتية من تونس تحقّق عادةً النجاح وأقبال الجمهور المصري والعربي وتحصد الجوائز، فإن المشاركة التونسيّة هذا العام خيّبت الآمال ولم تكن عند المستوى الذي عوّدت عليه الجمهور.
باب غرفة المنتحر
ولعلّ كلّ المسرحيّات العربيّة جاءت متشابهة، عموماً، لا تحمل جديداً ولا تميّز بينها فوارق أساسيّة، اذا استثنينا بعض المحاولات التي راهنت على التجريب والتي لم تتواصل في أغلبها مع "نخبة" مشاهديها، كما مسرحيّة "حالة حب" لبنان التي أخرجها زكي محفوظ عن نص "الساعة خمسة" لبول شاوول. فالعرض الذي يمكن اعتباره بين الأكثر تواصلاً مع متابعي المهرجان، يقول هزيمة جيل كامل من المثقفين اللبنانيين - وربما العرب... انطلاقاً من لحظة انتحار الزوج أو الحبيب، على مقطع من "ذكريات" لأم كلثوم... تتداخل طلقات الحرب الأهلية بتصفيق مستمعي أم كلثوم، فينفتح مونولوج هو "دولاب ذكريات" شاعري وشرس وملغوم في آن.
تنتقل عايدة صبرا بين أجزاء من النص المكتوب، محاولة التعبير حركياً عن هذه الحوارية المتوترة. تبدو الممثلة اللبنانيّة الشابة دائماً عند الحافة. لا تصل أبداً. تبدأ، ثم تعود لتبدأ من جديد، بتصاعد دائم وسط حلقة مقفلة. كاد الاخراج يحررها تماماً من ثقل الديكور، كأنه يراهن على قدراتها. لم يكن معها سوى باب غرفة المنتحر، أو قبره المتحرك معها كما تشاء. تشتبك معه، ثم تعود لتستعطفه. واخلاء الفضاء أمام اداء عايدة كان جزءاً من توحدنا معها، على الرغم من شعورنا أحياناً، بدرجة ما من تشنج هذا الاداء.
هذا الهمّ المشهدي القائم على توحّد المعاناة والشكل في صيغة تعبيريّة، افتقدناه في أكثر من عرض عربي. فالعمل الكويتي "ترنموا كي يصحو المارد" الذي أخرجه عبد العزيز منصور عن نصّ لمحمد مبارك مستوحى من "وتريات ليلية" للشاعر العراقي المعروف مظفر النواب، جاء تجسيداً لأكثر قوالب المسرح التعليمي فجاجة.
موضوع مسرحيّة عبد العزيز منصور هو صراع الحاكم والمحكوم. من جهة الديكتاتور وبطانة السوء، ومن الأخرى الشاعر الثائر والشعب. تبدو خشبة المسرح قعراً عتيقاً، أو متحفاً مليئاً بالتماثيل البشرية. ويخاطبنا العرض بمباشرة شديدة، من دون أي محاولة ابتكار أو تجديد في أي من عناصر المعادلة المشهديّة. وحده الصراخ يطالعنا، ليوصل خطاباً مستهلكاً عن انتصار الخير على الشر، عن سقوط الديكتاتور.
وتجدر الاشارة إلى أن العمل جاء إلى القاهرة بعد معركة صحافية شرسة. فالمجلس الوطني للثقافة والفنون رفض مشاركته في المهرجان لعدم انتمائه إلى المسرح التجريبي، فيما اصر اتحاد المسارح الأهلية منتج العرض على مشاركته، وحسم الموقف بعد تدخّل وزير الاعلام سعود الصباح. من المشاكل الأخرى التي واجهها العرض رفض أسرة بطلتيه الكويتيتين سفرهما إلى القاهرة !، ما جعل المخرج يستعيض عنهما بالممثلة السورية وعد تفوح وبالممثلة المصرية آن التركي.
"ديكتاتور" سوري
ديكتاتور آخر شغل العرض السوري "جينكزخان" لفرقة المعهد العالي للفنون المسرحية التي سبق لها تمثيل سورية خمس مرات، وحصولها على عدد من الجوائز. العرض أخرجه مانويل جيجي، عن قصة قصيرة لأفيديك اسحقيان أعادت الفرقة صياغتها في ورشة "اعداد جماعي".
يفترض أن المسرحيّة تتناول اللحظات الأخيرة من حياة الطاغية المغولي، غير أن العرض جاء "صدمة" لمتابعي المسرح السوري في القاهرة. كعادته في كل الأعمال التي أتى بها إلى القاهرة، افتتح جيجي عرضه بمشهد متقن يعتمد تقنيّات خيال الظل. لكن ماذا بعد ذلك؟ عواء ذئب لحظة ميلاد جينكيزخان، ولحظة ميلاد ابنه ولحظة وفاته. وبين هذه المحطّات حديث، أو صراخ، وتلميحات متكررة إلى دموية جينكزخان. لكنّنا، في ما عدا ذلك، أمام اداء تمثيلي غير مقنع لا يصل إلى المشاهد ولا يهزّه مع أن بطل العرض غسان مسعود من أبرز ممثلي المسرح السوري الجاد، وكذلك نورا مراد وقاسم ملحو... وأمام جماليات تشكيلية وبصريّة لا تفعل سوى تجسيد أو تكرار ما قاله النصّ!
وسيطر "الصراخ" أيضاً، كما سيطرت المباشرة المدرسية، على العرض الجزائري "رحلة حب" اخراج فوزية آيت الحاج، عن نص للشاعر عمر البرناوي. لكنّ ذلك لم يمنع لجنة التحكيم من اعلان التعاطف مع تلك التجربة، الطالعة من ظروف صعبة، معبّرةً بذلك عن شعور جماعي على الأغلب.
"رحلة حب" ذكّرنا باحتفاليات المناسبات الرسمية : لوحات استعراضية عدّة، بعضها يجري خلف "موضة" التعبير الحركي، ولوحات أخرى غنائية، تنشغل بالواقع الاجتماعي والسياسي الجزائري الحالي... يبدأ النصّ من جذور المسألة الجزائريّة، منذ الاستقلال، عبر صراع أحد المبدعين والمناضلين مع شرذمة من المستغلين. ولعلّ في اصرار فريق العمل، خلال الندوة المخصّصة لمناقشة العرض، على أنه "تجريبي جداً" !، ما يسلّط الضوء على سوء التفاهم الذي يحيط بمفهوم التجريب على امتداد خريطة المسرح العربي...
مفاجأة قطريّة
واذا كانت مسرحيّتا "ترنموا..." و"حالة حب" قد انطلقتا من جراح خاصة في "سذاجتهما"، فان "الفنار" السعودي تأليف فهد الحارثي واخراج أحمد الأحمري انطلق من "هموم عربية عامة". فعفوية هذا العمل، تكمن في نظرته إلى التجريب الذي يقوم حسب فنّانيه على بعض الحركات والملابس البسيطة الملونة والغريبة! وسط أجواء تبدو لأصحابها "أسطورية"، يسرف العرض في رمزية ذهنية، لا تلبث أن تنعكس على الرؤية الفنيّة ارتباكاً. تحكي المسرحيّة عن جزيرة ضاع منها فنارها، ليدخل صيادوها في متاهة البحث عنه، مهرولين خلف القرصان... و"الفنار" بينهم لا يرونه يحمل رقم أو قرار رقم... 242. ويعتمد العرض أيضاً على أشعار لأحمد كتوعة، محمد جبر الحربي، ثريا العريض من السعوديّة... إضافة إلى قصيدة شهيرة لأمل دنقل عنوانها "لا تصالح". وفي كلّ الأحوال، يُحسب ل "الفنار" اتكاؤها على "المسرح الفقير"، وايلاؤها أداء الممثلين اهتماماً خاصاً.
وجاءت المفاجأة، بعيداً عن الأفكار والتقييمات المسبقة، عن طريق العرض القطري الذي بدا لافتاً في جرأته، خصوصاً في سياق المسرح الخليجي. مسرحيّة "سجلات رسمية" أعدها حمد الرميحي عن نصين: الاول له بعنوان "المعاملة"، والثاني للروسي ستانيسلاف ستراتييف بعنوان "سترة من المخملين". وفاز العمل بثلاث من جوائز مهرجان المسرح الخليجي في الكويت آذار/ مارس الماضي، بينها جائزة أفضل عرض.
تتعرّض المسرحيّة لرؤية السلطات العربية لمواطنيها، عن طريق المعلومات الموجودة في دفاترها، والتي تحدد درجة انسانيته أو "حيوانيته"... وأرضه التي ينتمي إليها. قدم الرميحي عرضاً تقليديا كوميدياً، لكن ايقاعه بدا مرتبكاً بسبب رغبته في التعرض لكل شيء. وحاول المخرج اقحام تقنيّات تبدو له "تجريبية"، فاستعمل مثلاً شاشة سينمائية لعرض مشاهد عن الجياع والمحاصرين. العرض انتجته الحكومة القطرية، على رغم نبرته الانتقاديّة الشرسة، وانتقاداته الجريئة قضيّة البدون مثلاً.
وحاولت العروض العربية الأخرى، بشكل أو بآخر، الدخول في عوالم تجريبية، أتى اغلبها في اطار مشاريع خاصة بمخرجيها، خمسة منها داخل المسابقة الرسمية، اضافة إلى مسرحيّتين مصريتين من عروض الهامش... الأوّلى عنوانها "رحلة" لهاني غانم انتاج "صندوق التنمية الثقافيّة تركت أصداء طيبة، دفعت ادارة المهرجان لتخصيص عروض اضافية لها. الاحتفال المشهدي قائم على استغلال بيت "زينب خاتون" التاريخي الذي استحال فضاء ثقافيّاً، لصياغة رؤية سينوغرافيّة تدعم التقنيّات التعبيريّة والطقوسيّة، وتساعد على احتواء المُشاهد ومحاصرته شعوريّاً. والمسرحيّة الثانية هي "ترنيمة 2" لانتصار عبد الفتاح اعادة صياغة ل "ترنيمة" التي قدّمت في التجريبي خلال دورة سابقة، وتشكّل حلقة في مشروعه القائم على استعمال الموسيقى كعنصر أساسي في المعادلة المسرحيّة "كونشرتو"، إلخ....
في "ترنيمة 2" البيت الفنّي للمسرح، اعتمد انتصار على الاصوات، ولغة الجسد والحركة الباليه خصوصاً. ولغة الحكي، أدتها سميرة عبد العزيز وكتبتها شعراً كوثر مصطفى. مزج المخرج بين عناصر تراثية مصرية جنوبية أساساً وافريقية، وجاء عرضه كما "حالة حب" دائري التحولات : موت فحياة، ثم سكون فموت... وخُلقت "ترنيمة 2" وسط لوحة تشكيلية معبرة، ساكنة الاضاءة، هرميّة الشكل، جمعت بين الباليه والمأثورات الشعبية، عبر أداء أوركسترالي بأصوات شعبية: السودانية ستونه المجروش والمصري محمد عزت.
جماليّات القبح والابهار
وكان للرقص في تقاطعه مع المسرح، حضور خاص في المهرجان من خلال مشاركة اللبناني وليد عوني والتونسي عماد جمعة، وكلاهما ينتمي - على طريقته! - إلى مدرسة الرقص المعاصر، ويغرف من لغة الجسد أبجديّة لصياغة رؤىته المشهديّة.
مع "صحراء شادي عبد السلام" فرقة الرقص المسرحي الحديث - دار الأوبرا، مثّل وليد عوني مصر للمرّة الخامسة في "مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي". فيما جاء عماد جمعة من تونس ليقدّم "بلا شيء"، عند الحدود الفاصلة بين عالمين ومدرستين. وبدا عرضه صادماً من ناحية الرؤية والطرح، كما بدا عنيفاً ومقززاً بعض الشيء... يحتاج المتفرّج إلى بعض الوقت بعد مشاهدته للتواؤم معه ولقبول لغته التعبيرية.
يتناول العرض حياة شريحة من المهمّشين، من جنسيات عدة، معبّراً عن حالات الحب والضعف والقهر والصراع والعنف. كأننا فاجأناهم في خلوتهم واقتحمنا عالمهم الخاص، فصبوا علينا غضبهم : نظرات وسلوك عدواني، قذف أحذية و"بصق" بقايا طعام في وجوهنا... إنّه عرض مليء بالدلالات وسط تناقض واضح بين عنف الخشبة والموسيقى الهادئة المصاحبة له. باعتماده على ممثلين وراقصين متمكّنين من امكاناتهم التعبيريّة، يجبرنا عماد جمعة على الاشتباك مع عرضه، فإذا بنا نعي أن عدائيته وقبحه يشكّلان خصوصيّة خياراته الجماليّة.
وفي مقابل "جماليات القبح" لدى عماد جمعة، نواجه لدى وليد عوني "جماليات الابهار" التي تعودناها في أعماله السابقة. فبعد البياتي وأم كلثوم ونجيب محفوظ وتحية حليم، ها هو يدخل "صحراء شادي عبد السلام". يقسم استعراضه إلى 3 لوحات تستوحي 3 أعمال للسينمائي المصري الراحل : "كرسي توت عنخ آمون"، "الفلاح الفصيح" و"المومياء". واللوحة الأخيرة التي تشغل نصف زمن العرض، أعاد عوني صياغتها في مناسبة المهرجان، مستنداً إلى صياغة درامية لرفيق الصبان، مستفيداً من الانتقادات التي تعرّض لها لدى تقديم عمله في الربيع الماضي. إلتزم مصمّم الرقص بسيناريو الأفلام الثلاثة، وكأنه يبحث عن معادل بصري - حركي لها، خلافاً لأعماله السابقة. كان متقشفاً في مفردات ومساحات رقصه التعبيري التي تشغل عادة معظم أعماله، لتحولها إلى شبكة من العلاقات الداخلية يصعب فكها وفهمها.
في "صحراء شادي..." اتسع المجال أكثر للتعبير الحركي الدرامي. وساعده اتكاؤه على سيناريوهات متماسكة، ودراما لسيناريست متمكن، وبالطبع بهرنا وليد عوني بتشكيلاته الجمالية، ويظل عرضه موازياً ومعادلاً لأعمال شادي الثلاثة، من دون تعمق فيها. لكنّه اختلف معه في رؤيته للحضارة المصرية، إذ رآها تحتفي بالموت، بينما آمن شادي أن الحياة تنشغل دائماً بذاتها وبأسئلتها الحارة.
ولا بدّ من الاشارة إلى عرض عربي حركي ثالث - وإن حمل الجنسية البلجيكية - هو "أرداف ذات عقل" للعراقي حازم كمال الدين. العرض الذي تشير المعلومات الواردة عنه في البرنامج إلى أنه "من دون لغة" يعتمد على لغة الجسد، احتشد المثقفون اليساريون لرؤيته، وبعد ربع ساعة من بدايته، بدأوا بالانصراف. فالعمل الذي يُفترض أنه يقيم علاقة جدلية بين الجسد والعقل في أجواء بدائية، بدا مشوشاً وغير مفهوم على رغم اتكائه على مقتطفات شعرية لبدر شاكر السياب من "أنشودة المطر" ولبلند الحيدري من "خطوات في الغربة"، ألقاها كمال الدين كفواصل. لكنّ يبدو أن عمليّة الحذف التي تعرّض لها العمل نصفه تقريباً، هي التي جرّدته ربّما من تماسكه وديناميّته ووضوحه. هذه على الأقلّ وجهة نظر حازم كمال الدين الذي اعترف، في حديث إلى "الوسط"، بخطئه المتمثّل بقبوله تقديم العمل بعد التدخلات الرقابية. كما اشتكى من عدم توافر الامكانات التقنية المتفق عليها.
وإلى جانب عماد جمعة، شاركت تونس في المسابقة خلافاً للائحة المهرجان بعرض ثان، هو "من كل مشموم نوارة" اعداد واخراج رضا دريره أحد المسرحيين الذين كرّمهم المهرجان. العمل يتألّف من 3 لوحات. كل منها مستوحى من عمل مسرحي أو أدبي: "المصباح المظلم" لعلي الدوعاجي، "زقاق المدق" لنجيب محفوظ، و"طابا طابا" للفرنسي كولتيس. جاء العرض سردياً وعادياً، وهو يستعرض النظرة القاصرة للمرأة في اطار علاقتها بالرجل. وهناك حالة اغتراب فصلت بين العمل والجمهور.
أما العرض اليمني "الجريمة والعقاب" الذي أعده عبد ربه الهيثمي عن مسرحية ديستويفسكي الشهيرة، وأخرجه فريد الظاهري، فأثار اهتمام النقّاد. لكنّ بعد مكان العرض حرم هذه التجربة من اقبال الجمهور.
اللعبة أفلتت من ناصر عبد المنعم
ونشير أيضاً إلى "الحفرة" الذي أعدّه الأردني الشاب خليل نصيرات انطلاقاً من نصوص عدّة، بينها "في انتظار غودو" صموئيل بيكيت، و"الزمن والحجرة" بوتو شتراوس... لكن العرض الذي حصد جوائز عدّة في "مهرجان الجامعات الأردنية"، يشكو من طغيان العدمية والعبثية، بنسبة تفوق مقدرة الجمهور على الاحتمال. لكنّ المخرج استغلّ الامكانات البصريّة والتقنيّة على أكمل وجه، من المكياج إلى الديكور، مروراً بالحوار وشكل الخشبة، فتمكن من تكثيف احساسنا بوطأة العزلة والانفصال.
في العام الماضي نال المصري ناصر عبد المنعم جائزة افضل اخراج عن "الطوق والأسورة" التي أعدها سامح مهران عن رواية يحيى الطاهر عبد الله. وعاود الثنائي الكرّة مع "أيام الإنسان السبعة" لعبد الحكيم قاسم. اعتمد عبد المنعم هذا الموسم أسلوب الاخراج نفسه، فقسّم الفضاء المسرحي على أكثر من خشبة وزاوية، مستغلاً امكانات "وكالة الغوري" على أكمل وجه، ومحمّلاً عرضه بموروث الثقافة الشعبية المصرية.
لكن اللعبة أفلتت منه للأسف هذه المرّة. سار سامح مهران على النصّ الأصلي ولم يأتِ باضافة فارقة، عدا مشهد النهاية الذي يمثل ذروة الصراع بين الاصالة والمعاصرة. واحتشد العرض بالطقوس الشعبية : المولد بمفرداته المتنوعة، الزواج، الوفاة... فطغت هذه الأخيرة على العرض، وقرّبته من مطبّ الفولكلور، كونها لم توظف بعمق ضمن النسيج الدرامي. هكذا بدت العناصر الجمالية دخيلة على العمل، مجرّد زخرفة مزروعة فيه، حتّى أن بعض الطقوس قدّم بطريقة آلية تفتقر إلى الزخم والحيويّة والصدق. ويبقى لناصر محاولته المتميزة في استغلال المكان سينوغرافياً معمارياً وجمالياً، ما دفع ببعض المعنيين إلى ترشيحه لجائزة أفضل تقنية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.