هي المرة الاولى على امتداد دورات مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي 10 سنوات التي تصبح فيه العروض المصرية الاكثر لفتاً للانظار، والاكثر إثارة للجدل برغم مشاركة 56 فرقة مسرحية تمثل 44 دولة عربية واجنبية. شاركت مصر بعرضين في المسابقة الرسمية: "مخدة الكحل" من اخراج انتصار عبدالفتاح وانتاج مسرح الطليعة، و"غزل الاعمار" من اخراج حسن الجريتلي لفرقة الورشة المسرحية، وهي فرقة مستقلة عن المؤسسات الحكومية وإن كانت اضطرت للالتحاق، اسماً، بمؤسسة رسمية هي صندوق التنمية الثقافية حتى تتمكن من المشاركة في المسابقة الرسمية بالمهرجان - الامر الذي يفرض سؤالاً اساسياً حول معايير المشاركات المصرية في المهرجان، والمغزى وراء شرط الانتاج المؤسسي الذي تفرضه ادارة المهرجان كشرط لازم لتمثيل مصر في المهرجان او اية مهرجانات او احتفالات دولية؟ هو الشرط المفارقة، فإذا كان التجريب - كمفهوم - يعني الخروج والتمرد والتجاوز، فالمؤسسة تعني النظام والنسق الثابت والمحافظ، وإذا كان التجريب على الاغلب قراراً نخبوياً فإنه في مصر، داخل المهرجان، يكاد يصبح قراراً مؤسسياً تنتجه المؤسسات المسرحية الحكومية، وتعتمدة ادارة المهرجان الرسمية. خارج المسابقة الرسمية وعلى هامش المهرجان شاركت المسارح المصرية المختلفة بأكثر من 20 عرضاً من انتاجها خلال عام 1998، وهي بالطبع مسارح الدولة القومي، الطليعة، الشباب، الهناجر، الحديث، الثقافة الجماهيرية، ودار الاوبرا.. انشغلت معظم هذه العروض بتقديم الموروث واشكال الفرجة الشعبية، وهو الاتجاه الذي صوَّب اليه المخرجون اعينهم منذ حصل المخرج ناصر عبدالمنعم على جائزة افضل إخراج عن مسرحية "الطوق والاسورة" بالدورة الثامنة للمهرجان عام 1996. وإذا كان سؤال الخصوصية والبحث عن مسرح عربي هو سؤال مشروع وبحث دؤوب وجاد انشغل به كثير من المسرحيين العرب منذ قالب توفيق الحكيم المسرحي ودعوة يوسف ادريس نحو مسرح مصري وبيانات سعد الله ونوس الى حدود الكائن والممكن في الاحتفالية المغربية، فقد ظل سؤالاً اشكالياً خاصة ان الكثير من المحاولات المسرحية تحركت بحثاً عن الخروج من مأزق التبعية الثقافية والمسرحية ومن قبيل الكفر بالغرب ومفاهيمه. ونبهتنا المحاولات المسرحية السابقة دائماً الى حقيقة اساسية وهي ان الموروث والحكاية الشعبية - في ذاتها - ليست تأصيلاً مسرحياً وليست كافية بمفردها لتحقيق هوية عربية للمسرح، كما أن استلهام بعض اشكال الفرجة الشعبية الحكواتي، السامر، المداح، راقص العصا ليست ضمانة لأية اصالة او خصوصية مسرحية. تلك حقيقة نحتاج لتردادها امام سؤال الخصوصية الذي قدمته العروض المسرحية المصرية في هذه الدورة بالمهرجان خاصة في ضوء عدم قدرتها - العروض - على بلورة وعي جمالي يتصل بشرطه الاجتماعي، ايضا عدم قدرتها على تقديم رؤى فكرية واضحة حيث الفرجة المشهدية هي الهدف وهي جوهر البحث ومسعى الاجتهاد. ولعل الاكثر خطورة - ربما - تلك المحاولة لسرقة الموروث الشعبي من طبقته الشعبية، اكرر سرقته وليس تقديمه، خاصة ان اصحاب تلك العروض المسرحية يسعون الى تقديم انتاجهم الى متفرج مغاير اوروبي على الاغلب حيث يتطلع المخرجون من انتاج عروضهم الى المشاركة في المهرجان التجريبي، ومن ثم يخططون وفقاً لذائقة لجنة التحكيم الاوروبية، كما يتطلعون جميعاً الى مواعيد المهرجانات الدولية وامكان المشاركة فيها. لم يعد الامر مجرد استعارة نموذج مسرحي غربي بل - الاشد خطورة - هو استعارة المتفرج الغربي ذاته والنتيجة مزيد من تعميق التبعية وصياغة مسرحنا وفقاً لرؤى ومفاهيم استشراقية. وتستوقفنا تجارب مسرحية لمخرجين بينهم ناصر عبدالمنعم، الذي منذ ان نجحت تجربته الاخراجية في مسرحة رواية يحيى الطاهر عبدالله "الطوق والاسورة" ونجح في صياغة حالة طقسية لمفردات الحياة الشعبية في صعيد مصر، وهو يواصل سنوياً الاسلوب نفسه بشكلانيه اكثر اتساعاً. قدم في مهرجان العام الماضي ايام الانسان السبعة عن رواية عبدالحكيم قاسم، وقدم هذا العام "خالتي صفية والدير" وقد افسد الاعداد المسرحي السطحي رواية بهاء طاهر خاصة ان المخرج اكتفى بانشغاله الاساسي في تقديم اشكال الفرجة الشعبية. وإذا كان انتصار عبدالفتاح مخرج "مخدة الكحل" الحاصلة على جائزة افضل عرض بالمهرجان، قد تخلى تماماً عن رؤيته الغربية واستخداماته المتكرره للتشيللو والكورنو والبيانو وراقص الباليه في عروضه السابقة كونشرتو، مشاحنات، سوناتا 1، 2، سيمفونية لير فإنه هذه المرة يعود الى بداياته الاولى في اول دورة بمهرجان المسرح التجريبي 1989 عندما قدم الدربكة ثم تبعها بعرض ترنيمة 1، ترنيمة 2 والتي حاول خلالها توظيف الايقاعات الشرقية والافريقية من خلال منهج بوليفوني حيث تتعدد المستويات داخل معزوفة تركيبية متضافرة هي رؤية العرض، فالموسيقى صوت، الديكور صوت، الايقاع صوت والصمت صوت. هذه المنهجية نفسها قام عبدالفتاح بتوظيفها بصورة اكثر نضجاً في "مخدة الكحل"، حيث تداخلت الايقاعات الافريقية بآلاتها المختلفة الطبول - المارمبا وهي آلة إيقاع خشبية والايقاعات الشرقية بأدواتها الرق - العود - القانون - الناي والايقاعات النابعة من الادوات البيئية وكل مدلولاتها السمعية والبصرية المخرطة - ماكينة الخياطة - الطشت - القبقاب. وفي اختيار انتصار عبدالفتاح لمقام الحجاز الموسيقي الشرقي بكل ما يشي به من حليات وزخارف وجمال وشجن وانوثة، خاصة في الموشح المستخدم كجملة اساسية داخل العرض "يا غصن نقا مككلاً بالذهب" مساحة للكشف عن رؤية العرض الشكلية لعالم المرأة والتي اتسمت بالكثير من الافكار المسبقة والرائجة، كما اتسمت بالذاجة والسطحية بعيداً عن ربط قضية المرأة بوضعيتها الاجتماعية والسياسية وحتى النفسية. فامرأة العرض الشرقية لا تخرج من زينتها التي تجسدها دلالة اسم المسرحية "مخدة الكحل" والمرتبط في المخيلة الشعبية بزينة المرأة وتجهيزاتها الجمالية منذ الزفاف. امرأة العرض هي ايضا امرأة زخرفية خارجة من المشربيات ومن كتب الف ليلة وليلة، من مسافة تسرق العين دون ان تسمح لنا بالتأمل العميق. انها نفس الشكلانية واللغو الجمالي المطروح بإبهار واجتهاد صوتي، دون ان يلامس واقعه وشرطه التاريخي.. ومع المهرجان وعروضه المصرية يتجدد السؤال عن فرقة الورشة ومنهجها في العمل والبحث الدؤوب. قدمت الفرقة مسرحية "غزل الاعمار" وهي نتاج ورشة مسرحية على السيرة الهلالية، منذ اربع سنوات، تم فيها تدريب افراد الفرقة جميعاً على الحكي - رقص العصا - وعلى التعرف على منطق الادب الشعبي. والعرض محاولة اولى لصياغة شكل مسرحي يدور حول احد المحاور الرئيسية للسيرة، وهو محور الاجيال. ومع السيرة تطل تقنيات الاسلوب الغربي حيث الاداء الملحمي وحيث العلاقة الحية بين مفهوم الجوقة بالعرض وبين مفهوم الكورس في التراجيديا الاغريقية وهو ما يذكرنا ايضا بتوفيقية الحكيم حين يؤكد في كتابه "المقصود عندي لم يكن مجرد اخذ قصة من الكتاب الكريم ووضعها في قالب تمثيلي، بل كان الهدف هو النظر الى اساطيرنا الاسلامية بعين التراجيديا الاغريقية، وإحداث التزاوج بين العقليتين والادبين". الرقص ولغة الجسد على مستوى آخر ثمة اتجاه مسرحي ينتمي بوضوح لمفهوم عربي ويؤسس حضوره في المسرح المصري وهو المسرح الراقص حيث استطاع المخرج اللبناني وليد عوني ان يؤسس تياره من خلال فرقة الرقص المسرحي الحديث في دار الاوبرا وهي اول فرقة من نوعها في العالم العربي، وقام بتأسيسها عام 1993 وقدمت العديد من العروض الناجحة بل قامت بافتتاح المهرجان التجريبي في اكثر من دورة "سقوط ايكاروس" "المقابلة الاخيرة". كما قامت الفرقة نفسها بتمثيل مصر في المسابقة الرسمية مرتين "الافيال تختبئ لتموت" و"صحراء شادي عبدالسلام". وقد بدأت العديد من الفرق المسرحية الراقصة تنتشر في مصر حتى ان ثلاثة عروض راقصة اعلنت حضورها في دورة المهرجان هذا العام "اغنية الحيتان" اخراج وليد عوني، "مقامات" اخراج كريم التونسي، "سكوت" اخراج محمد شفيق. وشأن معظم الراقصين في العالم يفكر المسرح الراقص المصري بقدميه وبطاقة الجسد على تشكيل الفضاء المسرحي دون اهتمام حقيقي بالنظري او الرؤية الفكرية للعرض المسرحي، فالسلطة كاملة للكوراغراف "مصمم الرقصات" حيث لا مخرج ولا ممثل ومن قبل لا نص مكتوب. انها كتابة الجسد المشغول بذاته، لا يعنيها تحديد الجمهور حيث لا يعنيها موقفه.