رئيس هيئة الأركان العامة يستقبل قائد القيادة المركزية الأميركية    إتاحة باب الانتساب لنزلاء السجون الراغبين في إكمال دراستهم بالشرقية    جامعة الملك سعود توعي باضطرابات التخاطب والبلع    أسلحة أمريكية بمليارات الدولارات في الطريق إلى إسرائيل    تطويق جنوب غزة.. انتشار عسكري إسرائيلي شرق وغرب معبر رفح    خطبتا الجمعة من المسجد الحرام و النبوي    الذهب يحقق مكاسب أسبوعية وسط آمال خفض أسعار الفائدة    «هيئة العقار»: 3404 بلاغات و251 مخالفة خلال الربع الأول من العام الحالي    خيرية آل عبدان في ذمة الله    هندسة جامعة الإمام عبد الرحمن بن فيصل تشارك في مبادرة "مجتمع أبحاث المياه    ستانيشيتش: بلوغ نهائي الدوري الأوروبي أهم لليفركوزن    استمرار هطول أمطار رعدية متوسطة على معظم مناطق المملكة    بيئات قتالية مختلفة بختام "الموج الأحمر 7"    رسالة رونالدو بعد فوز النصر على الأخدود    مدرب الأخدود: كنا نستحق الفوز على النصر    تيك توك تضع علامة على محتويات الذكاء الاصطناعي    مقرن بن عبدالعزيز يرعى حفل تخريج الدفعة السادسة لطلاب جامعة الأمير مقرن    الشاعرة الكواري: الذات الأنثوية المتمردة تحتاج إلى دعم وأنا وريثة الصحراء    العرب ودولة الإنسان    629 موقعاً مزيفاً تستهدف جيوب السعوديين ب«الاحتيال»    حين يتحوّل الدواء إلى داء !    أدوية التنحيف أشد خطراً.. وقد تقود للانتحار !    ذكاء التوقيت والضمير العاطل    المركز الوطني للمناهج    ب 10 طعنات.. مصري ينهي حياة خطيبته ويحاول الانتحار    لاعبو الأندية الإيطالية خارج القائمة.. ولاعبو «البريمير ليغ» الأكثر حضوراً    الاتفاق والنصر إلى المباراة النهائية لممتاز قدم الصالات    الاتحاد يتغلّب على الهلال وينتزع ذهب نخبة الطائرة    رَحِيلُ البَدْرِ    انكسار الهوية في شعر المُهاجرين    جامعة الأمير مقرن بن عبدالعزيز تحتفل بتخريج الدفعة السادسة    مفوض الإفتاء في جازان يشيد بجهود جمعية غيث الصحية    جمال الورد    سقوط الجدار الإعلامي المزيف    «البعوض» الفتاك    أمير منطقة جازان يلتقي عدداً من ملاك الإبل من مختلف مناطق المملكة ويطّلع على الجهود المبذولة للتعريف بالإبل    رئيس المجلس العسكري في تشاد محمد إدريس ديبي إتنو يفوز بالانتخابات الرئاسية    أولمبياكوس يهزم أستون فيلا ويبلغ نهائي دوري المؤتمر الأوروبي    تعزيز الاستدامة وتحولات الطاقة في المملكة    الحياة في السودان مؤلمة وصادمة    أمانة الطائف تسجل لملّاك المباني بالطرق المستهدفة لإصدار شهادة "امتثال"    أسماء القصيّر.. رحلة من التميز في العلاج النفسي    كيف نتصرف بإيجابية وقت الأزمة؟    مكان يسمح فيه باقتراف كل الجرائم    دلعيه عشان يدلعك !    شركة ملاهي توقّع اتفاقية تعاون مع روشن العقارية ضمن المعرض السعودي للترفيه والتسلية    بلدية صبيا تنفذ مبادرة لرصد التشوهات البصرية    للرأي مكانة    رسالة من أستاذي الشريف فؤاد عنقاوي    تجنب قضايا المقاولات    تدشين مشروعات تنموية بالمجمعة    الملك وولي العهد يعزيان رئيس الإمارات في وفاة هزاع بن سلطان بن زايد آل نهيان    مغادرة أولى رحلات المستفيدين من مبادرة "طريق مكة" من تركيا متجهة إلى المملكة    نائب أمير عسير يتوّج فريق الدفاع المدني بكأس بطولة أجاوييد 2    مفتي عام المملكة يستقبل نائب الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي    المملكة تدين الاعتداء السافر من قبل مستوطنين إسرائيليين على مقر وكالة (الأونروا) في القدس المحتلة    يسرق من حساب خطيبته لشراء خاتم الزفاف    القيادة تعزي رئيس البرازيل إثر الفيضانات وما نتج عنها من وفيات وإصابات ومفقودين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أخطاء "مميتة" استدعت شطب "القوات" وقائدها !
نشر في الحياة يوم 03 - 07 - 1995

تؤكد مصادر نيابية انه عندما طرح موضوع العفو عن الجرائم التي حصلت في لبنان خلال سنوات الحرب الطويلة كان الاتجاه السائد عند الحكم والحكومة ومجلس النواب، وكذلك عند سورية "راعية" مسيرة الانتقال بالبلد من الحرب الى السلم، هو اصدار مشروع عفو عام يشمل كل الجرائم بما في ذلك المحالة الى المجلس العدلي. وتقول ان اللجان النيابية المشتركة كانت في هذه الاجواء عندما بدأت درس مشروع قانون العفو تمهيداً لاحالته الى الهيئة العامة في المجلس النيابي. وعندما وصلت الى النقطة المتعلقة بشمولية العفو وتحديداً انطباقه على الجرائم المحالة الى المجلس العدلي حصل نقاش داخلها حسمه تصويت كان لمصلحة استثناء هذه الجرائم من العفو. وتم ذلك بعدما تعادلت الاصوات في المرة الأولى. وتتابع المصادر النيابية نفسها ان من المفارقات ان صاحب هذا الصوت كان النائب السابق جورج كساب الكتائبي الموالي للدكتور سمير جعجع قائد "القوات اللبنانية". كانت الكتائب ممثلة في اجتماع اللجان المشتركة بنائبين وكانت "القوات" ممثلة بنائبين ينتميان رسمياً الى الكتائب. وعند التصويت صوت نائبا الاخيرة لتوسيع شمولية العفو ولفتا النائب القواتي الى ضرورة التصويت مثلهما. وهذا ما فعل. لكن النائب الكتائبي - القواتي الأخير صوت في الاتجاه المعاكس ربما لعدم الانتباه او لعدم درس ملف مشروع قانون العفو جيداً.
عندما تبلغ الدكتور جعجع الخبر من حزبيين كتائبيين ثارت ثائرته وطلب منهم الاتصال بنائب رئيس المجلس النيابي ايلي الفرزلي الذي كان صاحب اقتراح توسيع شمولية قانون العفو العام وبرئيس المجلس حسين الحسيني لترتيب الامر في الجلسة العامة التي كان مجلس النواب سيعقدها لاقرار مشروع القانون. لكن التجاوب لم يكن كافياً للقيام بالترتيب المطلوب لان العادة كانت درجت على أن تطبخ مشاريع القوانين كلها في اجتماعات اللجان النيابية المشتركة وعلى أن تصدق في الهيئة العامة للمجلس اما من دون ادخال تعديلات عليها واما بعد تعديلها ولكن على نحو طفيف.
توقعان متناقضان
عندما حدد رئيس المجلس العدلي القاضي فيليب خيرالله، في ختام المرافعات في قضية اغتيال المهندس داني شمعون رئيس حزب الوطنيين الاحرار المتهم بها قائد "القوات اللبنانية" المنحلة الدكتور جعجع وعدد من معاونيه، الرابع والعشرين من شهر حزيران يونيو الجاري 1995 موعداً لاعطاء الحكم فيها توقع قانونيون وحقوقيون تابعوا ملف هذه القضية وتحديداً فصول المحاكمة العلنية المتعلقة بها حكمين متناقضين. الاول ادانة جعجع بالجريمة والحكم عليه بالعقوبة القصوى التي هي الاعدام، والثاني اعلان براءته للشك الناجم عن عدم توافر الادلة الثبوتية على اشتراكه في الجرم تقريراً وتخطيطاً.
وبرروا هذا التناقض البارز لتوقعهم المزدوج بأن اقتناع القضاة اعضاء المحكمة، وفي هذه الحال اعضاء المجلس العدلي، بالجرم يشكل الاساس للحكم الذي يصدر عنهم، وفي قضية اغتيال شمعون يستطيع اعضاء المجلس العدلي تجريم جعجع والحكم عليه بالعقوبة القصوى بضمير مرتاح ويستطيعون ايضاً تبرئته للشك ويكون ضميرهم مرتاحاً ايضاً في هذه الحال.
وعلى هذا يكون الحكم الذي صدر في حق قائد "القوات المنحلة" قبل أيام سليماً وصحيحاً من الناحية القضائية، لكن السؤال الذي طرح منذ اعتقال جعجع قبل سنة وبضعة اشهر بعد تفجير كنيسة سيدة النجاة في زوق مكايل بتهمة المسؤولية عنها والذي لا يزال يطرح لغاية الآن وقد يستمر البعض في طرحه مدة طويلة هو هل لعبت السياسة دوراً في وضع هذا القائد الميليشياوي في السجن ومن ثم محاكمته في قضية الكنيسة وتالياً في قضية اغتيال شمعون؟ وهل ان للسياسة دوراً اساسياً في التطورات السلبية التي طرأت على "القوات" وفي مقدمها حلها رسمياً من قبل مجلس الوزراء ومصادرة ممتلكاتها وسجن قائدها؟ أم أن القضية جنائية وقضائية لا علاقة لها بالسياسة من قريب او بعيد.
"قرار سياسي"
الدكتور جعجع اجاب عن هذا السؤال قبل اعتقاله وفي اثناء محاكمته عندما قال انه دخل السجن بقرار سياسي وانه سيخرج منه بقرار سياسي آخر. ويثير هذا القول أسئلة مهمة عدة أبرزها الآتي:
1 - هل كان جعجع يعترف ضمناً ومن خلال القول المذكور بمسؤوليته عن الاغتيال؟ ويدفع الى هذا السؤال احجام القوى الشرعية والاجهزة الرسمية من امنية وقضائية عن التحرك لجلاء غوامض اغتيال شمعون بعد حصوله، علماً ان ذلك كان ممكنا وكانت الخيوط المتوافرة في حينه، ولا سيما "جهاز الموتورولا" الذي بات شهيراً، ستوصل حتماً الى "القوات" كما حصل اخيراً.
وعلما ايضاً ان الغوص في هذه القضية في حينه كان اكثر سهولة بسبب وجود معظم المتهمين الفارين الذين صدرت في حقهم احكام غيابية في لبنان.
2 - لو كان جعجع مشاركاً في التركيبة السياسية التي انبثقت من اتفاق الطائف أي لو كان وزيراً ممارساً في الحكومة او نائباً في مجلس النواب هل كان ملف اغتيال شمعون فتح على النحو الذي حصل قبل اشهر أم كان استمر مطوياً مثل سائر ملفات القضايا المحالة إلى المجلس العدلي وذلك بانتظار "ابتداع" حل لها وبحيث لا تبقى سيفاً مسلطاً على رؤس المتهمين فيها المجهولين منهم والمعلومين؟ واستطراداً لو كان جعجع وزيراً مسؤولاً او نائباً ولو كان غارقاً حتى اذنيه في عملية تغطية تطبيق الطائف لان تغطية الاتفاق نفسه قدمها جعجع من زمان، هل كانت وجهت اليه والى "قواته" اصابع الاتهام بالمسؤولية عن تفجير كنيسة سيدة النجاة في زوق مكايل؟
3 - لماذا أرجىء اكمال محاكمة جعجع ورفاقه في قضية تفجير كنيسة الزوق اشهراً عدة؟ ولماذا أكملت محاكمتهم في قضية اغتيال شمعون على رغم ان المعلومات التي اوجبت فتح ملفها بعدما كان مطوياً تم الحصول عليها من الاستجوابات المتعلقة بقضية الكنيسة؟ وهل ان تأجيل الاولى الى أجل غير مسمى والاستعجال في الثانية كان الهدف منه النيل من جعجع بواسطة حكم "مضمون" باعتبار ان تطورات المحاكمة في قضية الكنيسة اظهرت بوضوح شكوكاً كبيرة في مسؤولية جعجع وقواته عنها، وباعتبار ان تبرئته ورفاقه فيها للشك او لعدم توافر الادلة القاطعة والثبوتية من شأنه احراج السلطة السياسية فضلاً عن القضاء وسائر المؤسسات الرسمية التي تعاطت مع هذه القضية واضعاف الجميع وتحويل جعجع من مشروع مجرم الى مشروع بطل او الى مشروع شهيد؟
طبعاً لا يرمي هذا الكلام الى الطعن في حكم المجلس العدلي على جعجع في قضية اغتيال شمعون الذي استند الى أدلة اقتنع اعضاؤه بثبوتيتها وقطعيتها، والاقتناع اساس في القضاء الجزائي، وانما يرمي الى تسليط الضوء على جانب آخر من قضية جعجع و"القوات" هو الجانب السياسي الذي قد يكون اثر في شكل او في آخر ليس على الحكم المذكور وانما على العلاقة بين فريق سياسي، ميليشياوي سابقاً، وبين السلطة والاطراف المشاركين فيها ورعاتها الاقليميين اذ تحولت من تعاون وربما من تحالف الى معارضة فمقاطعة وعداء. وكان لتحولها آثار بارزة على أكثر من صعيد.
ولهذا السبب من المفيد الخوض تفصيلاً في هذه العلاقة اذ ربما تلقي تطوراتها ضوءاً مفيداً على أمور كثيرة حصلت في لبنان ولا سيما منذ العام 1988 ولغاية اليوم وابرز التطورات هو الآتي:
- في الدقائق الاخيرة من ولاية رئيس الجمهورية الشيخ امين الجميل، وكان ذلك قبل منتصف ليل الثاني والعشرين من شهر أيلول سبتمبر 1988 عين الاخير حكومة عسكرية انتقالية برئاسة قائد الجيش في حينه العماد ميشال عون لتعذر انتخاب رئيس جديد يخلفه ضمن المهلة التي حددها الدستور لذلك. بارك الدكتور جعجع، الرجل القوي في حينه في المناطق الشرقية المسيحية، هذه الخطوة على رغم التنافر الواضح الذي كان بينه وبين عون والذي اتخذ شكل صراع عسكري بين الجيش و"القوات" في شهر شباط فبراير من العام نفسه كاد أن يتحول حرباً شاملة لولا مداخلات عدة قام بها الرئيس الجميل ومرجعيات دينية وسياسية مسيحية.
وفي 14 آذار 1989 اعلن عون "حرب التحرير" على سورية وعلى حلفائها اللبنانيين. وقد جاء ذلك بعدما تردد عن فشله في اقناع النواب اللبنانيين بانتخابه رئيساً للجمهورية وتحديداً في اقناع سورية أحد الناخبين الكبار للرئيس، ونفى عون هذه المعلومات أو أنه لا يعترف بهذه الحقيقة. وأيد جعجع هذه الحرب، لا بل انه شارك فيها لكن "الذي في القلب بقي في القلب" كما يقال اي بقيت مشاعر الخوف والحذر والعداء. كان جعجع يعرف ان وضع الشرقية في ذلك الوقت لم يكن يحتمل وجود جيشين على ارض واحدة، وكان يعرف ايضاً ان هدف عون هو احتواؤه وقواته وجعلهم ملحقين بالجيش وتحت قيادته. كما ان عون كان يعرف حقيقة شعور جعجع حياله وكان يعرف ايضاً ان الاخير ابدى مرونة تلافياً للانكسار لكنه لم يستسلم وانه ينتظر الفرصة المناسبة للتخلص منه او للانقضاض عليه.
جعجع يؤيد الطائف
2 - عندما دعت اللجنة الثلاثية المؤلفة من الملك فهد بن عبدالعزيز والملك الحسن الثاني ومن الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد بدعم الولايات المتحدة الاميركية ومعظم المجتمع الدولي النواب اللبنانيين الى الاجتماع في مدينة الطائف السعودية للاتفاق على إنهاء الحرب ولوضع ميثاق وطني جديد تنبثق منه الجمهورية الثانية، عندما حصل ذلك ادرك عون ان وضعه لم يعد مريحاً وانه سيكون في خطر اذا لم يوحد سياسة الشرقية وبندقيتها. وأدرك جعجع ان الفرصة قد سنحت للتخلص من عون. فاستعمل وضعه السياسي ووجوده العسكري ليؤمن التغطية المسيحية المطلوبة للتحرك العربي - الدولي وتالياً لذهاب النواب المسيحيين الى الطائف بهدف المشاركة فيه، خصوصاً بعدما كان ظهر في وضوح موقف عوني رافض للتحرك المذكور ومهدد للنواب المذكورين.
وأثمر هذا التحرك اتفاقاً حمل اسم المدينة التي ولد فيها اي الطائف فأيده جعجع ورفضه عون الذي عبرّ عن رفضه بسلسلة خطوات كان ابرزها اصدار مرسوم بحل مجلس النواب كونه رئيساً لحكومة انتقالية، وحاول كل من القطبين اظهار التأييد الشعبي الذي يتمتع به. فعبأ الجنرال انصاره كما أقام جعجع مهرجاناً حاشداً في مقر قيادة القوات في بيروت. وبدا للبنانيين ان الحرب ستقع لا محالة بين الاثنين، وقد وقعت بالفعل في آخر يوم من كانون الثاني يناير 1990 وظهر تعاطف واسع من السلطة ومن سورية راعيتها مع "القوات". وبدا عون معزولاً على هذا الصعيد باستثناء بعض المساعدات التي قدمها له بعض السلطة انتقاماً من العدو السابق والدائم جعجع.
وأسفرت هذه الحرب عن خسارة سياسية لعون وعن ربح سياسي لجعجع اما عسكرياً فقد احتفظ الرجلان بمعظم مناطقهما باستثناء ضبية وعين الرمانة التي صارت لعون وجبيل وادما وصربا التي صارت لجعجع. وبقي عون في قصر بعبدا حتى 13 تشرين الاول أكتوبر 1991 موعد قيام السلطة الشرعية بعمل عسكري لازالة تمرده بدعم من سورية.
3 - لم يدم "الوفق" بين جعجع والسلطة وكذلك مع سورية من خلال الاخيرة اذ رفض في المرحلة الاولى المنصب الوزاري بعد تعيينه وزيراً وتمثل بقواتي هو روجيه ديب. وفي المرحلة الثانية رفض حتى أن يتمثل في الحكومة. اما في المرحلة الثالثة فقد سلك درب المعارضة للحكم والحكومة ولكن من منطلقات تختلف عن منطلقات معارضة عون الذي كان نفي الى فرنسا ومعارضة المعارضين المهاجرين. فمعارضته كانت تركز على عدم تطبيق اتفاق الطائف نصاً وروحاً وعلى الاجتزاء في تطبيقه والهيمنة التي بدأ يمارسها المسلمون داخل السلطة وعليها وعلى التدخل السوري الواسع في كل الشؤون اللبنانية الداخلية، وبلغت هذه المعارضة ذروتها يوم شارك و"قواته" في مقاطعة الانتخابات النيابية التي جرت في العام 1992.
وقد شملت المقاطعة في حينه التيار العوني وحزب الكتائب وحزب الكتلة الوطنية وحزب الوطنيين الاحرار ومعظم المسيحيين فضلاً عن بعض المسلمين. وباركها البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير. ولم يعكس الاجماع المسيحي على المقاطعة في حينه توافقاً على استراتيجية سياسية موحدة. وبلغت المعارضة ذروتها ايضاً يوم "تصارع" مع الدكتور جورج سعادة على رئاسة حزب الكتائب على رغم معرفته بالدعم الذي يلقاه بقاء الاخير في موقعه الحزبي من السلطة ومن سورية.
اما اسباب هذه المعارضة فكانت في رأي المسؤولين في بيروت ودمشق عدم اقتناع جعجع بالتسوية التي انهت الحرب في لبنان واستمرار ايمانه بتسوية داخلية تقوم على اللامركزية السياسية التي يعتبرونها تقسيمية واستمرار رهانه على وضع اقليمي يخلص لبنان من الهيمنة السورية او يحد منها انطلاقاً من موقفين الاول وطني والثاني مسيحي نظراً الى المساعدة السورية التي ما كان يمكن ان ينهزم المسيحيون لولا حصول اخصامهم اللبنانيين عليها. واعتبروا في ذلك الوقت ان جعجع يمارس معهم السياسة نفسها التي كان يمارسها مع "الجنرال" عون اي سياسة "الوي كي لا أنكسر" وسياسة النوم في انتظار ظروف ومعطيات ومعادلات جديدة.
طبعاً لم يعترض جعجع في حينه على إجراءات الدولة حتى التي منها طالت ميليشياه واسلحتها ومقرها الرئيسي في الكرنتينا ربما لمعرفته بعدم جدوى المقاومة لأن الظروف الموضوعية الداخلية والخارجية لا تسمح بها. ولأن القيام بها انتحار وهو لا يهوى الانتحار.
التحصين والتحجيم
4 - بعد بدء العملية السلمية انطلاقاً من مؤتمر مدريد انطلقت مفاوضات ثنائية ومباشرة بين لبنان واسرائيل وبين سورية واسرائيل. وفي هذه المرحلة الصعبة رأت السلطة في بيروت ان المصلحة الوطنية تقضي بتحصين الوضع الداخلي وباقفال اي شباك يمكن ان تدخل منه "الريح" الى البلد والتحصين يتم بطريقتين الاولى أمنية وتقضي بالتضييق على العناصر التي قد تستغل المرحلة المذكورة لخربطة الوضع سواء عن اقتناع او عن توجيه من الخارج او عن الامرين معاً. وتقضي ايضاً بالبحث عن السلاح الذي لا يزال مخبأ وبمصادرته وبالقبض على العناصر المخلة بالامن او بالتي يخشى أن تخل به. والثانية سياسية وتقضي بمنع العناصر والجهات السياسية والحزبية من القيام بنشاط ظاهره سياسي وباطنه امني هدفه الاول التشكيك في الوضع القائم والاستعداد للانقضاض عليه عندما يحين الوقت المناسب وعندما تتوافر الظروف الملائمة.
وتركز التحصين على الشرقية لاسباب عدة منها ان المناطق غيبر الشرقية ممسوكة من الجيش اللبناني ومن الجيش السوري الموجود في لبنان في الوقت نفسه الامر الذي يجعل تحرك العناصر "المعادية" مستحيلاً او على الاقل صعباً، ومنها ان المنطقة الشرقية القواتية سابقاً ليس فيها الاّ الجيش اللبناني الذي لا يستطيع ان يبقي ظهره معرضاً للطعن من قبل عناصر سياسية وميليشياوية معادية، ولا يستطيع ايضاً ان يعرض نفسه لتجربة اجتذاب واستقطاب جديدة. ومنها ان القوات كانت استناداً الى معلومات السلطة تعيد بناء نفسها بالتعاون مع جهات معنية، استعداداً للتغييرات الاقليمية المرتقبة.
- بعد تفجير كنيسة سيدة النجاة في زوق مكايل بأسابيع بدأ حصار غدراس المقر الجديد لقيادة القوات. ثم اعتقل قائدها سمير جعجع بعد معلومات عن مسؤوليته ومسؤوليتها عن التفجير أدلى بها شخص اسمه جرجس الخوري تم اعتقاله لاشتراكه في العملية واشخاص آخرون بعضهم "قواتي"، وكذلك بعد مبادرة جعجع وعدد من الشخصيات السياسية والدينية المسيحية المتطرفة الى استغلال التفجير للهجوم على الدولة وعلى سلطتها ولحياء سياسات واستراتيجيات نائمة يتعلق بعضها بالامن الذاتي للمسيحيين طالما ان الامن الرسمي غير متوافر لهم.
كيف نظر اللبنانيون الى الحكم الذي صدر في حق الدكتور جعجع ورفاقه؟
قبل ذلك لا بد من الكلام عن كيفية نظرتهم الى اعتقاله والى الاتهامات التي وجهت اليه، وفي هذا المجال يمكن القول ان المسلمين عموماً الذين لم تكن يوماًً لجعجع شعبية عندهم، على رغم "سرور" بعضهم بمواقفه الرافضة للوضع السوري في لبنان، لم يشكّوا في مسؤوليته عن تفجير الكنيسة لاعتبارات عدة بعضها يتعلق بعلاقته الاسرائيلية وبطروحاته الداخلية وبعزمه على تغيير الاوضاع في الداخل، اما المسيحيون فقد اصيبوا بالصدمة على رغم ان حربه والعماد عون شلحته اكثريتهم. فهم لم يعرفوا اذا كان عليهم تصديق التهمة ام تكذيبها لكنهم كانوا شبه مقتنعين ان جعجع "جسمه لبيّس" كما يقال لكن لا يعقل ان يفجر كنيسة ويقتل مؤمنين داخلها.
ومع الوقت وبعد التطورات التي ظهرت في محاكمته في تفجير الكنيسة بدأوا يشكون في مسؤوليته عنها، وراح بعضهم يتهم جهات معينة داخلية وخارجية بافتعال التفجير لادخاله السجن لحل حزبه ومصادرة ممتلكاته في حين ان البعض الآخر منهم اعتبر ان سوء حظه جعل التفجير يحصل في مرحلة تريد الجهات هذه ان تكون "القوات" خلالها مغلولة او عاجزة عن تشكيل اي خطر عليها. فكانت خطوات الملاحقة والقبض.
وعندما فتح ملف اغتيال داني شعون اشمأز المسيحيون كما المسلمون واعتبروا ان "القوات" يمكن ان ترتكب جريمة كهذه وقد تكون ارتكبتها لكنهم مع مرور الوقت ومع حسابهم للآثار السلبية التي يرتبها سير الامور على الوجود المسيحي عموماً في لبنان راحوا يعترضون على حصر فتح الملفات بجعجع وراحوا يطالبون بفتح ملفات الجرائم كلها والتي لكثيرين من رموز الحرب الموجودين في السلطة ضلع فيها او علاقة بها.
زيادة الاحباط
اما الآن وقد صدر الحكم في هذه القضية وهو الاعدام لجعجع وتخفيضه الى المؤبد مع الاشغال الشاقة فإن آثاره على الوضع المسيحي وعلى الوضع اللبناني ستكون كثيرة ابرزها الآتي:
1 - لا شك في ان بعض المرجعيات السياسية المسيحية سيعتبر انه تخلص من منافس عنيد ومن خصم قوي. لكن المسيحيين المحبطين من الوضع القائم والداعين الى تغييره، وهم للمناسبة الاكثرية، سيزيد احباطهم وستزيد معاناتهم وسيزيد رفضهم لهذا الوضع وسيدفعهم ذلك الى البحث عن سند محلي او اقليمي او دولي لاحداث التغيير المطلوب، وبما ان هذا السند لن يوجد لاعتبارات كثيرة فإن إحباطهم قد يتحول يأساً الامر الذي يضاعف من وتيرة الهجرة المسيحية.
2 - لا شك في ان المسلمين عموماً سيعتبرون انهم تخلصوا من رمز مسيحي للحرب والدم. لكنهم سيستاؤون لان الرموز المسلمة المشابهة لم "يدق" احد بها. كما ان بعضهم المؤمن بالعيش المشترك يخشى أن تؤدي الهجرة المسيحية الى تشريع الابواب امام سيطرة التطرف الاسلامي على البلد وامام المس باستقلاله وسيادته اللتين كان المسيحيون احد اسباب وجودهما.
الاّ أن تجاوز هذا الوضع يبقى ممكناً في حال اقتنع المسيحيون او معظمعهم بأن لبنان ليس وطناً مسيحياً وانما هو وطن للشعب اللبناني المؤلف من مسلمين ومسيحيين وبأنهم تالياً لا يستطيعون ان يحكموه او ان تكون لهم الارجحية في ادارة حكمه على المسلمين ذلك ان التطور الديموغرافي الذي شهده البلد جعل المسلمين أكثرية معتدلة فيه، وقد يؤدي تسارع وتيرة الهجرة المسيحية الى جعلهم اكثرية كبيرة فيه وربما ساحقة. وهذا الاقتناع يجب ان يرافقه اقتناع آخر بالعيش المشترك والمتوازن مع المسلمين وبأن اتفاق الطائف ارسى أسس ذلك.
واذا كانت طريقة تطبيق هذ الاتفاق لم تطمئن المسيحيين لانها راعت التوازن شكلاً وأدت الى ممارسة المسلمين وحلفائهم الهيمنة ضمناً فإن التصحيح لا يكون بالعودة الى طروحات وهمية غير قابلة للتحقيق وانما بالاصرار على الالتزام بالعيش المشترك وعلى تصحيح تطبيق الطائف وعلى سد ثغراته الكثيرة.
طريق التسوية
وتجاوز الوضع نفسه يبقى ممكنا ايضاً بقيام علاقة مسيحية - سورية ثابتة قائمة على امتناع المسيحيين عن ان يكونوا ادوات في أيدي أعداء سورية يتحركون لضربها كلما قضت مصلحة هؤلاء بذلك وعلى اقتناعهم بأن دور سورية في لبنان عامل استقرار وتوازن لا العكس.
لكن الامكانية المشار اليها أعلاه لتجاوز الوضع الراهن تبقى نظرية اذا لم يبدر تجاوب واضح وعملي في وقت واحد من المسلمين وسورية. وتجاوب المسلمين يكون بالتعاون مع المسيحيين على بناء دولة المؤسسات والقانون على أسس من العدالة والتوازن والمساواة والعيش المشترك وبطمأنتهم الى انهم لن يعمدوا مستقبلاً الى جعل البلد مسلماً سواء بالمعنى السياسي أو بالمعنى الديني، وتجاوب سورية يكون بطمأنة اللبنانيين الى حرصها الفعلي على سيادة لبنان واستقلاله وبطمأنة المسيحيين الى أنها ليست في وارد تهميش دورهم ووجودهم في لبنان.
وذلك كله لا يمكن حصوله من دون ارساء اسس ثقة حقيقية بين المسلمين والمسيحيين وبين المسيحيين وسورية فالذكريات مريرة والتجارب غير مشجعة عند الجميع. المسلمون لا ينسون التعاون المسيحي - الاسرائيلي الذي لو كتب له النجاح في عام 1982 لكان وضعهم اللبناني صعباً والمسيحيون لا ينسون ان هزائمهم الكثيرة امام المسلمين كانت لسورية فيها يد كبيرة مثل حرب الجبل 1983 التي كان لغير سورية دور فيها أيضاً، ومثل عملية 13 تشرين الاول 1991 وسورية لا تنسى استمرار المسيحيين في معاداتها على رغم حمايتها لهم في العام 1976 وعلى رغم انه كان في امكانها جعل خسارتهم في البلد نهائية بعد دفع المقابل اللازم لذلك للخارج واذا كانت الترجمة العملية لهذا العداء لسورية في لبنان مقبولة فإنها غير مقبولة عندما يصبح داخل سورية.
وهنا يتحدث بعض العارفين عن "خطيئة مميتة" ارتكبتها "القوات" يوم حاولت العمل داخل سورية. طبعاً كشف عملها وقضي على كل المتورطين ولا سيما غير اللبنانيين منهم. لكن ذلك عزز الشعور بالشك في "القوات" وفي المسيحيين عموماً. علماً أن هذا الشعور من سمات النظام السوري، وقد يكون أحد أبرز أسباب استمراره.
حسابات العفو
هل يقضي جعجع حياته في السجن؟ اللبنانيون عموماً والمسيحيون خصوصاً يتحدثون عن احتمال حصوله على عفو من رئيس الجمهورية، ويقولون ان سابقة مماثلة حصلت عندما تم العفو عن المسؤولين عن المحاولة الفاشلة للانقلاب العسكري السوري القومي في العام 1960. ويرجحون أن يستعمل الرئيس الياس الهراوي العفو ليطمئن المسيحيين بعد تجديد ولايته، إذا جددت، خصوصاً أنهم يرفضون التجديد وما يمكن قوله عن هذا الامر هو أن أحداً لا يستطيع ان يعفو عن جعجع الاّ رئيس الدولة الذي منحه الدستور حق اصدار عفو خاص عن أي محكوم. والعفو الخاص يسقط العقوبة أو يخفضها لكنه لا يلغي الحكم والادانة.
واذا كان من عفو سيصدر فإن موعده لن يكون الاّ في العهد المقبل سواء كان الهراوي سيده أو شخص آخر، ولن يكون تحديداً الاّ بعد نشوء ظروف في لبنان والمنطقة تجعل من المتعذر على جعجع أو غيره الاضرار بلبنان وبتركيبته السياسية وكذلك الاضرار بسورية. ومن هنا فإن لها كلمة أساسية في هذا الموضوع.
الصوت القاتل
تؤكد مصادر نيابية انه عندما طرح موضوع العفو عن الجرائم التي حصلت في لبنان خلال سنوات الحرب الطويلة كان الاتجاه السائد عند الحكم والحكومة ومجلس النواب، وكذلك عند سورية "راعية" مسيرة الانتقال بالبلد من الحرب الى السلم، هو اصدار مشروع عفو عام يشمل كل الجرائم بما في ذلك المحالة الى المجلس العدلي. وتقول ان اللجان النيابية المشتركة كانت في هذه الاجواء عندما بدأت درس مشروع قانون العفو تمهيداً لاحالته الى الهيئة العامة في المجلس النيابي. وعندما وصلت الى النقطة المتعلقة بشمولية العفو وتحديداً انطباقه على الجرائم المحالة الى المجلس العدلي حصل نقاش داخلها حسمه تصويت كان لمصلحة استثناء هذه الجرائم من العفو. وتم ذلك بعدما تعادلت الاصوات في المرة الاولى. وتتابع المصادر النيابية نفسها ان من المفارقات ان صاحب هذا الصوت كان النائب السابق جورج كساب الكتائبي الموالي للدكتور سمير جعجع قائد "القوات اللبنانية" . كانت الكتائب ممثلة في اجتماع اللجان المشتركة بنائبين وكانت "القوات" ممثلة بنائبين ينتميان رسمياً الى الكتائب. وعند التصويت صوت نائبا الاخيرة لتوسيع شمولية العفو ولفتا النائب القواتي الى ضرورة التصويت مثلهما. وهذا ما فعل. لكن النائب الكتائبي - القواتي الاخير صوت في الاتجاه المعاكس ربما لعدم الانتباه او لعدم درس ملف مشروع قانون العفو جيداً.
عندما تبلغ الدكتور جعجع الخبر من حزبيين كتائبيين ثارت ثائرته وطلب منهم الاتصال بنائب رئيس المجلس النيابي ايلي الفرزلي الذي كان صاحب اقتراح توسيع شمولية قانون العفو العام وبرئيس المجلس حسين الحسيني لترتيب الامر في الجلسة العامة التي كان مجلس النواب سيعقدها لاقرار مشروع القانون. لكن التجاوب لم يكن كافياً للقيام بالترتيب المطلوب لان العادة كانت درجت على ان تطبخ مشاريع القوانين كلها في اجتماعات اللجان النيابية المشتركة وعلى ان تصدق في الهيئة العامة للمجلس اما من دون ادخال تعديلات عليها واما بعد تعديلها ولكن على نحو طفيف.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.