أمير حائل يشهد حفل التخرّج الموحد للمؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني    أمير المدينة يكرم الطلاب الحاصلين على جوائز محلية وعالمية    وزير الاقتصاد والتخطيط يبحث مع الوزيرة الاتحادية النمساوية للشؤون الأوروبية العلاقات الثنائية بين السعودية والنمسا    رونالدو يعلق على انجازه في الدوري السعودي    رياح مثيرة للأتربة على الرياض    ارتفاع أسعار النفط إلى 84.22 دولارا للبرميل    "البحر الأحمر" تسلم أول رخصة ل"كروز"    المملكة تفوز بجوائز "WSIS +20"    الدوسري: التحديات بالمنطقة تستوجب التكامل الإعلامي العربي    الهلال يمًدد تعاقده مع جورجي جيسوس    القادسية يتوج ب"دوري يلو"    إضافة خريطة محمية الإمام لخرائط قوقل    وزير الداخلية يدشن مشروعات حدودية أمنية بنجران    "الشؤون الاقتصادية": اكتمال 87% من مبادرات الرؤية    طائرات "درون" في ضبط مخالفات المباني    للمرة الثانية على التوالي.. إعادة انتخاب السعودية نائباً لرئيس «مجلس محافظي البحوث العالمي»    «الشورى» يطالب «حقوق الإنسان» بالإسراع في تنفيذ خطتها الإستراتيجية    وزير الحرس الوطني يرأس اجتماع مجلس أمراء الأفواج    أمير تبوك يطلع على استعدادات جائزة التفوق العلمي والتميز    5 أعراض يمكن أن تكون مؤشرات لمرض السرطان    تحذير لدون ال18: القهوة ومشروبات الطاقة تؤثر على أدمغتكم    هذه الألوان جاذبة للبعوض.. تجنبها في ملابسك    رفح تحت القصف.. إبادة بلا هوادة    مؤتمر بروكسل وجمود الملف السوري    الإسراع في بناء المجتمع الصيني العربي للمستقبل المشترك نحو العصر الجديد    الملك يرأس جلسة مجلس الوزراء ويشكر أبناءه وبناته شعب المملكة على مشاعرهم الكريمة ودعواتهم الطيبة    أمير الرياض ينوه بجهود "خيرات"    كلية القيادة والأركان للقوات المسلحة.. ريادة في التأهيل والتطوير    70 مليار دولار حجم سوق مستحضرات التجميل والعناية الشخصية الحلال    هيئة تنظيم الإعلام: جاهزون لخدمة الإعلاميين في موسم الحج    «جائزة المدينة المنورة» تستعرض تجارب الجهات والأفراد الفائزين    مكتب تواصل المتحدثين الرسميين!    هؤلاء ممثلون حقيقيون    أمير المدينة يستقبل السديس ويتفقد الميقات    الهلال الاحمر يكمل استعداداته لخدمة ضيوف الرحمن    سعود بن نايف: الذكاء الاصطناعي قادم ونعول على المؤسسات التعليمية مواكبة التطور    القيادة تهنئ رئيسي أذربيجان وإثيوبيا    المملكة تدين مواصلة «الاحتلال» مجازر الإبادة بحق الفلسطينيين    في نهائي دوري المؤتمر الأوروبي.. أولمبياكوس يتسلح بعامل الأرض أمام فيورنتينا    العروبة.. فخر الجوف لدوري روشن    أخضر الصم يشارك في النسخة الثانية من البطولة العالمية لكرة القدم للصالات    القارة الأفريقية تحتفل بالذكرى ال 61 ليوم إفريقيا    ولاء وتلاحم    مثمنًا مواقفها ومبادراتها لتعزيز التضامن.. «البرلماني العربي» يشيد بدعم المملكة لقضايا الأمة    الحسيني وحصاد السنين في الصحافة والتربية    اختتام معرض جائزة أهالي جدة للمعلم المتميز    أمريكي يعثر على جسم فضائي في منزله    «أوريو».. دب برّي يسرق الحلويات    تواجد كبير ل" روشن" في يورو2024    وزارة البيئة والمياه والزراعة.. إلى أين؟    أسرة الحكمي تتلقى التعازي في محمد    شاشات عرض تعزز التوعية الصحية للحجاج    دعاهم للتوقف عن استخدام "العدسات".. استشاري للحجاج: احفظوا «قطرات العيون» بعيداً عن حرارة الطقس    عبدالعزيز بن سعود يلتقي القيادات الأمنية في نجران    سلمان بن سلطان: رعاية الحرمين أعظم اهتمامات الدولة    ملك ماليزيا: السعودية متميزة وفريدة في خدمة ضيوف الرحمن    إخلاص وتميز    القيادة تعزي حاكم عام بابوا غينيا الجديدة في ضحايا الانزلاق الترابي بإنغا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



طاجيكستان جزيرة ايرانية في بحر طوراني وبدخشان حفيدة الاسكندر ! . تاريخ من الصراع بين العشائر والمناطق - قتل على الهوية ومطاردات تذكر بسنوات التطهير الستالينية
نشر في الحياة يوم 06 - 09 - 1993

تغادر طائرة شركة الخطوط الجوية الطاجيكية موسكو حوالي منتصف الليل، وبعد ان تقطع مسافة 5،3 آلاف كيلومتر تحط في مطار دوشانبه قبل انبلاج الفجر بقليل. وليست في المطار باصات ولا سيارات اجرة، ولا يستطيع الركاب الذهاب الى المدينة الا بعد السادسة صباحا، اي عندما ينتهي منع التجول.
وخلافا للعواصم الاسلامية الاخرى لا يبدأ النهار في دوشانبه بالآذان ولا يسارع المصلون الى المساجد، ولا يلتقي في هذه الساعة المبكرة في الشوارع التي لا تزال تحمل اسماء الزعماء الشيوعيين الروس الا قليل من المارة.
كانت في موقع دوشانبه في زمن مضى قرية لا تلفت النظر، فامثالها كثيرة في طاجيكستان. ولكن عندما اعلنت جمهورية اشتراكية سوفياتية قررت موسكو جعلها عاصمة لها. وسرعان ما نشأت هناك مدينة حملت اسم ستالين الى ان امر نيكيتا خروشوف باعادة اسمها السابق اليها.
وبنيت في دوشانبه في العهد الشيوعي دور السينما والاندية والقاعات الرياضية، واقيمت التماثيل لابطال الثورة، وشقت السواقي على جوانب الشوارع حسب التقاليد الشرقية زارعة في كل مكان خال احواضا فواحة من الزهور. ولكن لم يبن هناك على مدى عشرات من السنين مسجد واحد. لكن الاسلام بقي في قلوب المتدينين فقط ووراء اسوار البيوت الخاصة. وكانت سجادة الصلاة تمدّ بعيداً عن أعين الفضوليين، واستمر الاسلام في السرّ من دون أن يقضى عليه.
رجال الامن أكثر
وفي الحديقة الظليلة الممتدة في مقابل فندق "طاجيكستان" تصدح من مكبرات الصوت طول النهار بلا توقف الموسيقى الوطنية كأنها توحي للاجانب المقيمين هنا بأن الاطمئنان والنظام قد استعيدا اليوم في المدينة التي كانت حتى الامس القريب مسرحاً لحرب أهلية طاحنة. ولكن من المستبعد ان يصدق هذه الصورة الهادئة ممثلو بعثة الامم المتحدة واللجنة الدولية للصليب الاحمر الذين نزلوا في الطبقات العليا من الفندق حيث يناوب حراس طوال القامة بملابس التمويه المبقع طوال اربع وعشرين ساعة في اليوم، وحيث رجال الامن في الملابس المدنية يكادون يكونون في البهو اكثر من النزلاء.
في ساعات النهار يشوى اللحم في الحديقة ويمضغ المواطنون الميسورون لحم الضأن الطازج على مهل ويشربون وراءه "الكوكاكولا" من العلب التي تسخن تحت أشعة الشمس. وفي هذه الاثناء يجتمع في مطعم الفندق الاغنياء الجدد المحليون وتسيل المشروبات الروسية بغزارة اكثر من مياه نهر دوشانبه الذي نضب من القيظ، كما قال النادل شكرالله. ويشتري الاغنياء من محل خاص مختبئ وراء شبكة سميكة من القضبان الحديد السجائر الاميركية والشوكولا الايطالية، وبجانب هذا المحل بار كتب على بابه بالانكليزية تنبيه الى عدم قبول عملة فيه غير العملات الصعبة.
لكن العملة الوحيدة، غير الصعبة اطلاقا، بالنسبة الى اكثرية سكان دوشانبه هي الروبل الروسي، وان كانت الفائدة منه غير كبيرة لأن محلات المواد الغذائية خالية تقريبا اليوم. وعندما سألت هل يباع شيء هنا غير المعكرونة، أجاب احد البائعين بابتسامة ان ليس هناك ما هو متوافر دائماً غير الذباب اللاصق بالورق اللزج. واضاف مازحاً ان هذه، على الارجح، هي البضاعة الوحيدة التي عليها "العرض يسبق الطلب كثيرا".
منذ اول آب اغسطس أرجئت بداية منع التجول من العاشرة ليلاً الى الثانية عشرة منتصف الليل. ولكن السكان بقوا متقيدين بالجدول المفروض، فبعد الرابعة مساء تغلق المؤسسات والمحلات التجارية ابوابها واحداً بعد آخر، ولا تمضي ساعتان الا ويسود الشوارع الخالية هدوء متوتر لا يعكره بين الحين والآخر غير صوت محرك سيارات متأخرة او قرقعة جنازير دبابة من دبابات الفرقة الروسية الپ201 تقوم بدوريتها الروتينية في المدينة المقفرة.
طاجيك… طيء!
وعلى رغم ان واجهات المحلات التجارية وصالونات الحلاقة والصيدليات في دوشانبه بدأت تحمل في الفترة الأخيرة الأحرف العربية، فالطاجيكيون الذين تعودوا استعمال الاحرف الروسية لا يستطيع الا القليل منهم التمييز بين الالف وعمود الكهرباء! ونادرون الذين يعرفون ان كلمة "طاجيك" جاءت من اسم قبيلة "طيء" العربية.
ومع انتشار الاسلام وراء النهر وخراسان، لصقت تسمية "الطاجيك" بالمسلمين المحليين الناطقين بالفارسية التي كانت في ذلك الحين لغة التخاطب الرئيسية في هذه المناطق. وساهم الطاجيكيون الذين هم والايرانيون من عرق واحد، بقسط ذي وزن في تطوير الحضارة الاسلامية. ويفخر الطاجيك بعباقرتهم المسلمين من امثال الامام ابي عبدالله محمد البخاري او الطبيب والفيلسوف ابي علي ابن سينا او الفلكي ابي محمود الخجندي.
وأنشأ الطاجيكيون في القرنين التاسع والعاشر للميلاد دولة السامانيين الكبيرة التي ضمت جزءاً كبيراً من اراضي آسيا الوسطى الحالية وافغانستان. وكانت عاصمتها بخارى في ذلك الحين من اكبر الحواضر الثقافية في العالم الاسلامي. لكن بخارى سقطت خريف سنة 999م في أيدي القبائل التركية الرحل، ومن الصعب استصغار شأن هذا الحدث المأسوي بالنسبة الى الشعوب الناطقة الفارسية اذا وضعنا في الحساب ان الموضوع الرئيسي للملحمة الايرانية كان دائما موضوع نضال ابطال ايران الحضرية "البيضاء" ضد قوى الشر التي كان طوران "الاسود" البدوي يجسدها.
ولم تكن للطاجيكيين دولة طوال القرون العشرة التالية. وعلى رغم ان الطاجيكية كانت هي اللغة السائدة في المعاملات الرسمية والثقافية في بخارى وسمرقند حتى العشرينات من هذا القرن، فان الطاجيكيين انفسهم كانوا يتعرضون باستمرار لمضايقات فيرحلون الى المناطق الجبلية. في حين كانت الشعوب التركية المحلية تنتقل من حياة الرعي الى حياة الزرع وتتحضر في وديان ما وراء النهر الحضرية.
جزيرة ايرانية في محيط طوراني
لكن الخطر الفعلي على وجود الطاجيكيين كشعب واحد نشأ بعد الانقلاب الشيوعي في روسيا سنة 1917، عندما ظهرت في آسيا الوسطى جمهوريتان تركيتان سوفياتيتان هما تركستان وبخارى. وفي كلتيهما اصبح الطاجيكيون اقلية قومية لا حقوق لها. وفي سياق رسم الحدود التالي سنة 1924 خصصت للطاجيكيين جمهورية ذات حكم ذاتي ضمن اوزبكستان، ولم تقرر موسكو الا في سنة 1929 تحويلها الى جمهورية اتحادية عاصمتها دوشانبه.
وللمرة الاولى بعد انقطاع استمر الف سنة تقريباً عادت "الجزيرة الايرانية" الى الظهور في محيط طوران التركي اللغة، ولكن حتى النظرة السريعة على خريطة دولة الطاجيكيين الجديدة كانت كافية لفهم مدى وعورة طريقهم الى الوحدة القومية… اذا كان ذلك في الأصل ممكناً.
وكان من اعظم الصعوبات ان مناطق طاجيكستان السوفياتية المختلفة مفصول بعضها عن بعض بسلسلة جبال لا يمكن عبورها، الامر الذي لم يحل دون التعامل الاقتصادي والثقافي في ما بينها فحسب، بل ساعد في تشديد العزلة الاقليمية والنزعة الانفصالية المحلية. فضلاً عن ذلك، ان بخارى التي كان الطاجيكيون يعتبرونها منذ اقدم العصور عاصمتهم، اصبحت في اراضي اوزبكستان المجاورة وفقدت الجمهورية الطاجيكية بذلك مركزا تقليدياً يعترف به الجميع ويمكن ان تتحد من حوله كل مناطقها ومقاطعاتها.
لا عجب في ان ينشأ بين العشائر الحاكمة في مناطق طاجيكستان المختلفة، بسبب عدم وجود عاصمة، تنافس على النفوذ والسلطة انتهى بأن أصبحت الادوار الاولى للزعماء الشيوعيين من خجند الموجودة في الشمال والتي كانت تقليديا منذ العصور الوسطى تمد السوق السياسية في ما وراء النهر بالعناصر القيادية وتتميز من جهة اخرى بمستوى اعلى من التطور الاقتصادي والثقافي.
العشيرة الخجندية
وحكم دوشانبه خلال السنوات الخمسين الأخيرة زعماء شيوعيون من العشيرة الخجندية. اما ابناء المناطق الاخرى فكانوا لا يحتلون سوى مناصب ثانوية، ولم يبق لهم الا ان يشاهدوا على مضض كيف يخصص القسم الاكبر من الموازنة لتطوير المناطق الشمالية من طاجيكستان، في حين ان مناطقها الجنوبية تنحدر سنة بعد سنة الى هوة الركود الاقتصادي والفقر.
هذا التقسيم للسلطة الذي باركته موسكو كان له اساسه من التاريخ فعلا الى حد ما. وقد اعيد الى اذهاني مرارا وانا في طاجيكستان ان خجند حكمت على مدى العصور وان تورغان - توبيه الكثيرة الاراضي حرثت وزرعت، فيما كان الفلاحون في منطقة قولاب التي تفتقر الى الاراضي يفلسون ويلتحقون بجيش حكام آسيا الوسطى للخدمة فيه، واشتهروا في كل ما وراء النهر بأنهم محاربون بواسل وماهرون.
وكان يقف بمعزل عن الجميع سكان قره تيغين الجبلية الذين لجأوا الى الشعاب المنيعة مع مشايخ طريقتي القادرية والنقشبندية الصوفيتين والذين استطاعوا الحفاظ على الاسلام في ظروف الملاحقات القاسية من جانب السلطات الشيوعية.
الفرصة السانحة
وهكذا تراكمت وراء واجهة "الجمهورية الاشتراكية السوفياتية" الجميلة المظهر في طاجيكستان من سنة الى اخرى تناقضات بين المناطق التي واجهت ظروفاً اجتماعية واقتصادية غير متكافئة، واصبحت العشائر الحاكمة المحلية مستعدة منذ زمن بعيد للاقتتال من اجل تقاسم "كعكة السلطة"، فيما لو تخلصت، ولو للحظة، من "أحضان موسكو الحديد".
سنحت هذه الفرصة بعد اخفاق محاولة الانقلاب الشيوعي التي جرت في موسكو في آب اغسطس 1991 عندما اصبح واضحاً للجميع ان الامبراطورية السوفياتية على حافة الانهيار وان تدخل الكرملين العسكري في شؤون الجمهوريات القومية غير وارد عمليا.
ففي 9 ايلول سبتمبر 1991 اعلن البرلمان الطاجيكي استقلال البلاد الذي بدأ، كما في الجمهوريات السوفياتية السابقة الاخرى، بتعليق نشاط الحزب الشيوعي وازالة تمثال لينين في احدى ساحات دوشانبه. وعلى اثر تنحية قهار محكموف السكرتير السابق للحزب الشيوعي الطاجيكي من منصب الرئيس انتخب لرئاسة الدولة زعيم شيوعي سابق آخر هو رحمن نبييف الذي كان كسابقه من عشيرة خجند الحاكمة.
ومنذ الايام الاولى لحكم نبييف حاولت المعارضة الطاجيكية وضعه تحت رقابتها ودفعه الى تنفيذ مطالبها بتفكيك المنظومة الشيوعية ونشر الديموقراطية. ولهذا الغرض نظمت قوى المعارضة اجتماعات حاشدة لانصارها جرت بلا انقطاع تقريباً في ساحة الشهداء من خريف 1991 حتى ربيع 1992.
كانت المعارضة الطاجيكية التي اتحدت على اساس مكافحة الشيوعية تتألف من جناحين: الاول هو الحركة الاسلامية التي يمثلها حزب النهضة الاسلامي الخارج من العمل السري برئاسة محمد شريف همت زاده ودولت عثمان، وكثيرون ايضا من انصار الزعيم الروحي للمسلمين الطاجيكيين القاضي الشيخ اكبر تورجان زاده. والجناح الثاني هو الجناح الديموقراطي الذي ضم حركة "راستوخيز" البعث الشعبية برئاسة طاهر عبدالجبار والحزب الديموقراطي برئاسة شدمان يوسف ومنظمة جبلي بامير المتنفذة "لالي بدخشان".
للوهلة الاولى قد يبدو غريباً هذا التحالف بين رجال سياسة بعيدين جداً احدهم عن الآخر كالشيخ اكبر ترجان زاده الذي تلقى علومه الدينية في بخارى وعمان من جهة مثلا، وزعماء الحركات الديموقراطية الذين نشأوا على افكار توماس جيفرسون واندريه ساخاروف ويقدسون قيم الديموقراطية الغربية، من جهة اخرى. لكن اتحادهم في كتلة معارضة كانت له ميزات لا جدال فيها، لأن مفهوم انشاء مجتمع تلتقي فيه القيم الاسلامية مع اعلاء كلمة القانون واحترام حقوق الانسان كان جذابا للجيل الجديد المثقف ثقافة اوروبية ولعدد ضخم من المسلمين الطاجيكيين على السواء. وكانت تبدو على جاذبية كبيرة ايضا الرغبة التي اعلنتها المعارضة في تحقيق اهدافها بالطرق السلمية حصرا.
قال محمد همت زاده رئيس حزب النهضة الاسلامي: "ليست لدينا خطة لانشاء دولة اسلامية بالقوة. وخلافا للشيوعيين لا نريد ان نفرض على البلاد ايديولوجيتنا وانظمتنا. وطبعا، اذا اراد الشعب الدولة الاسلامية في استفتاء فسيكون من حقه ان يختار هذا الطريق. لكننا حتى في هذه الحال سنبقى متمسكين بحقوق الانسان".
حرب الساحتين
ولمواجهة ضغط المعارضة لجأ رجال الرئيس نبييف الى اساليب الاجتماعات الشعبية نفسها، وانشأوا في ساحة اوزادي في دوشانبه حشدا دائم العمل من انصارهم الذين كان معظمهم من سكان خجند و"متطوعين" جيء بهم على جناح السرعة بالوسائل الحكومية من قولاب التي كانت للنخبة الشيوعية الحاكمة فيها مواقع قوية.
وظل الصراع السياسي في طاجيكستان بضعة اشهر في ظل ما يسمى "حرب الساحتين": في ساحة الشهداء يغلي الناس ويفورون كل يوم وهم يدينون "المافيا الشيوعية"، وبرز بينهم انصار حزب النهضة الاسلامي وقد عصبوا جباهم بعصابات بيضاء كتب عليها بالاحرف العربية "النصر او الموت". وفي الوقت نفسه يلوح القادمون من خجند وقولاب في ساحة اوزادي المجاورة بالرايات السوفياتية الحمراء ويهتفون بشعارات "عاشت الشيوعية".
وخوفا من تعاظم قوة التظاهرات المعادية للحكومة، اتخذ الرئيس نبييف في مطلع ايار مايو 1992 قراراً بتوزيع الاسلحة الاوتوماتيكية على انصاره وتلت ذلك اول طلقات نارية في المدينة وكادت "حرب الساحتين" ان تنقلب الى مجزرة دامية لو لم يتدخل الشيخ تورجان زاده الذي طلب من الرئيس بلهجة قاسية سحب انصاره من العاصمة ونزع سلاحهم وتشكيل حكومة "وفاق وطني" يشترك فيها زعماء المعارضة. واستطاع في الوقت نفسه اقناع قادة قوى المعارضة بضرورة بقاء رحمن نبييف في منصب الرئيس بوصفه ضماناً للوحدة وسلامة التراب الوطني.
لم تستطع الحكومة الائتلافية التي نشأت على اثر انتصار ساحة الشهداء على ساحة اوزادي ضمان السلام والوفاق الوطني لطاجيكستان. فالمعارضة على رغم إحكامها السيطرة على كل مؤسسات الدولة تقريبا ونيلها تسع حقائب وزارية، لم تتمكن من بسط سلطتها ونفوذها الا على ما يزيد بقليل على ربع مساحة الجمهورية.
والسبب في ذلك واضح، اذ ان اساس "حرب الساحتين" التي استمرت بضعة اشهر لم يكن الخلاف على النظام المقبل للمجتمع الطاجيكي، بمقدار ما كان الصراع بين قادة العشائر الاقليمية على النفوذ السياسي والامتيازات الاقتصادية التي تتضمن في بعض الحالات - كما يقال كثيرا من هذا - الرقابة على عبور المخدرات.
وفي الوقت الذي ايد ابناء مناطق بامير وقره تيغين الفقيرة اقتصاديا، حزب النهضة الاسلامي والديموقراطيين في ساحة الشهداء، وقف تحت الرايات الحمراء للقادة الاشتراكيين الخجنديين في ساحة اوزادي سكان قولاب وغيسار الذين لا يقلون فقراً عن اولئك وفريق من سكان تورغان - توبيه وكذلك ابناء الاقليات القومية من السكان الاوزبكيين والقرغيزيين والنطاقين الروسية.
وزاد في الطين بلة ان القولابيين المؤيدين لنبييف لم ينزع سلاحهم كما طلبت المعارضة وغادروا دوشانبه قبل قيام الحكومة الائتلافية، وهم مدججون بالسلاح مقسمين على الانتقام من اسياد الجمهورية الجدد الذين سموهم "الاصوليين". وسرعان ما اعلنت سلطات خجند وقولاب المحلية صراحة عدم اعترافها بالحكومة "غير الدستورية" حسب رأيها ووضعت تحت صلاحيات المجالس المحلية الدوائر والمصانع الموجودة في اراضيها، وباشرت سريعا تشكيل فصائل مسلحة خاصة بها.
وتفاقم الوضع لان حكومة "الوفاق الوطني" كانت في اكثريتها مؤلفة من اناس يفتقرون، على رغم كل نياتهم الطيبة، الى المران والخبرة في ادارة شؤون البلاد. وكما يحدث عادة في الاضطرابات الاهلية، احتل الكثير من مقاعد القيادة اناس ليسوا في العير ولا في النفير، من المغامرين الساعين الى الافادة من جو الفوضى، بل احياناً من المجرمين. ويذكر ان هؤلاء اطلقهم طرفا النزاع بالمئات على امل استخدامهم في تصفية الحسابات مع الخصوم السياسيين.
وفي حين راح "الائتلافيون" الذين أعماهم نجاحهم يتقاسمون الحقائب والامتيازات و"التلفزيون الشعبي" يتشدق ليلا نهارا بالديموقراطية وحقوق الانسان، عمت الفوضى وغياب القانون شوارع دوشانبه على نحو لم يعرفه سكانها في ظل اية سلطة سابقة. وبسبب انعدام الاختصاص واحيانا التغاضي من جانب زعماء "ثورة ايار" اصبحت المدينة تقع مع حلول الظلام في براثن اللصوص والناهبين. وطوال صيف 1992 كانت تذهب الى بامير كل يوم طوابير من السيارات المسروقة المحملة بالمسروقات من المواد الغذائية والموبيليا والسجاد التي تبادل في خارج الحدود بالافيون الافغاني.
ويقول احد الاطباء الطاجيكيين ان مصلحة "الاسعاف" توقفت عن العمل تقريباً في ايام حكومة دوشانبه الائتلافية لان 50 سيارة اسعاف من اصل 64 اخذت الى قرى قره تيغين وبامير الجبلية النائية وفككت الباقية الى قطع غيار.
اسلوب… لبناني!
وقال ل "الوسط" مهندس من دوشانبه في الثلاثين من العمر كان مسؤولا عن التصليح في مرأب السيارات الذي نهبت كل سياراته: "ان الناس حتى الآن يرتعشون خوفا لدى سماع كلمة ديموقراطي. ففي كل لحظة كان يمكن وقفك في الشارع وطلب بطاقة هويتك. وكان يطلق الرصاص فوراً على كل متحدر من قولاب".
والواقع ان الطرفين المتنازعين كليهما استعملا على نطاق واسع في طاجيكستان اسلوب القتل على الهوية المقتبس من حرب لبنان. وعندما قام رجال الحرس القولابي في صيف سنة 1992 في محافظة تورغان - توبيه بحملة لمطاردة "الاسلاميين" من اهالي غارم وصل عدد الضحايا الى الوف وشوهت الجثث تشويهاً فظيعاً بالتعذيب.
وفي صيف 1992 انشأ خصوم الحكومة الائتلافية في قولاب ما يسمى "الجبهة الشعبية" وكان من الصعب آنذاك التصديق أن تشكيلاتها المسلحة المتفرقة الاكثر شبهاً بالعصابات المسلحة تستطيع في بضعة اشهر ان تقطع الطريق بالقتال من حدود طاجيكستان الجنوبية الى العاصمة، وان تستولي على الحكم.
وضربت حكومة دوشانبه من اجل تأديب المتمردين حصاراً اقتصادياً على قولاب، وقطعت عنها كل طرق التموين بالمواد الغذائية والسلع الضرورية، وسرعان ما اضطرت السلطات القولابية لا في بعض القرى والبلدات الى تنظيم توزيع الخبز على السكان على اساس 50 غراماً للشخص الواحد في اليوم. ومن جهة اخرى ضغط "الائتلافيون" على نبييف وطالبوه باتخاذ اجراءات شديدة لنزع سلاح القولابيين. وعندما عجز عن تنفيذ ما وعد به في ايار مايو اصبح هذا العجز واحداً من اسباب تنحيته بالقوة في ايلول.
موسكو والجبهة الشعبية
وفي منتصف صيف 1992 كانت حكومة الوفاق الوطني في دوشانبه لا تزال تحظى بتأييد موسكو وكانت الصحف الروسية الديموقراطية لا تصف مقاتلي الجبهة الشعبية الا ب "رجال العصابات" وتصور زعيمهم سنجق صفروف بالقاتل والغاصب الذي قضى في السجون السوفياتية فترات يناهز مجموعها 23 سنة صفروف قتل قبل اسابيع في خلاف داخل الجبهة.
لكن الوضع سرعان ما راح يتغير لمصلحة الجبهة الشعبية، ولم يحدث هذا اطلاقاً بسبب موهبة صفروف العسكرية المتميزة او القسوة الرهيبة التي كان مقاتلوه يقضون بها على كل من يتهمونه بالتعاطف مع "الاسلاميين والديموقراطيين" بل لان الجبهة استطاعت استغلال الكثير من الاخطاء التي ارتكبتها حكومة دوشانبه.
ومن هذه الاخطاء السياسية التي اتبعت مع الاقليات القومية والتي عرضها زعيم الديموقراطيين شدمان يوسف في التلفزيون في 10 ايار مايو 1992 اذ قال انه ينبغي من الآن فصاعداً اعتبار السكان الناطقين الروسية في طاجيكستان رهائن تتحكم بمصيرهم تصرفات روسيا وفرقتها ال 201 المرابطة في الجمهورية. وايقنت موسكو بأن هذا ليس مجرد تهديد، بعدما قتل بالفعل عشرات الروس وطرد المئات من بيوتهم اثناء الحرب الاهلية الصيف الماضي في منطقة تورجان توبيه.
روبن هود الطاجيكي
اما الجبهة الشعبية فادركت ما ل "الورقة الروسية" من اهمية فحاولت ان تلعبها لمصلحتها. وقدم القولابيون، خلافاً لما فعله خصومهم، الخبز والمأوى للنازحين الروس وكرر زعيمهم صفروف ان هدفه الرئيسي حقن الدماء. وقال: "نحن ايضاً مسلمون، لكن الناس حسب تعاليم القرآن اخوة. وقد عمرنا طاجيكستان معاً وسندافع عن حقوق الروس والاوزبكيين والالمان وجميع القوميات الاخرى الساكنة هنا".
ووصلت كلمات زعيم الجبهة الشعبية الى مسامع موسكو ونشر الكثير من المطبوعات القومية مقالات سمى فيها صفروف "روبن هود الطاجيكي" و"الجنرال الشعبي".
وتوجت ثقة اقوياء روسيا بالمجرم السابق الذي كان يبيع الشواء في ايام شبابه في احدى حدائق المدينة بنشر صورة له مع وزير الدفاع الروسي الجنرال بافيل غراتشوف.
والخطأ الآخر لحكومة الوفاق الوطني انها ما كادت ان تتسلم مقاليد السلطة حتى ظهرت في وسائل الاعلام الطاجيكية خصوصاً التلفزيون، نغمة الحنين الى "العالم الايراني" الذي فصلت طاجيكستان منه على مدى قرون. وتقدم بعض المؤرخين المعروفين بنظريات ذكرت فيها مباشرة او مداورة حقوق الطاجيكيين التاريخية ببخارى وسمرقند.
وأزعج هذا كثيراً الرئيس الاوزبكي اسلام كريموف الذي خشى ان تنتقل افكار الديموقراطيين والاسلاميين الطاجيك الى اوزبكستان التي يسكنها 800 الف طاجيكي وان تشتد في وادي فرغانة يوماً بعد يوم المعارضة الاسلامية السرية التي رأى فيها خطراً على نظامه. وكانت النتيجة ان استخلصت طشقند ان مساعدة القولابيين اكثر افادة لاوزبكستان من السماح للافكار الراديكالية بنشر نفوذها في ما وراء النهر.
دور اوزبكستان
وقال نيقولاي فلاديميروف الخبير الروسي في شؤون آسيا الوسطى: "ان اوزبكستان لعبت في الحرب الطاجيكية دور العم سام. فقد فتحت طشقند جبهة ثانية غرب طاجيكستان آخذة على عاتقها اعداد فصائل من سكان المناطق المجاورة لدوشانبه بقيادة الرئيس السابق للبرلمان سفر علي كنجايف.
وغيّر تدخل اوزبكستان في الحرب الاهلية في طاجيكستان ميزان القوى لمصلحة الجبهة الشعبية اذ مدت فصائلها ببضعة الاف من البنادق الرشاشة والمدافع واكثر من 50 وحدة من المدرعات بما فيها حوالي 20 دبابة من طراز "ت - 62" ودخلت الجبهة مع تشكيلات وزارة الداخلية المنحازة اليها دوشانبه في 10 كانون الاول ديسمبر وعقدت في خجند قبل ذلك بقليل دورة للسوفيات الاعلى لطاجيكستان صاغت قانوناً تحت ضغط قادة الفصائل المسلحة من قولاب وغيسار وسقط الائتلافيون وعزل ابن بامير اكبرشاه اسكندروف من رئاسة البرلمان. وبموافقة عشائر خجند ومباركة "ابي الامة" صفروف انتخب لرئاسة الدولة ابن بلد الاخير امام علي رحمنوف الذي اصبح بذلك اول قولابي يصعد الى قمة هرم السلطة في طاجيكستان.
عند مدخل مبنى وزارة الخارجية دقق جنود بملابس التمويه في بطاقة "الوسط" وسمحوا لي أخيراً بالدخول من دون ان يتضح لهم هل انا ديبلوماسي بريطاني ام مبعوث من احد الاقطار العربية لكن موظفي دائرة الاعلام الذين نبهتهم سفارة طاجيكستان في موسكو سلفاً الى مجيئي استقبلوني بترحاب بالغ وسلموني بعد ربع ساعة تماماً وثيقة تشهد انني معتمد رسمياً للعمل في الجمهورية.
وقال لي ظفار سعيدوف رئيس دائرة الاعلام: "اننا معنيون
بأن يعرف القراء العرب الحقيقة عن بلادنا، فاكتب كل شيء كما هو".
ان الحروب الاهلية لا تعرف الرأفة. وقال شهود عيان ان قوى الجبهة الشعبية قتلت منذ الاسبوع الاول لدخولها دوشانبه ما لا يقل عن 60 شخصاً هم في غالبيتهم من ابناء بامير وقره تيغين. وتبين ان عادة الاخذ بالثأر الموجودة في طاجيكستان اقوى من العفو العام الذي اعلنته الحكومة وكان الذين صدقوا حسن نية الغالبين اول من راح ضحية الارهاب الذي اجتاح شوارع العاصمة في كانون الاول ديسمبر 1992.
قال لي صحافي طاجيكي طلب عدم ذكر اسمه: "ان الناس كانوا يُقتلون على اساس مكان ولادتهم. وكان مجهولون يحملون عصابات حمراء يقتحمون البيوت ويدققون في اوراق الهوية، وينتشرون في وسائل النقل والشوارع... والذين يأخذونهم تضيع كل آثارهم"!
وانصبت اقسى الاضطهادات في الاسابيع الاولى من وصول عشيرة قولاب الى الحكم على الصحافيين ذوي الاتجاهات الديموقراطية وعلى اعضاء حزب النهضة الاسلامي. وهرب بعضهم ناجين بحياتهم الى روسيا وبعضهم الآخر الى افغانستان.
أرقام مخيفة!
ان ارقام الخسائر التي سببتها الحرب الاهلية هي من الهول بحيث تبدو بعيدة عن الحقيقة. يكفي القول ان اكثر من 80 في المئة من المصانع دمر تدميراً كاملاً في البلاد، ومئة في المئة في المناطق الجنوبية. وتدل الاحصاءات الرسمية الى ان ضحايا اقتتال الاخوة بلغ عددها في بضعة اشهر 50 الفاً، وفي رأي الخبراء المستقلين 60 - 70 الفاً. اما النازحون فهم واحد من كل ثمانية من سكان طاجيكستان، اي اكثر بكثير مما في يوغوسلافيا. وهرباً من الملاحقات لجأ اكثر من 60 الف طاجيكي الى افغانستان المجاورة، وحتى اليوم لم يعد منهم الا 20 الف شخص.
واصبحت موجة الاجرام حصيلة اخرى للحرب الاهلية التي عصفت بطاجيكستان. ففي صيف السنة الماضية اطلق اكثر من الفين من كبار المجرمين قبل انتهاء مدة عقوبتهم، وقفزت احصاءات القرصنة والنهب حالا الى 8 اضعاف، وجرائم القتل الى 4 اضعاف. وما زاد في تفاقم الوضع الجنائي ان ما بين 20 و30 الف وحدة من الاسلحة النارية وقعت، حسب المعطيات غير الرسمية، في ايدي السكان.
ويعمل إمام علي رحمنوف لاقامة النظام وتذليل الخراب الاقتصادي بأساليب يصفها بعض المتتبعين بأنها "جمع بين طرائق شيوعية الحرب وعناصر تحويلات السوق". ولكن اذا كانت حملة نزع السلاح، بما فيها تفتيش البيوت والسيارات الخاصة، تلقى الاستحسان لدى السكان فان ملاحقة المخالفين في الرأي والحد من حرية الكلمة يتركان في المجتمع جواً يبعث في الذاكرة ما ساد موسكو في سنوات "التطهير" الستالينية. فأحد المؤرخين المعروفين رفض رفضاً قاطعاً الرد على اسئلة "الوسط"، ظناً منه على ما يبدو، ان عدم الصراحة يسيء الى مكانته في العلم والصراحة قد تكلفه غالياً.
ائتلاف قبلي
ومنعت المحكمة العليا في تموز يوليو نشاط حزب النهضة الاسلامي وغيره من المنظمات المعارضة، ولا يعمل علناً اليوم في طاجيكستان الا الحزب الشيوعي الذي كان لثلاث سنين مضت يضم بين صفوفه 160 الفاً، لم يبق منهم الآن سوى 18 الفاً ليس لهم تأثير ذو بال على الحياة السياسية والاجتماعية. صحيح انه لا يزال قائماً في الحديقة المركزية في دوشانبه تمثال لينين الذي بقي سليماً بعد كل ما جرى، ولا تزال الاعلام الحمراء ترفرف فوق مباني بعض الدوائر في خجند، لكن هذا ليس كافياً بوضوح للقول ان النظام الشيوعي قام في طاجيكستان.
ولعل الاصح وصف النظام الحالي بأنه ائتلاف بين عشائر قولاب وخجند التي - والحق يقال - تبادلت الاماكن. ففي الماضي كان زعماء خجند يتولون دائماً الادوار الاولى، فيما يأتي القولابيون في الصف الثاني، اما الآن فان انتصار المقاتلين القولابيين على قوى المعارضة ضمن لهم منصب رئيس الدولة والسيطرة على البرلمان وبعض الوزارات الاساسية. وعلى صعيد آخر اصبح رجل الاعمال الخجندي الثري عبدالمالك عبدالله جانوف رئيساً للوزراء، وابن بلده رشيد عليموف المتحدر من أسرة لقضاة الشرع ذات نفوذ نال وزارة الخارجية.
ولما كان النظام الحاكم يلقى التأييد من سكان منطقتي غيسار وتورسون زاده الواقعتين الى الجنوب والغرب من دوشانبه والمأهولتين على الاكثر بالاوزبكيين، فان هذا التأييد يضمن له رضا طشقند الضروري جداً له في الوضع الصعب الحالي. ومن جهة اخرى لعب نظام رحمنوف ورقة "الاصولية الاسلامية" التي تهدد، حسب الزعم، ليس فقط 300 الف من سكان طاجيكستان الناطقين الروسية، بل ايضاً أمن روسيا نفسها. وبذلك استطاع ان يجر الى جانبه الاوساط المتنفذة المحافظة والعسكرية في موسكو. وهذا يعني انه ما دامت روسيا تعتبر الحدود الطاجيكية - الافغانية حدودها الجنوبية هي وتستبقي في طاجيكستان الفرقة المظلية الجوية ال 201، فمن المستبعد ان تستطيع المعارضة الطاجيكية تحقيق تفوق عسكري على دوشانبه.
بدخشان حفيدة الاسكندر
اضافة الى الحدود الطاجيكية - الافغانية التي تشهد مواجهات عنيفة بين المجاهدين الطاجيك وحراس الحدود الروس، تسبب منطقة بدخشان الجبلية ذات الحكم الذاتي ايضاً وجع رأس لدوشانبه. وهذه المنطقة تقع في اماكن جبلية عالية من بامير، وتشكل تقريباً نصف مساحة طاجيكستان.
ومع ان سكان بدخشان البالغ عددهم 180 الفاً هم من المجموعة الايرانية الشرقية نفسها التي ينتمي اليها الطاجيك فبين هؤلاء واولئك فروق ليس فقط في اللغة، بل ايضاً في الهيأة وينظر الجبليون الباميريون عادة الى طاجيك السهول بشيء من التفوق زاعمين انهم هم احفاد اسكندر المقدوني الوحيدون في آسيا.
لكن الاهم من هذا ان سكان بدخشان هم من اتباع المذهب الاسماعيلي، خلافاً للطاجيك السنة الحنفيين. ويعتزون بأنهم لم يخضعوا مرة في تاريخهم لامراء الدول المجاورة. لكن الشيوعيين كانوا، بلا شك، اكثر توفيقاً من حكام آسيا المركزية المسلمين لأن بدخشان اعلنت منذ سنة 1925 منطقة سوفياتية ذات حكم ذاتي واطلق على أعلى قمة في جبال بامير اسم "قمة الشيوعية" التي لا تزال باقية حتى الآن.
في النصف الثاني من تشرين الاول اكتوبر يتساقط الثلج على شعاب بامير الجبلية، وتبقى بدخشان حتى ايار مايو معزولة عن العالم، معتمدة فقط على المؤن التي تنجح في تخزينها قبل بدء البرد. وكانت المواد الغذائية والوقود الضرورية للجبليين من اجل تحمل الشتاء القاسي يؤتى بها الى هنا كل سنة بالشاحنات في اشهر الصيف. لكن قسماً كبيراً من ال 170 الف طن من الأحمال التي خصصتها حكومة دوشانبه لبدخشان هذا الصيف بقي في المستودعات لأن طريق السيارات الوحيد الموصل بين العاصمة الطاجيكية وحاضرة بدخشان مدينة خوروغ، وقع تحت سيطرة فصائل المعارضة المسلحة. وعند وصول قافلة القوات الحكومية المرافقة للسيارات الى احد المضائق الجبلية في ناحية تافيلدارا قوبلت هذه بالنار من المرتفعات المطلة على الطريق.
منذ مطلع السنة عقدت بين دوشانبه ومجلس بدخشان اتفاقية ودية تعهدت بموجبها الحكومة المركزية عدم ادخال القوات الى المنطقة شرط أن تضمن سلطات خوروغ أمن الطريق الجبلي، ويسلم سكان المنطقة ما في حوزتهم من اسلحة. ولكن عندما تزايد في مناطق بامير الجبلية عدد مقاتلي المعارضة الهاربين من الملاحقات ووصل عدد النازحين الى 60 الفاً، اصبح واضحاً ان الوضع السياسي في دوشانبه تغير لغير مصلحة العاصمة.
وفي محاولة لفتح الطريق على الاقل حتى مضيق خابوراباد الجبلي الذي يفصل بدخشان عن سائر انحاء طاجيكستان، نفذت القوات الحكومية في آب اغسطس عمليات كبيرة في منطقة بلدة تافيلدارا. وقال ضابط طاجيكي ل "الوسط": "من الضروري ان نوصل المواد الغذائية والوقود ولو الى المضيق الجبلي، لأن المعارضة التي تقطع الطريق ستؤلب السكان علينا متهمة دوشانبه بتجويعهم عن قصد".
لكن المشكلة لا تنحصر بفك الحصار عن الطريق فقط، فهناك خطر ليس اقل من هذا، من وجهة نظر دوشانبه، كامن في ان قطاع الحدود الطاجيكية - الافغانية المار بأراضي بدخشان لا يمكن بسبب التضاريس الجبلية الصعبة حمايته كما يجب، ومنه تعبر المخدرات والاسلحة تقليدياً من افغانستان.
وقال ل "الوسط" العقيد اناتولي ييفليف نائب قائد الفرقة الروسية ال 201: "اننا نظن ان مقاتلي المعارضة يتسللون الى طاجيكستان عبر دروب بدخشان الجبلية الصعبة. واذا لم نتخذ الاجراءات في الوقت المناسب، فقد تصبح منطقة بامير رأس جسر تقفز منه المعارضة الى دوشانبه".
وعند الحديث عن الاجراءات التي يجب اتخاذها لمنع تصعيد التوتر، وربما لمنع اندلاع جديد للحرب الاهلية، تأمل موسكو في الدرجة الاولى بامكان تحقيق هدنة او، على الاقل، تنازل متبادل بين الطاجيكيين انفسهم. وعندما جرى في موسكو في 7 آب لقاء بين الرئيس بوريس يلتسن وزعماء جمهوريات آسيا المركزية الاسلامية أوصي رحمنوف في الحاح بالدخول في حوار مع المعارضة.
وقال ديبلوماسي روسي كبير ل "الوسط": "لا اعتقد بأن المشاركين في لقاء موسكو يتصورون ما يمكن الاتفاق عليه بين حكام دوشانبه الحاليين ودولت عثمان - مثلا - الذي قتلوا له اباه وذبحوا كل افراد اسرته. وعندما غادروا موسكو كانوا جميعاً يشعرون بالتفاؤل، باستثناء رحمنوف الذي بدا مكتئباً".
وتفسير مزاج رحمنوف السيىء هو انه الوحيد من بين كل المشاركين في قمة موسكو يعرف سلفاً ان المعارضة الطاجيكية لن ترضى بأي تنازل متبادل معه. ويبدو ان التاريخ حكم عليه بأن يكون رهينة النصر الذي دفع ثمنه غالياً جداً.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.