بن دليم الرحيل المُر    الجدعان: الاقتصاد العالمي يتجه لهبوط سلِس    البنك الدولي: المملكة مركزاً لنشر الإصلاحات الاقتصادية    إعفاء "الأهليات" من الحدّ الأدنى للحافلات    إخلاء طبي لمواطنة من كوسوفا    ماني: إهدار ركلة الجزاء لم يزعجني.. وهذا سر الفوز    الحزم يتعاقد مع المدرب صالح المحمدي    حمدالله: تجاوزت موقف المُشجع.. وصفقات الهلال الأفضل    أجواء ماطرة في معظم المناطق    بوابة الدرعية تستقبل يوم التراث بفعاليات متنوعة    نجران.. المحطة العاشرة لجولة أطباق المملكة    "الأمر بالمعروف" في أبها تواصل نشر مضامين حملة "اعتناء"    محافظ جدة يواسي آل السعدي في فقيدتهم    «أمانة المدينة» تعلن عن توفر عدد من الوظائف‬ للرجال والنساء    الخريجي يلتقي نائب وزير الخارجية الكولومبي    أسرتا باهبري وباحمدين تتلقيان التعازي في فقيدتهما    رئيس "الغذاء والدواء" يلتقي شركات الأغذية السنغافورية    الوحدة يحسم لقب الدوري السعودي للدرجة الأولى للناشئين    حرس الحدود ينقذ مواطنًا خليجيًا فُقد في صحراء الربع الخالي    الرياض: الجهات الأمنية تباشر واقعة اعتداء شخصين على آخر داخل مركبته    سلام أحادي    اختيار هيئة المحلفين في المحاكمة التاريخية لترامب    تجمع مكة المكرمة الصحي يحقق انجاز سعودي عالمي في معرض جنيف الدولي للاختراعات 2024    أرمينيا تتنازل عن أراضٍ حدودية في صفقة كبيرة مع أذربيجان    حائل.. المنطقة السعودية الأولى في تطعيمات الإنفلونزا الموسمية    التعريف بإكسبو الرياض ومنصات التعليم الإلكتروني السعودية في معرض تونس للكتاب    وفاة الممثل المصري صلاح السعدني    المرور بالشمالية يضبط قائد مركبة ظهر في محتوى مرئي يرتكب مخالفة التفحيط    نوادر الطيور    مدرب الفيحاء: ساديو ماني سر فوز النصر    موعد مباراة السعودية والعراق في كأس آسيا تحت 23 عامًا    أمير عسير يتفقد مراكز وقرى شمال أبها ويلتقي بأهالي قرية آل الشاعر ببلحمّر    وزارة الخارجية تعرب عن أسف المملكة لفشل مجلس الأمن الدولي    الرمز اللغوي في رواية أنثى العنكبوت    ضيوف الرحمن يخدمهم كل الوطن    بطاقة معايدة أدبية    المملكة ضمن أوائل دول العالم في تطوير إستراتيجية وطنية للذكاء الاصطناعي وفقًا لمؤشر ستانفورد الدولي 2024    "الرياض الخضراء" يصل إلى عرقة    السديري يفتتح الجناح السعودي المشارك في معرض جنيف الدولي للاختراعات 49    إخلاص العبادة لله تشرح الصدور    أفضل أدوية القلوب القاسية كثرة ذكر الله    اكتشاف خندق وسور بجدة يعود تاريخهما إلى القرن 12 و13 الهجري    مساعد وزير الدفاع يزور باكستان ويلتقي عددًا من المسؤولين    كلوب: ليفربول يحتاج لإظهار أنه يريد الفوز أكثر من فولهام    ضبط مقيم بنجلاديشي في حائل لترويجه (الشبو)    بينالي البندقية يعزز التبادل الثقافي بين المملكة وإيطاليا    "أبل" تسحب واتساب وثريدز من الصين    الزبادي ينظم ضغط الدم ويحمي من السكري    التلفزيون الإيراني: منشآت أصفهان «آمنة تماماً».. والمنشآت النووية لم تتضرر    توقعات الأمطار تمتد إلى 6 مناطق    فوائد بذور البطيخ الصحية    السودان.. وخيار الشجعان    تخلَّص من الاكتئاب والنسيان بالروائح الجميلة    غاز الضحك !    أمير الباحة: القيادة حريصة على تنفيذ مشروعات ترفع مستوى الخدمات    محافظ جدة يشيد بالخطط الأمنية    أمير منطقة الرياض يرعى الحفل الختامي لمبادرة "أخذ الفتوى من مصادرها المعتمدة"    أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على محمد بن معمر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المدينة الوردية التي رسمها خيال مجنح ونقشت أبنيتها على الصخر بالأزميل . رحلة عبر الزمان والمكان الى "البتراء" الأردنية
نشر في الحياة يوم 10 - 05 - 1993

مدينة البتراء المعروفة بصروحها الفريدة، لم تحظ حتى الأمس القريب بالرواج نفسه الذي تتمتع به مواقع أثرية اخرى كتدمر او الأقصر مثلاً، مع انها تضاهيها جمالاً، لكن الاهتمام بعاصمة "الانباط" التي انشئت في القرن الرابع ق. م.، بدأ يتزايد في الآونة الاخيرة: كتاب يضم نصوصاً عربية من وحي "قلعة الاسرار بألوان قوس القزح"، وصوراً فنية تخلد تلك المعالم النادرة، ومعرض عالمي سيتنقل بين باريس "معهد العالم العربي" حتى 20 حزيران/ يونيو وعمان وعواصم أخرى. "الوسط" استنطقت الصخر وغاصت في ذاكرة مملكة الانباط التي طواها النسيان.
على مطل البتراء، تختبر قدرتك على التغلغل في هذا الألق التاريخي البهي. ولا تدري، واللهفة تقود خطاك، فيما عيناك تستبصران الخط الرهيف الفاصل ما بين تورد الصخر على خد الارض، وبين تورد الشفق على خد الفضاء، أين تبدأ اليقظة، وأين ينتهي الحلم في ولوج متعة الرؤية.
وقد تستحضر من كنوز التراث الانساني، ومن مكامنه الاسطورية الشفيفة، حكاية رسام شرقي قديم، متفرد في فنه، رسم لوحة بديعة، ثم ترك في صدر اللوحة باباً، أبقاه مفتوحاً. وحين أنهى عمله، وتأمله فراق له، خطا وعبر الباب، وأغلقه وراءه، وغاب وراء اللوحة الفريدة، لتبقى هي أمانة في عهدة المستقبل.
فهل بلغ شعب "الانباط" حديث هذا المبدع، ففعلوا مثلما فعل، بعد ان ابتدعوا هذا الأثر الفريد الباقي، وتركوه وديعة على صدر الزمن، ثم عبروا باب التاريخ، وغابوا وراءه؟
وهل هذا ما أوحى للشاعر الانكليزي دين بيرغن، حين نظم شغفه بالبتراء في قصيدة؟ يقول فيها:
"مدينة البتراء، ليست من صنع الانسان
ولا نفذت بجهده
بعد أن رسمها خيال مجنح...
هكذا تبدو،
ولكنها من الصخر ولدت ونمت
خاشعة، جميلة فريدة ....
لونها الوردي القاني،
كأن حمرة الشفق الحبيسة
التي أمسكت بها منذ البدء، ما زالت
تخضبها، ولم تغادرها بعد.
وَردُ الشباب، على جبين علته ملامح الألم انسان عدّ قديماً
عمره ألفا سنة
زرع هذه الرائعة في تربة الشرق
مدينة وردية،
عمرها نصف عمر الزمن".
فبأي الرغبات تقدر، أنت ابن العصر المثقل، المعنى، ان تلج هذا السر؟ وهل لغير الشغف ان يقود خطوك اليه، وفي خاطرك يتردد رجع صدى لمغناة قديمة عن الزمان والمكان والانسان، تركها الأنباط في قلب الصحراء، قبل ان يطووا تاريخهم ويرتحلوا؟...
وللبتراء مع اسمها العربي، "الحجرية العربية"، نكهة اخرى. فبعض الاماكن، ومنها البتراء، تحس فيها ومعها بنكهة القهوة العربية، كلما ارتشفت منها ازدادت حواسك تنبهاً وتيقظاً. وقد تستذكر القول بأن "المتناهي في الصغر، هو احد مكامن العظمة". والبتراء، لم تكن متناهية في الصغر، ولكنها كانت أصغر ممالك زمانها، وعلى صغرها كانت الاكثر إيحاء بالعظمة، عظمة الاحساس المتفرد بالذات.
وربما لم يتبادر الى ذهن "أنباطها"، بأن تعريفاً للفن سيأتي بعد زمنهم، يكون ببساطته ودلالته قادراً على تمثل ما فعلوا، وهو ان الفن "هو الطبيعة مضاف اليها الانسان". لكنهم قبل عشرين قرن، من هذا التعريف جسّدوه بعفوية وهم يشيدون مدينتهم، حين مزجوا بين بهاء الطبيعة، وبين إبداع الانسان المتكيف معها، فتركوا وراءهم ما يحير العقل، ويُعجز الوصف. وككل مكابدة فنية حقة، اختاروا الأصعب ليصلوا عبره الى الأجمل.
فقد كان صخر البتراء، وسط الصحراء، كابي القشرة، ولكنه يخبئ اسرار ألوانه في قلبه. فرفع الانباط غشاء الصخر لينفذوا الى قلبه. على أيديهم أينع وتفتح، وتفجرت من احشائه الألوان فتموج واستنزلوا أقواس القزح عن رف الأفق وفرشوها على جدرانهم وسقوفهم الصخرية.
الطريق الى قلعة الاسرار
ألم يقف ادوارد لير، وهو الرسام والرحالة والكاتب الآتي الى الشرق بشغف، امام البتراء ذات يوم من العام 1859، مبهوراً، مخطوف الانفاس، وحين تمكن من استجماع قدرته على التدوين والوصف أقر بالعجز فكتب: "ان الجاذبية المتصاعدة من اختلاط العمارة المفرطة، تولد شعوراً صريحاً بالوحدة وسط مناظر تحكي ببساطة عظمة الماضي والأيام الغابرة. وقد اختلطت لتكون زخماً من جمال المنظر الذي يعجز أبرع قلم عن نقله الى العين او العقل".
كثيرون غير ادوارد لير مرّوا بالبتراء فوقعوا في شباك فتنتها، وأصبحوا اسرى لها، ولم يتمكنوا من التخلص من حضورها في اعماقهم بعد ذلك. بعد قرن ونصف من مرور لير، جاءها إيان براوننغ، فصعقه إيقاع الزمان ورقعة المكان، تجاذب الضوء والظل، وكتب تحت تأثير الصدمة: "وهنا في هذه البراري الكثيرة الصخور، تتوارى البتراء، متحدية قدرتنا على التذوق. والرونق الذي يلف البتراء، مصدره مزيج من هذا الفن الذي لا يبارى، ومن الخلفية التي تطوقه، كما يعود ايضاً الى الضوء والظل اللذين يغمرانها متنقلين بين مبانيها".
فالبتراء، ذات النكهة الخاصة المميزة لا تزال، رغم عمرها الموغل في القدم، قادرة على تجديد لعبة الغواية بينها وبين زائريها مع كل اطلالة جديدة. فكلما جئتها، تبدأ معها لعبة التجاذب، بدءاً من الدهشة، وصولاً الى الألفة فالمحبة. ومن المستحيل ان تستقر بينكما حالة من الركود او الرتابة التي تفرضها العادة.
حين سألت زائراً سويسرياً، كثير التردد على البتراء، لماذا يأتيها كل عام، أجاب: "ليس لأنني من بلد "بروكهارت" فحسب، بل لأنني احبها". وتساءلت عن هذا الحب، ألا يبلى، او يذبل؟ فأجاب: "بل يتجدد، ويزداد يناعة في كل مرة".
فكيف تقوى هذه المدينة الجامدة في الصخر، وسط الصحراء، ان تتجدد مع كل لقاء؟ وما سر هذه الرعشة الجمالية التي تضع فرادتها بين كنوز التاريخ القديم؟
لانكستر هاردنغ الذي قاربها مقاربة حميمة وطويلة الأمد، ظل يقول متحدثاً عن "الخزنة": "لا أعرف على الاطلاق منظراً يساوي في روعته المسرة الاولى التي تشاهد فيها هذه الواجهة الضخمة المنحوتة من الصخر، وهي تتوهج وتتألف في ضوء الشمس الساطع، بعد ان يخرج المرء من ظلمة الشق العظيم الذي يؤدي الى المدينة".
نطل على البتراء من "السيق" وهو نفق ضيق بين كتلتين صخريتين، فتذهلنا قدرتها على التخفي والتكشف معاً، مع كل رمشة عين، او رعشة حس. فهي تومض بإيحاءاتها، قبل ان تنجلي كلية لناظرها. وكل حُسن في الطبيعة، وفي الحياة، يكون بلوغه صعباً وعصياً، الا لمن يكابد الشوق واللهفة، ويبذل الجهد.
فال "سيق" يمتد ويمتد، فيحسن الزائر بضعفه في حضرة الطبيعة الصخرية القاسية. لكنه ضعف المحب وهو يقترب من بيت حسنائه، قبل ان تبهره بتجليها على اتساع حدقة العين. وبعد اجتياز هذا المعبر الضيق تطالعك "الخزنة" لتملأ حواسك بالنشوة او الخدر. وهذا الحصن الطبيعي، جعل البتراء تصمد عبر التاريخ، وجعلها عصية على الاعداء في زمنها، وعلى الزائرين في زمننا تعذبهم بنار الرغبة والشغف... وهل تبلغ الفتنة الا بعد مكابدة؟
فبعد "السيق"، يتجلى الاثر الابدع والازهى: الخزنة. اذا خانتك الكلمات، فلتستعر من هاردنغ ما كتبه في وصف هذا الأثر: "وعندما يبدو للمرء ان لا نهاية لهذا المضيق الملتوي يقف فجأة، وقد تملكته الدهشة، اذ يلمح في مواهته جانباً من واجهة بالغة الروعة، تزينها الأعمدة والتماثيل... حينذاك، يخرج من عتمة "السيق" الى حيث الشمس الساطعة تغمر بضوئها واجهة اعظم المنشآت الاثرية في البتراء... "الخزنة". يا له من منظر لا ينسى طيلة العمر. لأن الصخر هنا بلون الورد الأحمر حقاً، وتراه يتألق عندما تشرق عليه الشمس كأنما ينبعث الشعاع من جوانبه... وقد نقرت "الخزنة" في صميم الصخر، مثلها، مثل بقية المنشآت الكبرى في البتراء...".
من "الخزنة"، أولى المنشآت الاثرية المهمة وأجملها، الى "الدير" آخر هذه المنشآت وأضخمها، تتدرج دروب البتراء، وتتعاقب الصور وتتفاعل المشاعر في النفس. من "المدرج" الى "طريق الأعمدة" ف "المذبح" و "بوابة نيمينوس"، تتوالى المحطات: "المحكمة"، "ضريح الجرة"، "الضريح الكورنثي"، "ضريح القصر"، "ضريح فلورنثينس"، وغيرها من المواقع التي تعكس نمطاً فنياً واسلوباً هندسياً وملامح فريدة تنتمي الى نسق جمالي واحد، ولو ان عوامل الزمن والطبيعة قد عدلت في بعض تفاصيلها الدقيقة احياناً... كل الآثار منقوشة في الصخر، وتعبير "النقش" هو الملائم لوصف البتراء، وليس الحفر، اذ تتجلى من هذا الجهد المعماري في اشتغال الصخر وتكييفه، لحظة ابداعية فنية نادرة.
القصر المغاير
وحده "قصر البنت"، يلوح مغايراً وناشئاً في هذا الرقش الصخري الممتد. فوحده مع البوابة التي تتقدمه، مبني بحجارة منقولة ومصفوفة، وليس منقوشاً في الصخر، كسائر المعالم. وقد اكتشفت الرحالة موزل اسطورة عن أميرة سكنت ذلك القصر، وكانت تتألم من عدم توافر المياه الجارية، فوعدت بالزواج من يؤمن للبتراء جريان الماء. فتقدم احد المرشحين ونجح في جر الماء، وفاز بقلب الاميرة. لكن الاسطورة لا تنطبق في الواقع على تاريخ البتراء. اذ ان الانباط تميزوا بأنهم اشهر واقدم مصممي ومهندسي شبكات توزيع المياه في التاريخ، فحسب المؤرخ فيليب حتي: "حذق هذا الشعب الهندسة المائية، واستنبط الوسائل لحفظ ماء المطر القليل الذي يسقط في جوار مدينته الصحراوية".
وكيف كان للبتراء، ان تنبت من الصخر في قلب الصحراء، لولا تفرد ذلك الشعب بقدرة متميزة في التعامل مع المياه؟ فحتى اليوم ما زالت دلائل قدرة ذاك الشعب القديم في تخزين المياه وجرها بفضل تمديدات وأقنية تعبر الصخر، تثير عجب اهل هذا الزمان.
يقول المؤرخ فيليب حتي، في كتابه "خمسة آلاف سنة من تاريخ الشرق الادنى" حين يذكر البتراء ضمن منظومة المدن العريقة: "ان البتراء تدين بنشأتها وبازدهارها لحقيقة جغرافية كونها المكان الوحيد بين الحجاز وفلسطين فيه الماء العذب القراح". وقد استطاع الانباط ان يجروا الماء من داخل البتراء الى خارجها، وشاع انهم سموا "نبطاً"، لكثرة النبط عندهم وهو الماء، او لاستنباطهم الماء وإنباطهم الآبار.
"الأنباط" قوم من جبلة العرب
ويقول يوسفوس: "ان الانباط يمتازون باعتدالهم وجدهم، حتى انهم يفرضون عقوبة علنية على كل شخص تتناقض ثروته. اما الذي ينمي ثروته فيزداد تكريماً وشرفاً. ومساكنهم منشآت ضخمة من الحجر، ومدنهم محاطة بالأسوار بسبب حالة السلم والأمن السائدة في بلادهم. فالازدهار والسلم والأمن، ركائز المدينة النبطية في البتراء، وغيرها من مدنهم".
غير ان الدكتور جواد علي، يربكنا، حين يقول في مؤلفه القيم "المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام": "ان مملكة النبط مملكة عربية، لم يعرف الاخباريون من أمرها شيئاً...". اذ سرعان ما ينسى عبارته الملتبسة، في الفصل الخاص بهم، وفيه الكثير من اخبارهم وأخبار مملكتهم، عبر استقراء ما تركوه من أثر، واستذكار ما قاله فيهم وعنهم مؤرخو العهود القديمة، فيستطرد قائلاً: "النبط قوم من جبلة العرب، وان تبرأ العرب منهم".
ويتابع جواد علي مؤكداً انهم "تثقفوا بثقافة بني إرم، وكتبوا بكتابتهم، وتأثروا بلغتهم، حتى غلبت الإرامية عليهم. وأنهم خالفوا سواد العرب باشتغالهم بالزراعة والرعي وباحترافهم للصناعات اليدوية، وهي حرف يزدريها العربي الصميم". وتكمن عوامل ظهور النبط وغلبتهم على المنطقة التي عرفت بهم، وتكوينهم دولة، في اسباب وأسس اقتصادية، فقد تمكنوا من استغلال موقع بلادهم لمرور شرايين التجارة فيها بين جنوب الجزيرة العربية وبلاد الشام. كما قاموا بالوساطة في نقل التجارة بين بلاد الشام ومصر ومواضع من جزيرة العرب، فدرت هذه الوساطة عليهم اموالاً طائلة جعلتهم من الشعوب العربية الغنية".
وكان الانباط أتوا من شمال الجزيرة للاستقرار في تلك المنطقة الصخرية المنيعة التي تعرف باسم "العربية الحجرية".
Arabia Petraea، خلال القرن الرابع ق. م. ويتناول جواد علي في الفصل الخاص بالبتراء، اساليب حياتهم، وأصولهم، وحروبهم، خاصة مع الرومان، وحدود مملكتهم في تمددها وفي صخورها، وملوكهم: "عبّادة" الاول والثاني والثالث، و "الحراث" الاول والثاني والثالث والرابع أقواهم، و "مالك" الاول والثاني، ونقودهم وحرفهم الصناعية. مستشهداً بالكلاسيكيات التاريخية التي دونها عنهم يوسيفوس، وديودورس وسترابو، وغيرهم من مؤرخي ذاك الزمان، الذين يجمعون على وصف الانباط بأنهم "تجار أقاموا في بيوت من حجر، واشتغل قوم منهم بالزراعة". وأظهروا مقدرة فائقة وكفاية لا تقدر في تكييف انفسهم وأخذهم بالأساليب الحديثة في الحياة، وتمكنوا من استغلال ارضهم وما فيها من موارد طبيعية. وحذقوا في الصناعات الحرفية الى جانب التجارة والزراعة، بحيث اصبحت مملكتهم من أغنى الممالك في محيطها وزمانها.
وبهذا الازدهار الاقتصادي، تفتحت عاصمتهم البتراء، المدينة الوردية وسط الصحراء. على ان تلك الوردة التاريخية، كانت محمية بشوكها الطبيعي الجارح الذي يحميها من الاعداء والغزاة والطامعين. فالأنباط الذين كانوا يجنحون بطبعهم الى السلم والاستقرار والامن في قلب مدينتهم الصخرية المنيعة، لم يأمنوا عواصف الصراع الهوجاء التي كانت تهب عليهم لاقتلاعهم. وجعلهم صراع الامبراطوريات الكبرى من حولهم عرضة دائمة للحروب.
فروما كانت تفرض نظامها على العالم آنذاك، وقد وجهت اطماعها الى البتراء، التي تمتعت بجيش تمكن في اكثر المواقع من الانتصار، وتمكن من توسيع رقعة المملكة الى سورية في الشمال وفلسطين في الغرب والجزيرة العربية في الجنوب. فعندما "ازداد هذا الشعب وعظمت ثروته، ازداد ملوكه قوة وسلطاناً، فراحوا يوسعون حدود مملكتهم" على ما يذكر فيليب حتي.
ومنذ غزوة أنتيجون انطيغوس - 306 - 301 ق. م. التي صدها الأنباط، ومنذ انتصارهم على بومباي بومبيوس وصد هوجمه عنهم، وحتى هجوم تراجان الصاعق وضربته القاضية 105م، ظلت الصراعات تعصف بالبتراء، الى ان تمكنت روما التي ما كانت لتطيق رؤية دولة قوية شبه مستقلة تقف في مواجهتها خارج هيمنتها من البتراء، فاستولى عليها تراجان عام 106م وضربها.
وبعد ان بلغت ذروة القوة والازدهار في القرن الاول للميلاد، "عفى الزمن على هذه العاصمة الرائعة، فطواها الدهر وأصبحت اثراً في سجل الحضارة الانسانية".
أما سترابو مؤرخ القرن الميلادي الاول، فنظر الى ملمح آخر من ملامح المدينة النبطية، فذكر ديموقراطية الحكم، وربما تكون اكمل ديموقراطية تطبيقية وتلقائية لم تفرز فكراً، عرفها التاريخ القديم، كما نستشف من هذا التوصيف الدلالي: "ان الأنباط لا يقتنون إلا عدداً قليلاً من العبيد، وهم يخدمون بعضهم بعضاً، ويخدمون انفسهم بأنفسهم. حتى ان الملوك يتبعون هذه العادة. والملك بالاضافة الى خدمة نفسه، فإنه يقوم بخدمة الآخرين، كما انه كثيراً ما يقدم حساب نفقاته الى الشعب، وأحياناً كثيرة يجري التدقيق في مسلك حياته".
أفول مملكة النبط
ولا بد من ذكر ثلاث نساء شهيرات عبرن بشكل او بآخر تاريخ البتراء: هيروديا التي تسببت بحرب بين هيرودوس ملك يهودا والحارث الرابع ملك الانباط. كليوباترا التي نالت البتراء "كهدية" من الامبراطور الروماني. وأخيراً زنوبيا التي استطاعت بحنكتها وبمساعدة الرومان، ان تحول طرق القوافل التجارية من البتراء الى مملكتها الطالعة تدمر. فعندما "أذنت شمس البتراء بالأفول - يكتب المؤرخ فيليب حتي - أشرقت شمس مدينة اخرى من مدن القوافل، هي تدمر".
غير ان افول نجم البتراء، بدأ قبل ذلك، حين تخلى الانباط عن ذاتهم الحضارية ووقعوا تحت تأثير الحضارة اليونانية، غافلين عن المطامع التي تهدد كيانهم... فأخذت تبهت ملامحهم المميزة، حتى ان الملك النبطي بعدما كان يلقب ب "محب شعبه"، اصبح يلقب ب "محب الرومان"...
وراحت البتراء تنزلق الى حضن الامبراطورية الرومانية، الى ان قضت هذه عليها نهائياً. و "نامت البتراء الجميلة - يكتب لويس مخلوف - نوماً طويلاً، واستسلمت لأشعة الشمس وللرياح العاصفة منتظرة من يتمتع بجمالها ويتأمل في تاريخها".
فهل ظلت طوال هذه القرون، تنتظر اطلالة الرحالة المكتشف بروكهات، السويسري - الانكليزي، في مروره السريع بها، على درب انتقاله ما بين الجمعية الجغرافية الملكية في بريطانيا، وبين قلب افريقيا، ماراً ببلاد الشام متمهلاً فيها، لتعلم اللغة العربية واجادتها؟ فقد مرّ الرحالة وهو في طريقه الى مصر، بجنوب الاردن، وكان سمع عن المدينة الصخرية المختفية، وقرأ عنها... وكان ان ساهم في اعادتها الى دائرة الضوء، والى اهتمام العالم.
وعبر زمن اغفاءتها التاريخية، كانت البتراء الاثرية تتكشف وتستتر، والا فكيف لهذا الجمع من المؤرخين المتباعدين زمناً، ان يذكرها كل منهم في زمنه. فقد ذكرها ياقوت الحموي. وذكرها النويري فأسهب في وصفها عند مرور الظاهر بيبرس بها عام 1276: "حفر في الجبل، ذات شكل رائع، ومساكن مزدانة بالأعمدة، وواجهاتها تزينها النقوش المحفورة في الصخر بالأزميل، ولم يبن اي من معالمها بناء، وانما حفرت بالأزميل".
اما لقاء بروكهارت بالبتراء، فيلقي ظلالاً من الشك على مصداقية زعمه انه لم يكن يعرف عن البتراء، إلا عند وصوله الى المنطقة. وان ما سمعه عنها ورد على ألسنة اهل المنطقة. اذ تكشف الاوراق التي دون فيها رحلته، عن علمه المسبق بوجودها، وانه تقصد المرور بها، وقال من اجل ذلك:
"ان الطريق التي تعتبر صالحة الى حد ما، والتي يمكن ان تصبح مطروقة بسهولة حتى للمشاة، تقع شرق وادي موسى. ولهذا فإن عزوفي عن سلوكها لمجرد رغبتي الفضولية في مشاهدة وادي موسى، يبدو مريباً. ولهذا ادعيت بأنني اود زيارة ضريح هارون الذي كنت اعلم انه يقع عند طرف الوادي، وبهذه الحيلة تتوفر لي الوسيلة لمشاهدة الوادي في طريقي الى الضريح".
وكان بوركهارت يعرف ان آثار البتراء تقع في الوادي الذي يذكره. فبعد ان يشرع في تنفيذ حيلته، يهتف: "وهنا تبدأ الآثار". دون ان يسمع هتافه حتى دليله العربي الذي كان يعرف اين تبدأ، وأين تنتهي آثار البتراء. وبعد ان يورد بوركهارت وصفاً تفصيلياً، لما شاهد من آثار البتراء، يدوّن:
"عند مقارنة بينات المؤلفين المتضمنة في كتاب فلسطين لرولاند، يبدو من المرجح كثيراً ان تكون الخرائب في وادي موسى هي خرائب البتراء القديمة. ومما يلفت النظر قول يوسييوس ان ضريح هارون يظهر قرب البتراء. وأنا على الاقل مقتنع من كل ما استخلصته من معلومات انه لا توجد اية خرائب اخرى ذات اهمية بين طرفي البحر الميت والبحر الأحمر تنطبق على تلك المدينة، وسواء اكتشفت بقايا عاصمة البتراء العربية، او لم اكتشفها، فانني اترك الحكم في ذلك للعلماء اليونانيين".
وبعد نشر اوراق رحلة يوهان لودفيغ بوكهارت الذي مات ودفن في القاهرة باسم الشيخ ابراهيم المهدي بن عبدالله بوركهارت اللوزاني نسبة الى لوزان، بعد ان اسلم... ارتبط اسم البتراء باسمه، اذ حك ذاكرة التاريخ وأيقظها، فانفتحت أعين العالم، وانهرت بهذه المدينة الصخرية الوردية الصحراوية، الفريدة بين حواضر كل زمان وكل مكان.
أما انت، فتخرج من البتراء، عائداً الى زمانك ومكانك، ومشاغلك اليومية، دون ان تتمكن من الافلات من غوايتها وأسرها، وكما فعل الرسام القديم، تفتح باباً في اللوحة الفاتنة وتعبره، دون ان تعكر صفو الخطوط والألوان، حاملاً معك الانفعالات الحميمة، وهنيهات الدهشة والانخطاف اللذيذ.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.