بدا لي غريباً عنوان الكتاب الجديد لعبدالله الجفري: "الزيدان - زوربا القرن العشرين" منشورات مؤسسة عكاظ في جدة، وتساءلت قبل قراءته: اية علاقة بين اديب سعودي هو الراحل محمد حسين زيدان وشخصية رئيسية في رواية "زوربا" للكاتب اليوناني نيكوس كازانتزاكيس؟ فلما قرأت الكتاب أدركت فكرة العنوان: ان الشخصية الخيالية التي صوّرها كازانتزاكيس في روايته تعبر عن الحرية الداخلية لدى الانسان، حرية تجعله يتعامل مع المعرفة في جانبها الملموس والحقيقي ويطلقها حجة بسيطة ودافعة في وجه التعقيد، وهكذا كان محمد حسين زيدان حراً يحتفي بالحياة ويتحلى بالشجاعة وراحة الضمير، وبشيء من الاستخفاف بمتاع الدنيا يعبّر عن إيمان عميق. وكتاب عبدالله الجفري تحية وفاء الى الاديب السعودي محمد حسين زيدان الذي توفي في جدة في الثاني من ايار مايو 1992، فصول من العاطفة، وبيان للنقاط الاساسية في شخصية زيدان وأدبه يمكن للدارسين ان ينطلقوا منها للاسهاب في تحليل حياة زيدان وأعماله. وكان صدر للاديب الراحل قبل وفاته بأيام كتاب عنوانه "المخلاة"، أما سائر اعماله المطبوعة فهي: سيرة بطل 1967، رحلات الاوروبيين الى نجد وشبه الجزيرة العربية 1977، محاضرات وندوات في التاريخ والثقافة العربية 1978، النهج المثالي لكتابة تاريخنا 1978، المؤتمر الاسلامي هو البديل المثالي للخلافة الاسلامية 1979، كلمة ونصف 1981، أحاديث وقضايا حول الشرق الاوسط 1983، خواطر مجنحة 1984، تمر وحجر، عبدالعزيز والكيان الكبير، العرب بين الارهاص والمعجزة، ذكريات العهود الثلاثة 1988، فواتح الدارة 8819، أشياخ ومقالات. * * * يبدو محمد حسين زيدان من خلال كتاب عبدالله الجفري أديباً أميناً لبيئته السعودية، عاشق كلمة ومتابع معرفة، ويبدو دائماً كمن يحتكم الى حسّ فطري سليم في بيان حسن الافكار وفسادها، كأن الحقيقة عنده بنت العفوية الانسانية وليست وليدة متعسرة لتعقيد الافكار وجداولها الحسابية واحتمالاتها أو افتراضاتها. رومانسية؟ نعم، اذا كانت الرومانسية تعني الامانة لتراث المكان والرغبة بالعيش فيه والتفاعل مع المجتمع في عسره ويسره. وهي رومانسية تبدأ من الحنين الى الطفولة والى مكان الطفولة. يجيب زيدان عن سؤال من الجفري: وكيف انسى بيت الشَّعر والمرأة العجوز الكفيفة البدوية الممتدة من عالية نجد، واسمها ميثاء الوضيان، وهي التي كانت حضن امي البديل بعد ان فقدت حنان الامومة في بدء مولدي. لقد ذكرتني بجبل "سلع" وتلك القصيدة التي صاغها الشاعر الكبير ضياء الدين رجب - يرحمه الله - وصرت ارددها على مسامعه بتنغيم من "الحدري" فيتلذذ الضياء وتندّ دمعة من عينه: "بين سلع وقبا/من مجالي يثرب - قد مشينا الهيدبى/ سبسباً في سبسب". رومانسية، لكنها تنطلق من حسّ بدوي مباشر، هكذا، رومانسية بلا ضباب، شخصية محمد حسين زيدان، والرجل ورث شيئاً من عبقرية المكان المتجهة نحو الكلمة، نحو عشق الكلمة. * * * تبدو الأمانة للمكان من تقدير محمد حسين زيدان لوطنه، مهبط الوحي وموئل المؤمنين الاولين مهاجرين وانصاراً، ولذلك اهتم بالمكان منطقة منطقة وحبة رمل حبة رمل، حتى عُدّ واحداً من المراجع في هذا الشأن. روى مرة هذه الحادثة: "رافقتهم احمد امين ومحمد حسين هيكل وعبدالحميد العبادي في زيارة لبعض الاماكن التاريخية للعظة والاعتبار حتى بلغنا مدفن شهداء احد، فقام الاستاذ عبدالحميد العبادي وألقى ما في السيرة من نص، ولكنه قال: أهل مكة أدرى بشعابها. ثم طلب مني ان اخبرهم عن موقعة احد، وأبين لهم موقع الرسول صلى الله عليه وسلم وموقع الرماة وأين دارت المعركة، فأوضحت لهم ذلك بالقول والعمل، فقال الاستاذ احمد امين: لقد أصبحت استاذاً لجامعيين. فقلت له: ولكن بدون درجة الدكتوراه". وفي دراسته لتاريخ العرب أيقن زيدان انها تظل ناقصة، واحياناً سبباً للخطأ، اذا لم تستكمل بمعرفة الانساب، فهناك اسماء متشابهة اذا لم نفرق بينها من انسابها نقع في سوء تقدير لحاملي هذه الاسماء ومواقفهم في مراحل معينة من التاريخ العربي والاسلامي. قال عنه عزيز ضياء: "ان الاستاذ الزيدان عندما تذكر له اسم فلان ما، فانه يذكر لك على الفور اسم ابيه وامه وجده واصهاره ومواليه ومن له علاقة به". لكن زيدان حذّر من استخدام علم الانساب في عصرنا الحاضر: "لا أنصح به وان كنت احترفه، لان بعض القبائل قد تحوّلت اسماؤهم، ودخل بعض القبائل في البعض الآخر". * * * وتبقى الكلمة عند زيدان. لقد أعشى في شيخوخته فصار يملي كتاباته على كاتب يسطرها على الورق، لكنه حتى في ايام الصحة وحدّة البصر، كان يلتفت الى الكلمة كصوت، وكان يؤنسه جرسها فيقرأ بصوت عال ليتفاعل مع موسيقى الكلام. من هنا اعجاب زيدان بمصطفى صادق الرافعي. وقد كُتب لهذا الاديب الذي هزمه طه حسين في مساجلاتهما واغفلت ذكره تيارات الحداثة في العصر الليبرالي في مصر، كُتب للاديب الرافعي ان يحظى بقراء يقدرونه في كثير من ديار العرب، وخصوصاً المملكة العربية السعودية، حتى ليحسب المرء حديث زيدان عن الرافعي وأقرانه من اصحاب الكلمة في مصر احمد حسن الزيات، محمد السباعي، عباس حافظ، مصطفى لطفي المنفلوطي حديث العارف المعاصر المهتم والمنحاز الى بيانهم العربي الساحر. والقارئ العربي يفهم الكلمة العربية، هكذا اعتقد محمد حسين زيدان، انطلاقة من الحضور المستمر للقرآن الكريم في وجدان الناس. يجيب عن سؤال من الجفري: "القارئ العربي يفهم الكلمة القرآنية، وليس هناك بيان أعلى منها، فكيف ندعي ان الاسلوب المشرق لا يفهمه العربي؟ ان الفسولة والضحالة هما الانحطاط بالقارئ العربي الى لغة العامة، بينما من حق القيمة القومية العربية ان تكون لغتها الشاعرة في اسلوب مصطفى صادق الرافعي العالي". * * * "الزيدان - زوربا القرن العشرين". تحية وفاء من عبدالله الجفري الى استاذه وصديقه الراحل محمد حسين زيدان. لكن الكتاب عرّفنا الى مفاتيح شخصية أدبية محببة وعارفة، وقد أفدنا من هذه المعرفة، كما يمكن أن يفيد منها القراء العرب الراغبون، من دون شك، في انفتاح العربي على العربي، وجداناً وفكراً ومشاركة في قضايا الحضارة.