فرع "البيئة" بالشرقية يقيم دورة تدريبية عن "أساسيات الزراعة العضوية"    من الرياض إلى العالم.. منتدى TOURISE يفتح آفاق الاستثمار في اقتصاد السياحة المستدامة ويستعرض فرصًا تتجاوز 9 تريليونات دولار    سوق الأسهم السعودية يغلق مرتفعا بدعم من القطاعات الكبرى    وزير الحج والعمرة يلتقي بأكثر من 100 وزير ومفتي ورئيس مكتب شؤون الحج ويحثهم على استكمال إجراءات التعاقد قبل 15 رجب    القيادة تعزي رئيسة جمهورية سورينام في وفاة الرئيس الأسبق رونالد فينيتيان    منصة إحسان تدعم جمعية الإعاقة السمعية بجازان بمشروع توفير الأدوية للمرضى المتعففين    مجلس الوزراء: الموافقة على نظام حماية المؤشرات الجغرافية    أمير تبوك يطّلع على التقرير السنوي لأعمال فرع هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر    الهيئة السعودية للتخصصات الصحية تعتمد برنامج جراحة الفم والوجه والفكين في تجمع تبوك الصحي    المنتخب السعودي على مشارف التأهل في مونديال الناشئين    بيان في الشباب بشأن أزمة الحارس بوشان وقرار الفيفا    المشهد السياسي العراقي في ضوء الانتخابات البرلمانية الجديدة    أمانة الشرقية تحصد المركز الأول في فئة أفضل مشروع اجتماعي    أمير الشرقية يكرم مدارس المنطقة بدرع التميز والاعتماد المدرسي    القيادة تهنئ رئيس جمهورية بولندا بذكرى إعلان الجمهورية لبلاده    مجموعة شركات SAMI تحصد ثلاث جوائز للتميز في توطين الصناعات العسكرية    ب "رؤية ما لا يُرى".. مستشفى الملك عبدالله ببيشة يُفعّل اليوم العالمي للأشعة    الفقد والادعاء.. حين يساء فهم معنى القوة    قصيدة اليقين    لماذا دخل الشرع البيت الأبيض من الباب الجانبي؟لأنها زيارة خاصة لا رسمية    أنت أيضا تحتاج إلى تحديث    هجوم روسي بمسيرات يوقع قتيلا شرق أوكرانيا    سعر برميل النفط ينخفض إلى 63.93 دولار    «التواصل الحضاري» ينظّم ملتقى التسامح    ضبط 21647 مخالفاً للإقامة والعمل وأمن الحدود    95 مليون ريال لصيانة ونظافة وتشغيل 1400 مسجد وجامع في المملكة    استبعاد تمبكتي من معسكر الأخضر.. واستدعاء الشهراني وكادش    «الشورى» يدعو مركز المناطق الاقتصادية في الرياض لاستكمال البناء المؤسسي والخطة الإستراتيجية    تعاون سعودي- إماراتي لمكافحة جرائم الفساد    الديوان الملكي: وفاة وفاء بنت بندر    خادم الحرمين يدعو لإقامة صلاة الاستسقاء الخميس    تحت رعاية ولي العهد.. تنظيم المؤتمر العدلي الدولي الثاني بالرياض    وسط ضغوط على المرحلة الثانية من اتفاق غزة.. الاحتلال يمنع خروج المحاصرين في أنفاق رفح    لجان الكرة وقرارات غائبة أو متأخرة    شلوتربيك أولوية لبرشلونة في يناير    يوثق التحولات التاريخية والحضارية للمشاعر.. «الدارة» تطلق ملتقى تاريخ الحج والحرمين    وعكة صحية تدخل محمد صبحي المستشفى    1.7 مليون دولار تعويضاً على تنمر النظارات    النصر يتصدر بالمحلي    علامات تكشف مقاطع الفيديو المولدة بال AI    يتباهون بما لا يملكون    تقديراً لجهودها في إبراز خدمات المملكة لضيوف الرحمن.. نائب أمير مكة يكرم وزارة الإعلام بمؤتمر الحج    أمريكي يبحر 95 كيلومتراً داخل يقطينة    أكد أن المنظومة تشهد تحولاً نوعياً.. وزير البلديات: تشغيل ذكي وإدارة رقمية لخدمة ضيوف الرحمن    ممرض ألماني يخدر المرضى ليهنأ بليلة هادئة    موانع حمل للرجال (1)!!؟    الأخضر تحت 19 عاماً يدشن تدريباته في معسكر الأحساء استعداداً لكأس آسيا    خديعة القيمة المعنوية    أزمة الأطباء الإداريين    «الرياض الصحي»: البحث العلمي شريكٌ محوري في التحول الصحي    رئيس جامعة جازان يطلق منصة "ركز" للاستثمار المعرفي    "مسام" ينزع (1.044) لغمًا من الأراضي اليمنية خلال أسبوع    البنيان يرعى «التعليم المنافس» في «الملك سعود»    رجال أمن الحرمين قصص نجاح تروى للتاريخ    إنفاذاً لأمر خادم الحرمين الشريفين.. منح رئيس «الأركان» الباكستاني وسام الملك عبدالعزيز    إنفاذًا لأمر خادم الحرمين الشريفين.. رئيس هيئة الأركان العامة يُقلِّد رئيس هيئة الأركان المشتركة الباكستاني وسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الممتازة    فهد بن سلطان: هيئة كبار العلماء لها جهود علمية ودعوية في بيان وسطية الإسلام    أمير تبوك يستقبل عضو هيئة كبار العلماء الشيخ يوسف بن سعيد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الثقافة العربية تواجه 4 مخاطر
نشر في الحياة يوم 17 - 08 - 1992

يعيش العالم اليوم، بسبب ثورة الاتصالات وحركة التحويل العميقة لأساليب الانتاج وانماط الاستهلاك، ثورة ثقافية حقيقية، وإن كانت هذه الثورة لم تنل بعد حظها من الوعي والتحليل. ومن الآثار الاولى والرئيسية لهذه الثورة إعادة ترتيب الحقل الثقافي العالمي، او بالاحرى تكوين حقل ثقافي عالمي موحّد ومتكامل على مستوى الانسانية برمتها.
وتتطور في سياق تكوين هذا الحقل ظاهرتان متلازمتان ومتناقضتان معاً، الاولى إنشاء ثقافة مشتركة او مرجعية قيمية موحدة اكثر فأكثر على الصعيد العالمي. وهو ما يبرز اليوم من خلال تعميم مبادئ حقوق الانسان والقيم الديموقراطية والمطامح والتطلعات والآمال البشرية التي تلخصها عبارة الانخراط في الحضارة المادية. والظاهرة الثانية فقدان جميع الثقافات الوطنية مركزها الاحتكاري المطلق في مناطق نفوذها، امام انبعاث المنافسة العالمية، ولم يعد لوجودها اي كافل حقيقي سوى قدرتها على إرضاء الحاجات الجديدة المتولدة عن الاندماج في الدورة التاريخية العصرية.
وينعكس هذا التطور الجديد في الصعيد الوطني من خلال تفاقم ازمة الهوية. فبقدر ما يعمل تعميق التواصل بين المجموعات البشرية على توحيد تطلعات الشعوب ومطالب الجماعات يزيد في الوقت نفسه من قوة الدافع الى تخلي الافراد عن مجتمعاتهم وثقافاتهم الاصلية التي اصبحت تبدو لهم عاجزة اكثر فأكثر عن تلبية متطلبات الانخراط في الحضارة وتحقيق الذاتية الحرة والفردية.
وعلى صعيد العلاقات الدولية، ينتج انشاء المجال الجيوثقافي العالمي فرصاً جديدة لاعادة تنظيم استراتيجيات الهيمنة الكبرى. فقد اصبحت السيطرة على هذا المجال الثقافي من الرهانات الاساسية، بل الاولى، لأي ارادة هيمنة دولية. ومن الطبيعي ان يطلق هذا الوضع من جديد حركة المنافسة القوية بين الثقافات السائدة من اجل تعزيز مناطق نفوذها في العالم وربط النفوذ الثقافي بالنفوذ السياسي والاقتصادي. وتكاد هذه المعركة الجديدة بين الثقافات الكبرى ان تقضي كلياً على الفضاءات المحدودة التي كانت تتمتع بها الثقافات الوطنية الصغيرة.
ويمكن تلخيص مخاطر ما يحصل اليوم على الصعيد الثقافي العالمي بالنسبة للثقافات النامية عامة والثقافة العربية بشكل خاص بأربعة مخاطر او تحديات اساسية تهدد اذا لم تتم مواجهتها بفعالية بتفكيك الثقافات النامية وتفتيت فضائها.
ويعني هذا، اذا تحقق بالفعل، تفريغ العديد من مجتمعات العالم الثالث من مواهبها الخاصة، ودفعها خارج دائرة التبادل العلمية والفكرية الراهنة، واحتلال عقول نخبها، وتحكم الثقافات المسيطرة في صورتهم هم عن انفسهم، بما يدفعهم الى تبني طرق تفكير الشعوب السائدة ومفاهيمها ومنطقها، بالتالي الانقطاع عن شعوبهم.
1 - أول هذه الاخطار خطر التهميش، اي استبعاد الثقافات الوطنية من دائرة المشاركة العالمية، وذلك من خلال تحويلها الى ثقافات محلية شعبية او عامية. وينجم عن نفي الطابع او البعد العالمي عن ثقافة ما امران: أولهما القضاء على طابعها المركزي وجعلها تابعة لغيرها ومعتمدة عليه في اعادة انتاج أنساقها الرئيسية، والثاني اختفاء وإخفاء مشاركة هذه الثقافة او تاريخ مشاركتها في الحضارة الانسانية. والهدف من ذلك تقليص الفضاء الثقافي الذي تحتله في الحقل العالمي، وضرب امكانياتها، وتحويل هذه الامكانيات الى المراكز الثقافية الكبرى. وبقدر ما يحرمها تقليص دائرة نفوذها من قوتها، يجعلها غير قادرة على احتلال مواقع الثقافة العليا والعالمة، ويحولها الى نوع من الثقافة الثانوية التي لا تختلف كثيراً عن الثقافات الفرعية الاقوامية التي تنمو في صلبها. في هذا الاطار نستطيع ان نفسر التركيز في اوساط الاعلام والباحثين في شؤون العالم العربي على غياب الوحدة الثقافية العربية وتعدد الثقافات، كما نفسر ازدياد التشديد على الخصوصيات الثقافية القطرية والسعي لاعادة تأسيسها تاريخياً على قاعدة تقسيم الإرث الشامل للثقافة العربية وتكسير وحدتها التاريخية والجغرافية.
والمقصود بالثقافة المحلية تلك الثقافة التي تعبر عن خصوصية، ونوعاً من الوجود الثقافي في درجة القيم الشعبية والفلكلورية، في مقابل الثقافة الكبرى التي تضم الى جانب أنساق التداول الرمزي البسيط انساق الثقافة العليا الفلسفية والعلمية والفكرية التي تعبر عن مشاركة الثقافة في الحضارة والتاريخ العالمي وارتباطها بهما. والنتيجة الاساسية لافتقاد الثقافة الكبرى فاعليتها في مستوى الانساق الحضارية زيادة تهميشها داخلياً وخارجياً، حتى يصبح القضاء عليها او تجاهلها امراً عادياً لا يغير من التاريخ العالمي شيئاً ولا يعود على الثقافة الانسانية وعلى المجموعة البشرية بأي اثر سلبي. انه يعني تحول او تحويل الثقافة الوطنية الى نوع من التقاليد الشعبية التي لا قيمة لها في مقاييس التقدم الحضاري العلمي والنظري اي في تكوين قيم العصر. ولذلك فان الهجوم على اي ثقافة يبدأ من البرهان على انها ثقافة محلية ليس بها اي بعد في الحضارة والثقافة الانسانية العامة والشاملة. وهناك سببان رئيسيان يمنعان الثقافة العربية من التحول نهائياً الى ثقافة محلية هما: اتساع دائرة الناطقين بالعربية بحيث يشكلون هم أنفسهم نسبة لا بأس بها من سكان العالم، وارتباطها بدين عالمي يغطي ربع سكان البشرية. لكن هذا لا يمنع من ان الثقافة العربية تبدو اكثر فأكثر بالمقارنة مع الثقافات الكبرى، ثقافة تابعة لغيرها في انتاج قيمها الذاتية بدل ان تكون مركزاً خاصاً للانتاج الثقافي الاصيل ولذاتية حضارية مستقلة.
2 - الخطر الثاني هو مضمون هذه الثقافات الوطنية، بتحويلها الى ثقافة هوية مقابل ثقافة الابداع والانجاز. ان الفرق بين الثقافات الاقوامية الصغيرة والثقافات الحية الكبرى هو ان هذه الاخيرة، بعكس الاولى، لا تبرر وجودها بكونها التجسيد لهوية جماعية محلية او التعبير عنها، ولكن تطرح نفسها على انها الحاضنة لعملية ابداع فكري وعلمي اصيل يتجاوز في آثاره وغاياته ومراميه مهام التعبير عن الوجود المميز لجماعة معينة ليتحول الى مصدر وشرط للتقدم الحضاري والتاريخي للبشرية جمعاء.
ان شرعية وجود الثقافات نفسها والتمسك بها ناجمان عما تظهره هذه الثقافات من قدرة على المشاركة في نهر الابداعات العالمية، بل ان ابداعية هذه الثقافات هي التي تسمح لهذه الجماعات ان تبرّر وجودها في التاريخ وموقعها وادعاءاتها السياسية القيادية. فبفضل هذه الابداعية تصبح الجماعة مفيدة للبشرية كلها ولتقدم التاريخ وليست مجرد مستهلكة للحضارة او عالة عليها.

والواقع ان الثقافة لا تتطابق تلقائياً مع الهوية كما يبدو للوهلة الاولى، فهي لا تستطيع ان تحقق شروط تماهي الناس معها، اي اعادة انتاجها الذاتي، الا بقدر ما تظهر قدرتها على ادخال الجماعة في دائرة الانتاج والاستهلاك الحضاريين.
والذي يدفع الشعوب الى التخلي عن ثقافاتها ليس ضعف هذه الثقافات وضعف تراثها او عدم ارتباطه بالمجتمع والشعب، ولكن ظهورها بمظهر الثقافات غير المبدعة وغير المشاركة في الابداعات الحضارية. وباختصار، ليس المبرر الأول لوجود الثقافات ايجاد الهوية، او تأكيد الخصوصية، ولكن تأمين المشاركة في الدورة الحضارية العالمية وتأمين الادوات النظرية والعملية التي تساعدها على فهم هذه الحضارة والتعامل بها ومعها. وهذا لا ينفي أن الشعور بالهوية يعتبر من منتجاتها الفرعية.
ومن الطبيعي ان يؤدي تخفيض ثقافة كانت في وقت من الأوقات وعاء الحضارة العالمية الى مستوى الثقافات الإتنية، اي الى مستوى اعادة الانتاج البسيط والمتواتر للتمايز، ومستوى التعبير الأول عن خصوصية عرقية او جغرافية او لغوية، من الطبيعي ان يؤدي ذلك الى خمود جذوة هذه الثقافة وخمولها وبالتالي اضعاف شرعية وجودها التاريخية. ومما يهدد القدرة الحضارية للثقافة العربية تفاقم الاتجاهات الى اعادة بنائها كثقافات متعددة عربية من منظور بناء الهوية القطرية. ذلك ان هذا التقسيم لا يقلص من طاقاتها العلمية والنظرية فحسب ولكنه يزيد من تأكيد وظيفتها كعلامة على الهوية فقط وليس كنبع للابداعات الحضارية. وهو يحولها من استمرار لثقافة تاريخية تنزع الى السيادة والاستقلال والتنمية الذاتية الى ثقافة تكرارية شكلية. وهذا هو الذي يفسر ان تراجع الثقافة العربية من مواقعها القومية، وابتعادها عن مرجعيتها التاريخية يدفع بالثقافات القطرية النابعة منها والمتميزة عنها الى تعميق تبعيتها للثقافات الاجنبية السائدة وزيادة الاعتماد عليها.
3 - الخطر الثالث هو نزع الصفة الحيوية عنها، وذلك بتحويلها الى ثقافة تقليدية مقابل الثقافة العصرية. وتقليدية تعني ان الزمن قد تجاوزها في القيم التي تدعو لها والنظم التي تشير اليها والسلوكات التي تنظمها وتضبطها والمعارف التي تنتجها. وفي هذا السياق علينا ان نفهم تركيز خصوم العرب المتزايد اليوم، في سبيل ضرب أنساق المجتمعات العربية ومعنوياتها، على اشكالية الحداثة وإبراز تعارض قيم الثقافة العربية معها او مع تراثها. ان سلب الثقافة العربية هويتها الحضارية يقتضي التسليم بماضيويتها وبتأخرها. وقد نجحت هذه العملية ازاء الثقافة العربية حتى اصبح العرب او القسم الاكبر من نخبهم يعتقدون هم انفسهم بهذه المسلمات الخاطئة ويكتبون الكتب الكبيرة لتفسيرها او تبريرها. ويكاد المرء يعتقد وهذا ما دخل نهائيا في الوعي الغربي، ان العرب من بين الامم جميعاً هم الابعد عن معايير العصر، والاقوى معاداة لكل ما هو حديث وجديد. وهي صورة مخالفة كليا للواقع كما نعرف، لكنها صورة ضرورية لنزع الشرعية من الثقافة العربية والتشجيع على التخلي عنها او تدميرها كحامل لكيان اجتماعي سياسي تاريخي، اي حضاري، متميز.
4 - الخطر الرابع تشويه صورة الثقافات الوطنية، وذلك بتحويلها الى ثقافة همجية لا اخلاقية مقابل الثقافة المدنية. وفي هذا المجال تسعى الثقافات الكبرى السائدة الى ان تنسب الى نفسها كل القيم الايجابية والابداعات التاريخية وتنكر على الثقافات الاخرى اي فضيلة مدنية. في هذا الاطار ينبغي فهم مغزى التركيز المتزايد في الاقطار الاوروبية والغربية عامة على ارتباط مفاهيم وقيم العقل والحق واحترام الانسان والديموقراطية بالثقافة الغربية، وإظهار الثقافات الاخرى، وفي مقدمها العربية، بوصفها، بالجوهر والطبيعة، معادية للمبادئ الاخلاقية والعقلانية والواقعية.
ان ما ترمي اليه السياسة القائمة على تجريح الثقافة العربية وتقزيمها وتشويه صورتها هو تحقيق هدفين رئيسيين، أولهما اضعاف موقف الثقافة العربية على الساحة الثقافية الدولية، مما يعني وقف توسعها او فرض التراجع عليها حيث لا زالت تشكل عنصراً من عناصر الثقافة العالمية، بما في ذلك داخل الاقطار العربية. وثانيهما دفع اصحاب هذه الثقافة انفسهم، اي العرب، الى استبطان هذه الصورة، اي ايصالهم الى الاقتناع الثابت بدونيتهم وافتقارهم لثقافة حقيقية حضارية وناجعة،وتأكيد لامشروعية مطالبتهم بالتحول الى مركز مستقل للتنمية الحضارية العالمية. وهذا هو شرط ايجاد دينامية التنصل من الذات والتاريخ لديهم ودفعهم الى الالتحاق الجماعي والثابت بالثقافة الاجنبية، التي تصبح في نظرهم رديفاً ومساوياً للثقافة الحضارية.
ومن الطبيعي ان يترافق السعي لاظهار الثقافة العربية في مظهر الثقافة المحلية الضيقة والمحدودة الوظائف بالسعي المغاير لعرض الثقافة السائدة في صورة الثقافة العالمية والكونية، وطرحها بمثابة المرجع الاول للثقافات جميعاً، وتحويل ما تحققه من انجازات نظرية الى سقف كل تفكير انساني ممكن. والحال ان تعلق ابناء الثقافات المهزومة بالثقافة التي تؤكد تفوقها عليهم يزداد بقدر ما تنجح هذه الثقافة بشكل اكبر في تدمير ثقافتهم الخاصة.

كيف يمكن للعالم العربي الردّ على هذه التحديات الخطيرة؟
من البديهي ان الانسحاب من العالم ومن المنافسة الدولية ليس هو الرد الايجابي والسليم على التحديات الحقيقية التي تشهدها الثقافة العربية اليوم. فهو لن يستطيع ان يقدم شيئاً. وبالمثل، ليس التجريح الدائم لهذه الثقافة وإعلان ضعفها ونقائصها هو الجواب المنتظر من الادارات والمؤسسات الثقافية العربية. فالثقافة لا تتطور ولا تتقدم من تلقاء نفسها وهي لا تملك ارادة خاصة بها. ان الثقافة تتقدم بقدر ما تبذل الشعوب التي تنتمي اليها من مجهودات حتى ترتقي بها الى مصاف الثقافات الكبرى النشيطة. وهذه المجهودات تشتمل على استثمارات مادية كما تشتمل على اهتمام سياسي وأدبي من قبل الاجهزة المختصة والرأي العام. ومن الطبيعي اذا تُركت اللغة مثلا من دون جهد تجديدي ان تتجمد، ومن الطبيعي اذا بقيت الثقافة بعيدة عن البحث والانخراط في المغامرة العلمية العالمية، وبلغتها الخاصة، ان تتهمش. ان المسؤول عن مصير الثقافة هو السياسات الثقافية الراهنة نفسها وليس الاجداد او الاسلاف. وليس من الممكن، في نظري، للثقافة العربية ان تخرج حية من معركة نهاية هذا القرن العنيفة الا اذا تم تضافر جهود المؤسسات والاجهزة الثقافية في مجموع الاقطار العربية من اجل تحقيق الاهداف الاساسية التي لا بد منها لرفع قدرة الثقافة العربية على المشاركة العالمية:
أ- فلا بد من إدراك حقيقة ان التنمية الحضارية في الحقبة الراهنة اصبحت تفترض اكثر من اي حقبة سابقة التركيز على الاستثمارات العلمية والبشرية والعقلية، اي على ما يمكن وصفه بالاستثمارات الثقافية بشكل اساسي. ففي تجديد الاستثمارات، في البحث العلمي والتقني والتكوين والتعليم والتربية تكمن اليوم اهم فرص الرد على الحاجات الكبرى الجماعية المتعلقة بالتنمية الاقتصادية والتقدم الاجتماعي والديمواقرطية، وبناء الذاتية الوطنية القوية والفاعلية.
ب - لا يعني التركيز على الاستثمارات الثقافية الكفّ عن الاستثمارات الاقتصادية الاخرى والتقليل من اهميتها. فليس من الممكن للقطاع الثقافي الجديد ان يحقق اهدافه ومردوده الفعلي الا في مجتمع يحظى مسبقاً بالحد الادنى من التنمية الصناعية. ان تطوير قطاعات الثورة العلمية والمعلوماتية الرائدة يهدف، بالعكس، الى زيادة مردود الاستثمارات التقليدية وليس القضاء عليها، بل ليس له اي مبرر من دونها. والتأكيد على هذا التضافر بينهما هو الذي يحمينا من السقوط في استلاب من نوع جديد يجعل من الثورة العلمية والمعلوماتية غاية تاريخية او حلا سحرياً لمشاكل التنمية الحضارية المعقدة بأكملها. ان المقصود اذن هو اعادة بناء استراتيجيات التنمية الحضارية ونشر القوى والامكانيات المتاحة بطريقة عملية ومجدية، اكثر مما يعني الاختيار بين قطاعات صناعية وزراعية وعلمية.
ج - يقتضي النجاح في مثل هذه الاستراتيجية وتكوين مركز فعال للانتاج العلمي والفكري في العالم العربي العمل على اعادة بناء وحدة القضاء الثقافي العربي سواء في ما يتعلق بوحدته التاريخية المكونة لرؤية واحدة ومشتركة للهوية العربية، او في ما يتعلق بالوحدة الجغرافية والمادية وتنظيم وسائل الانتاج النظري المشترك وتداول المعلومات والافكار والمنتجات الادبية والفنية على اتساع الارض العربية. كما يقتضي تدعيم النشاط الابداعي العلمي والادبي القومي بزيادة الاستثمارات المالية من دون شك. ولكن، قبل ذلك، بتحقيق شروط نجاحها السياسية والاجتماعية، اي بالدرجة الاولى الحريات الفردية والجمعية. ومن دون هذه الاستثمارات والحريات الاساسية لن يكون هناك اي حاجز بين تفاقم الاستلاب الثقافي الراهن وهجرة عقل الامة وقلبها ومركز ابداعاتها الى خارجها.
* * *
ولعل الذي يجمع بين الخطابين السائدين اليوم في الساحة الثقافية العربية خطاب الغزو الثقافي وخطاب تخلف الثقافة العربية او عدم صلاحيتها للتعامل مع الحضارة الحديثة امر واحد هو رفض التفكير في الثقافة العربية ذاتها، والهرب من المسؤوليات التي يفرضها التجديد الثقافي، كشرط للتجديد الحضاري عامة، وذلك من خلال نفي وجود المشكلة ذاتها بالنسبة للخطاب الاول، او بتجاهل معنى الثقافة الوطنية ذاتها اصلاً وما تمثله من بعد اساسي في اي تنمية حضارية بالنسبة للخطاب الثاني.
والواقع ان اياً من الخطابين لا يعنى بالثقافة في حد ذاتها ولا بايجاد الحلول الكفيلة بإخراجها من الوضعية التي توجد فيها، لكنه يكرس الحديث عنها من اجل التغطية على موقفين قيميين وسلوكين سياسيين متعارضين. فعندما يفترض الموقف الاول ان الثقافة العربية في حال جيدة وان المشكلة الوحيدة المطروحة هي عدوان الثقافات الاخرى عليها، فإن هدفه الحقيقي ليس شيئاً آخر سوى طمس العجز والتراجع امام الضغط الخارجي، مع تلبيس هذا الموقف صورة المقاومة السلبية. وبالمثل عندما يفترض الموقف الثاني ان الثقافة العربية اصبحت قديمة لا يمكن الاعتماد عليها فإنه يسعى الى اعطاء شرعية لموقف الاقتداء الاعمى بالآخر الذي اختاره مسبقاً والذوبان فيه. وفي الحالتين تتحول الثقافة الى رمز بدل ان تفهم كفاعلية اجتماعية اساسية، وتصبح احدى ادوات التنافس والنزاع بين طرفين سياسيين متعارضين اكثر مما هي موضوع اهتمام حقيقي وفعلي من قبل القوى الاجتماعية والسياسية.
والحال ان نجاح "الغزو" الثقافي لا يمكن تفسيره الا بضعف الثقافة الوطنية، تماماً كما ان ضعف هذه الثقافة عن مسايرة حاجات التنمية الحضارية لا ينبع من ماهيتها الخاصة او فساد التراث ولكن من نقص الجهود التجديدية والاستثمارات المادية والمعنوية التي لا غنى عنها بالنسبة لأي ثقافة، حتى المتقدمة منها، كي تستطيع ان تستجيب بنجاح للتطورات الاجتماعية والتاريخية .... فإذا كانت الثقافة ضعيفة فذلك لأننا نقوم بواجبنا تجاهها، واذا كان الغزو الاجنبي فعالا فلأننا لا ندرك متاعب ثقافتنا واحتياجاتها الى التطور والتجديد.
هذا هو المنهج الوحيد الذي يسمح بتفجير طاقات الثقافة العربية وتجديدها. وهو في الوقت نفسه المنهج الذي يتطلبه النجاح في عملية الاندماج الحضارية. فلأول مرة يصبح تجديد الثقافة هدفاً مطابقاً لتجديد الهياكل الانتاجية، اي لهدف التنمية العملية. ذلك ان التجديد كاستثمار رأس المال، لا يمكن ان ينجح الا اذا نجح صاحبه في اختيار التوظيفات الصحيحة والمجدية له، اي إلا اذا عرف كيف يحدد القطاعات المجدية لهذا الاستثمار. وهذه هي، في اعتقادي ايضا، النقاط الاساسية لبرنامج الحد الادنى لما يمكن ان نطلق عليه اسم سياسة وطنية في الثقافة العربية. ولا يتعلق هذا البرنامج بتحديد المضمون العقائدي والنظري للثقافة، ولا بمضمونها الاجتماعي. بقدر ما يتعلق ببناء شروط النمو الابداعي والتاريخي المنتج للثقافة وللاقتصاد معاً. وتحويل كل منهما الى ميدان للاستثمار الحضاري كما هو حاصل في باقي الاقطار الصناعية ....
ان نقطة الضعف الرئيسية في السياسات الثقافية العربية كامنة في فصل موضوع الهيمنة الثقافية عن موضوع الهيمنة العالمية، السياسية والاقتصادية والعسكرية، وتحويلها الصراع الحضاري العالمي بين المدنيات الى ما يشبه التنافس الثقافي المحض. والواقع ان من المستحيل اليوم فهم ما يجري في الحقل الثقافي الوطني من دون الارتفاع الى مستوى الاشكالية الكبرى التي تدمج عناصر الصراع الثقافي والسياسي والاقتصادي والعسكري في اطار استراتيجية منافسة شاملة محورها تحقيق التنمية الحضارية.
واذا لم نشأ ان تكون هذه التنمية متفاوتة جداً بين مناطق العالم المختلفة كما هو عليه الحال اليوم فلا بد من ايجاد الفضاءات التي تساعد بشكل افضل على توفير شروط التقدم المادي والانساني.
وفي هذه الحال تبرز بشكل لا مهرب منه اهمية الثقافة الوطنية ودورها الحاسم في تعبئة الشعوب وتربية الجماعات كما في تطوير العلوم والاكتشافات. ولعل المجتمعات البشرية لم تشهد فترة اصبح فيها الاستثمار في الثقافة قاعدة وجوهر الاستثمار الحضاري عامة، كما هو عليه الحال في الحقبة الاستثنائية التي نعيش.
* المفوض العام لفلسطين في فرنسا - خص "الوسط" بهذه المقالة التي القاها في ندوة عن "الثقافة العربية امام تحديات النظام العالمي الجديد" اقيمت مؤخرا في جامعة المعتمد بن عباد في أصيلة - المغرب برعاية وزير الثقافة المغربي السيد محمد بن عيسى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.