في الوقت الذي يستعد فيه السياسي اليميني المتطرف في البرلمان الهولندي، غيرت وايلدرز، لبث فيلمه المسيء إلى القرآن الكريم، والذي يصفه فيه بأنه كتاب"فاشي"، ويقرنه بكتاب"كفاحي"لأدولف هتلر، تنقل لنا الأخبار من العاصمة الفرنسية باريس أن وزير الداخلية أقال نائب محافظ مديرية سانت جنوب غربي البلاد بسبب نشره مقالاً ينتقد فيه قتل إسرائيل الفتيات الفلسطينيات أثناء خروجهن من المدارس. مشهدان ساخنان من أوروبا يختصران مأزق"الحرية"الذي تعاني منه أوروبا اليوم. حرية التعبير التي تأخذ صفة القداسة، ويستميت الأوروبيون في الدفاع عنها بوصفها إحدى المعالم المحددة للديموقراطية الليبرالية تختفي تماماً إذا دخلت إسرائيل على الخط. منذ زمن طويل دأبت السياسات الرسمية الأوروبية على تجريم من يشكك في حقيقة حادثة"الهولوكوست"أو عدد ضحاياها، أو ما يوصف"بإنكار المحرقة"، وتعرض كثير من الأكاديميين والمثقفين الأوروبيين للمطاردة والإيقاف والاعتقال بسبب مواقفهم الناقدة التي عُدّت ضرباً من الكفر. وتطور الأمر إلى تجريم ما يوصف"بمعاداة السامية"، وعَدَّت كثير من القوانين ذلك جزءاً من الإرث النازي الذي اشتهر باضطهاد يهود أوروبا، ولم ينظر إلى"معاداة السامية"مطلقاً من منظور حرية التعبير، بل من حيث أنها تهدف إلى"التحريض"و"إثارة الكراهية". ثم اتخذت المسألة بعداً آخر، عندما أصبح مجرد نقد السياسات الإسرائيلية مرادفاً"لمعاداة السامية"، يدخل في نطاق التمييز العنصري والإخلال بالتوازن الاجتماعي. لم يصمد إذن شعار الحرية، وكشفت أحداث عدّة تناقضه الذاتي وازدواجيته الكامنة، وتجرع العرب والمسلمون، لاسيما أولئك الذين يقيمون في البلدان الغربية، غصص تلك الحرية. وهكذا من رسوم كورت فيستر غارد الدانماركي إلى فيلم وايلدرز الهولندي يتبدى لنا مشهد حركة متناغمة متفجرة تهدف إلى النيل من دين سماوي ينتمي إليه مئات الملايين من البشر المنتشرين في أصقاع الأرض. في اللقاء الذي أجرته صحيفة الغارديان البريطانية 17 شباط/ فبراير 2008 يدعو غيرت وايلدرز صاحب مشروع الفيلم إلى تغيير دستور بلاده ليتضمن حظر تداول القرآن، كما يدعو إلى إيقاف هجرة المسلمين إلى هولندا، وإغراء المسلمين المهاجرين بالمال ليرحلوا عن البلاد، أما من وصفهم"بالمجرمين"حاملي الجنسية الهولندية من المسلمين، فيرى أن يجردوا من جنسيتهم، ويُطردوا"ليعودوا من حيث أتوا". لكن وايلدرز لا يكره المسلمين، كما يزعم، بل يكره دينهم وثقافتهم. يقول:"لدي مشكلة مع الميراث والثقافة والإيديولوجية الإسلامية، وليس مع الناس المسلمين". لماذا يريد هذا الرجل عرض فيلمه الذي يشتم القرآن؟ يجيب:"هدفي أن أظهر الوجه الحقيقي للإسلام. أنا أنظر إليه بوصفه تهديداً". يتحدث وايلدرز عن حقه في طرح مثل هذه الآراء، ليس من باب"حرية التعبير"فحسب، بل من باب حقه في"الاستفزاز"أيضاً"the right to provoke". يضيف السياسي الهولندي قائلاً:"لم يعد الإسلام شيئاً يمكننا تحمله في هولندا. أنا أريد منع القرآن الفاشي. يجب أن نوقف أسلمة هولندا. هذا يعني أنه لا مزيد من المساجد، لا مزيد من المدارس الإسلامية، لا مزيد من الأئمة... ليس كل المسلمين إرهابيين، لكن كل الإرهابيين تقريباً مسلمون". هل هي حرية تعبير أم حرية كراهية؟ تتساءل الغارديان، فيجيب وايلدرز:"أنا لا أكره المسلمين، أنا أكره كتَابهم وأيديولوجيتهم". ظاهرة وايلدرز جزء من حركة أوروبية متنامية تضيق ذرعاً بالإسلام، وتمارس تمييزاً عنصرياً ضد أبنائه في دول الاتحاد التي تتزايد فيها المخاوف من"الأسلمة". هذه الظاهرة تهدد أوروبا نفسها، والتعايش بين أعراقها المختلفة، وكل الرموز التي ضحى الأوروبيون كثيراً من أجلها. عانت أوروبا من النازية والفاشية والتطهير العرقي، وكلها حركات إرهابية عنصرية خرجت من رحم القارة، وها هي الآن تشهد بروز ظاهرة أخرى لا تقل خطراً على الحضارة، لأنها متعصبة وناقمة على التعددية الثقافية التي مثلت أهم معالم الإنجازات الإنسانية في أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية. رموز اليمين المتطرف يشاركون وايلدرز مواقفه من الإسلام والمهاجرين، مثل السياسي البلجيكي فيليب دي ونتر الذي يحذر من"شبح"الأسلمة، مستدلاً بوجود أكثر من 6000 مسجد في أوروبا، والسياسي السويسري البليونير، كريستوف بلوخر، الذي يدعو إلى تغيير دستور بلاده ليحظر بناء منارات المساجد، والسياسية النمساوية سوزاني ونتر التي وصفت النبي"صلى الله عليه وسلم"بأنه متحرش بالأطفال. وقبل شهر، اجتمع في مدينة أنتويرب البلجيكية قادة أقصى اليمين من أحزاب سياسية في بلجيكاوألمانيا والنمسا ليصدروا وثيقة"ضد أسلمة مدن أوروبا الغربية"مطالبين فيها بوقف بناء المساجد. الخطورة هنا أن هذه المواقف لا تصدر عن مجموعات من الشبان المغمورين أو من الخارجين على القانون، بل من سياسيين بارزين يكسبون مزيداً من الأصوات والنفوذ. غيرت وايلدرز مثلاً هو أكثر السياسيين في هولندا تأثيراً بحسب استطلاع أجري أخيراً، ويحتل حزبه تسعة مقاعد في البرلمان، من أصل 150 مقعداً، وتقول صحيفة الغارديان إن"هجومه الكاسح على الإسلام يؤتي ثماره في ما يبدو، ليس في هولندا فحسب، بل عبر أوروبا، التي تحاول فيها سلالة جديدة من أنصار الجناح اليميني إحياء الحظوظ السياسية عبر إثارة التحيز ضد المسلمين". حزب كريتسوف بلوخر السويسري فاز في الانتخابات العامة الأخيرة، وكان"ناجحاً بدرجة عالية". لكن ليس كل الداعين إلى طرد المهاجرين أو المعادين للوجود الإسلامي يحققون النجاح. في ألمانيا مثلاً، خسر رونالد كوخ، الديموقراطي المسيحي الذي كان ينظر إليه بوصفه مرشحاً قادماً لمنصب المستشار، فرصة الفوز عندما شجب طقوس ذبح الماشية عند المسلمين، وطالب بترحيل المجرمين الشبان من المهاجرين. صرخات وايلدرز ضد الإسلام والقرآن ليست صرخات في البرية. إنها تداعب العنصريات الكامنة، وتوقظ النازية والفاشية من مرقدها. يريد وايلدرز، كما يريد أقصى اليمين في ألمانيا مثلاً، أن يتم الإقرار بالإرث اليهودي المسيحي بوصفه الثقافة المهيمنة، مؤكداً أنه:"لا مساواة بين ثقافتنا والثقافة الإسلامية المتخلفة، انظر إلى آرائهم في المثلية الجنسية الشذوذ والنساء". حرية التعبير حق مقدس وغير مقيد في نظر وايلدرز، والتسامح شيء جميل بالطبع، لكنه مع الإسلام"شكل جبان من أشكال الاسترضاء". هكذا يرسم وايلدرز وأنصاره المنغمسون في حمأة الكراهية حدود حرية التعبير ومفهوم التسامح. كل ما صنعته أوروبا من ميراث الليبرالية والتنوع يتعرض في هذه اللحظة للتهديد. حرب وايلدرز على الإسلام، كما يقول إيان بوروما، أستاذ حقوق الإنسان في جامعة بارد، هي أيضاً"حرب ضد النخبة الثقافية والسياسية، والمؤسسة الفكرية الهولندية.. والملكة ذات العقلية الليبرالية المتفتحة"صحيفة الخليج، 10 شباط/ فبراير 2008. لكن ماذا عن الدور العربي والإسلامي على مستوى الحكومات والصحافة والمنظمات المدنية وهيئات حقوق الإنسان لفرض احترام الثقافة الإسلامية ومنع الإساءة إلى مقدسات أكثر من بليون مسلم؟ نحن نستمع كثيراُ إلى خطاب يدين العنف الجسدي الذي تمارسه بعض التيارات المنتسبة إلى الإسلام، ولكن ماذا عن العنف"الرمزي"الذي يمثله الرسم والفيلم وغيرهما؟ العنف الرمزي يقود تلقائياً إلى العنف الجسدي"لأنه يبرره ويضفي عليه الشرعية. فيلم وايلدرز ليس مجرد فيلم، إنه يهدف إلى نزع"الأنسنة"عن مجتمعات بأكملها، وتسويغ العنف والعدوان ضدها. لقد وقف الإعلام العربي السائد ضد مجموعات محلية تبنت خطاب كراهية ضد الغرب، وكانت مجموعات معزولة ولا تمثل بحال السواد الأعظم ولا النخب الحاكمة والمثقفة. واليوم نرى هذا الإعلام يغض الطرف عن حملة مشحونة بمخزون عميق من الكراهية، وتشكل خطراً على الحوار والتعايش على مستوى الكون. الحكومة الهولندية تتخوف من رد فعل عربي وإسلامي في حال تم عرض الفيلم، وتخطط لإجلاء رعاياها وديبلوماسييها من الشرق الأوسط، كما تقول صحيفة الغارديان. وهي أيضاً قلقة على مصالحها التجارية في المنطقة. يسخر وايلدرز من حكومته التي يساورها التردد قائلاً:"رئيس وزرائنا جبان كبير. الحكومة ضعيفة. هم يكرهون شجاعتي، وأنا لا أحبهم أيضاً". لكن الفيلم سيكشف في نهاية المطاف من هم الجبناء ومن هم الذين يملكون الشجاعة للرد. * أكاديمي وصحافي سعودي