في عصر يموج بالتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، صار كل منا يتحدث عن حقه بما يحقق موضعه ويصحح واقعه، فانصب اهتمام النخبوية من السيدات على الحقوق السياسية، وطالبن بمناصب صنع القرار، وتتبعن الفتاوى المجيزة لتولي المرأة المناصب السياسية، وتحدثت المطلقات وذوات المشكلات الأسرية عن حقوق النساء الاجتماعية، وعلت الأصوات بوجوب تحرير كثير من قضايا المرأة الاجتماعية في ما يتعلق بمسائل الطلاق والحضانة وقضايا العضل، وبعض الزيجات التي عانت منها النساء، وتطرق البعض منهن للحقوق المادية، لاسيما في عصر المادة وارتفاع الأسعار، وتحدث البعض عن حقوق المرأة المدنية، وبقيت فئة ترفع أصواتها لتغرد خارج السرب، وتأتي بحقوق لا دليل عليها إلا عقل صاحبها الناقص، معتمدة على تجارب غربية وشرقية لم تثبت إلا خيبة مخترعيها، وجرّت مجتمعاتهم إلى ويلات اكتوت المرأة بلهيبها، وتعالت أصوات عقلاء القوم بالتحذير منها وكشف عوارها. في خضم هذا كله، أهملنا الحديث عن حقوق المرأة المعنوية، فلم نلق لها بالاً، ولم تأخذ من مداد أقلامنا إلا النزر اليسير، مع أن وظائف المرأة مرتبطة بتعزيز هذا الجانب وإشباعه، أليست هي سكن الوالد ومحضن الولد؟ ألم يشبه رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء بالقوارير حين قال لأنجشة:"رويدك يا أنجشة سوقك بالقوارير"وما ذاك منه صلى الله عليه وسلم إلا كناية عن اللطافة والرقة ومراعاة ذلك عند التعامل معها، وجاءت نصوص الكتاب والسنة لتؤكد أعظم حقوق النساء، في حين غفلت مواثيق حقوق الإنسان وتوصيات الأممالمتحدة عنه، إنه حق الأمهات، أخرج البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحبتي؟ قال:"أمك"قال: ثم من؟ قال:"ثم أمك"قال: ثم من؟ قال:"ثم أمك"ثم قال: ثم من؟ قال:"ثم أبوك". قال ابن بطال:"مقتضاه أن يكون للأم ثلاثة أمثال ما للأب من البر، وكان ذلك لصعوبة الحمل، ثم الوضع، ثم الرضاع، فهذه تنفرد بها الأم وتشقى بها، ثم تشارك الأب في التربية". ورحم الله ابن بطال، إذ لو عاش في عصرنا هذا لرأى كثيراً من الأمهات قد انفردن بالتربية أيضاً. وقال القرطبي:"المراد أن الأم تستحق على الولد الحظ الأوفر من البر، وتُقدّم في ذلك على حق الأب عند المزاحمة". وتدبر معي آية سورة الإسراء: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً. وتأمل العبارات الندية التي يستجيش القرآن بها وجدان البر والرحمة في قلوب الأبناء. ذلك أن الحياة مندفعة في طريقها بالأحياء، توجه اهتمامهم القوي إلى الأمام، إلى الذرية، إلى الجيل المقبل، وقلما توجه اهتمامهم إلى الوراء، إلى الآباء، الجيل الذاهب. ومن ثم تحتاج البنوة إلى استجاشة وجدان الأبناء بقوة لتنعطف إلى الخلف وتلتفت إلى الآمهات والآباء. إن الوالدين يندفعان بالفطرة إلى رعاية الأولاد. إلى التضحية بكل شيء حتى بالذات، وكما يمتص الفرخ كل غذاء في البيضة فإذا هي قشر، كذلك يمتص الأولاد كل رحيق وكل عافية وكل جهد من الوالدين فإذا هما شيخوخة، وهما مع ذلك سعيدان، وسرعان ما ينسى الأولاد هذا كله، ويندفعون بدورهم إلى الأمام، إلى الزوجات والذرية... وهكذا تندفع الحياة، فيأتي أمر الله بالإحسان في صورة قضاء ليحمل معنى الأمر المؤكد، بعد الأمر بتوحيد الله للتذكير والإلزام بواجب الجيل الذي أنفق رحيقه كله حتى أدركه الجفاف من أجلك، وجاءت الكلمات الموحية بحاجة من قدم من دون ترقب عطاء في قوله"الكبر"والكبر له جلاله، وضعف الكبر له إيحاؤه، وأصبح الكبيران عندك، وقد بلغ بهما الكبر والضعف أن صارا عندك في آخر العمر كما كنت عندهما في أوله، فأحسن إليهما كما أحسنا إليك بالقول والفعل والدعاء والخدمة مع الذل والرحمة. رزقنا الله بر والدينا، وأكرمنا برضاهما عنا. * أكاديمية وداعية سعودية. [email protected]