من المسائل التي لا يزال كثير من الناس يتنازعون فيها بأهوائهم، ويردون فيها الحق بعد ما تبين مسألةُ العصبية الجاهلية، من قبلية وإقليمية وقومية وعرقية، وإذا كان مؤسفاً أن تراها في العوامّ والدهماء، فأشد من ذلك أسفاً أن تجدها فيمن تظهر عليهم سيما التعقل والصلاح، ممن تحسن بهم الظن وتحسِب أن لديهم من التدين والتعقل ما يكفي لتحصينهم من هذه اللوثة الجاهلية. ليست هذه العصبيات بشتى صورها من المسائل المشكلة التي اختلف فيها العلماء، فيكون تركُها من قبيل الورع والتحوط، ولا يلام من وقع في لوثتها"ولكنها كبيرة من الكبائر في كثير من صورها، وهي بكل صورها من لوثات الجاهلية الأولى. مما يبين خطورتها أن الإسلام منذ نشأ لم يتوانَ في محاربتها، ولم يداهنها ويرجئ مواجهتها، بل حاربها في أول ما حارب من مسائل الجاهلية"لأنها تناقض الولاء الذي دعا الإسلامُ إليه، الذي لا قيام لدولته من دونه، فهذه العصبيات تناقض أصلَ الولاء أو كماله"لأنها تجعل للقبيلة ولاءً خاصاً يُوالى عليه ويُعادى، ويُفاخر به على الآخرين. وبهذا الولاء البغيض تظهر المحاباة للقرابة والقبيلة، ويُؤثرون في غيرهم فيما الناس فيه شركاء، وتصبح القبيلة هي معقد التناصر، ولو بالباطل. لقد جاء الإسلام والناس قبائلُ متناحرةٌ، يوالون على القبيلة ويعادون، فألّف بين قلوبهم وأذهب عنهم رجس الشيطان، وشرع لهم ولاءً هو خير لهم في دنياهم وآخرتهم، فكان سلاماً وسلماً على أنفسهم وأهليهم، وانتظمهم إخوةً متحابين متآلفين، فكانت نعمةً خُلد ذكرها في القرآن: وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون، وقال سبحانه: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ. إن الولاء الذي جاء به الإسلام هو أرحم للناس من كل ولاء يتوالون عليه، وهو الولاء الذي يستحقون به الاستعلاء على غيرهم وإظهار العزة عليهم"لأنهم هم المسلمون وغيرهم الكافرون، وكل مسلم وإن لم يكن في قلبه إلا مثقال حبة من إيمان فهو أعز وأعلى وأشرف عند الله وعند عباده المؤمنين من ملء الأرض من الكافرين. لقد جاء الإسلام بعصبية جديدة نسخت كل عصبية"ولكنها عصبية مشروعة موافقة لصريح الشرع وصحيح العقل"لأنها عصبية مهذبة لا يبدو منها أدنى أذى لمن سالمها، ولو كان أكفر كافر"ذلك أنها عصبية متعالية على النصرة بالظلم، فلا ينصر مسلم على كافر ظلماً وعدواناً من أجل أنه مسلم، بل تجب نصرة الكافر المظلوم على المسلم الظالم. كما أنها عصبية تعامل الآخرين بالعدل والإحسان والبر"إلا أن يكون محارباً فليس له من ذلك إلا العدل فحسب. وفي العصبية الإسلامية تناصر"لكنه على الحق وبالعدل، فهذّب الرسول مفهوم النصرة الذي كان سائداً بين القبائل، فجعل نصرة الظالم أن تحجزه أو تمنعه من الظلم. فمن قال إن الإسلام نقل الناس من عصبية إلى عصبية جديدة تعيد صورة المأساة، فقوله مردود عليه بما تقدم. وقد يختلف الناس في مسائل من التفضيل بين الأجناس، لكن هذا الاختلاف مهما كان، فلا يسوِّغ التعامي عما نهى الشرع عنه بتصريح لا يحتمل الاختلاف، فلندعْ عنا كل هذا التشغيب، ولنجعل هوانا تبعاً لما في صريح الكتاب والسنة. ومن ذلك: وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، ثم قطع الله الطريق أن يكون التعارف سبباً للتفاخر فقال: إن أكرمكم عند الله أتقاكم. وقال عليه الصلاة والسلام: لينتهين أقوام يفتخرون بآبائهم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان، إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية إنما هو مؤمن تقي وفاجر شقي، الناس كلهم بنو آدم وآدم خلق من تراب. وقال قولته الشهيرة:"أنا سيد ولد آدم ولا فخر". على أن ذمَ العصبية القبلية لا تجيز الطعن في أحساب الناس وأنسابهم ولو بقصد محاربة هذه العصبيات، الذين يمارسون هذا لا يحسب فعلهم إلا من خصال الجاهلية الأولى، وليعلم هؤلاء المغالون أن الطعن في الأنساب كبيرة من الكبائر، قال r: أربع من أمتي من أمر الجاهلية"لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة. إن الإسلام لم يحارب الانتماء القبلي"ولكن حارب العصبية القبلية، ولم يغير من أسماء الناس ولم يُعَمِّ عليهم أنسابهم بحجة الرغبة في وأد العصبيات، كيف وهو قد حض على صلة الرحم التي لا تتحقق إلا بمعرفة الأنساب، فاعرفوا أنسابكم، وبطون قبائلكم، وأخبارها وتاريخها"من دون مفاخرة ولا استعلاء ولا غمطٍ للناس. * كاتب وأستاذ شريعة في جامعة"الإمام". [email protected]