ارتفاع أسعار النفط إلى 87.39 دولارًا للبرميل    نيابة عن خادم الحرمين .. أمير منطقة الرياض يحضر حفل تسليم جائزة الملك فيصل العالمية    ريادة "كاوست" تحمي التنوع بالبيئة البحرية    "تاسي" أحمر بتداولات 8.9 مليار ريال    "سامسونج" تحل مشكلة الخطوط الخضراء    طرح تذاكر مباراة الاتحاد والشباب في "روشن"    العين الإماراتي يختتم تحضيراته لمواجهة الهلال    قيادات أمن الحج تستعرض الخطط الأمنية    وزير الدفاع يبحث مع نظيره البريطاني التعاون الدفاعي    ارتفاع في درجات الحرارة على منطقتي مكة والمدينة وفرصة لهطول أمطار بالجنوب    منح السعوديين تأشيرة «شنغن» ل 5 سنوات    «السيادي السعودي».. ينشئ أكبر شركة أبراج اتصالات في المنطقة    «أرامكو» تبحث الاستحواذ على 10 % في «هنجلي» الصينية    السعودية تستعرض البرامج والمبادرات الوطنية في «الطاقة العالمي»    الإعلام والنمطية    «مسام»: نزع 857 لغماً في اليمن خلال أسبوع    تجربة ثرية    دور السعودية في مساندة الدول العربية ونصرة الدين الإسلامي    تعزيز التعاون الخليجي الأوروبي    الرباط الصليبي ينهي موسم "زكريا موسى" مع أبها    في إياب نصف نهائي دوري أبطال آسيا.. الهلال في مهمة صعبة لكسر تفوق العين    أخضر المصارعة يختتم البطولات القارية المؤهلة لباريس 2024    3 آلاف مفقود تحت الأنقاض في قطاع غزة    تطوير العلاقات البرلمانية مع اليونان    الشورى يوافق على مشروعي السجل والأسماء التجارية    الأزهار البنفسجية تكّون لوحة جمالية.. «شارع الفن».. مناظر خلابة ووجهة مفضلة للزوار    تقدير أممي لجهود مركز الملك سلمان في اليمن    غربال الإعلام يصطفي الإعلاميين الحقيقيين    الأمانة العلمية    «أضغاث أحلام» في جامعة الطائف    علماء الأمة    بمجموع جوائز تصل إلى مليون ريال.. الأوقاف تطلق هاكاثون "تحدي وقف"    النسيان النفسي    اختلاف زمرة الدم بين الزوجين    عيسي سند    أكثر من ثمانية آلاف ساعة تطوعية في هلال مكة    جمعية عطاء تدشن برنامجي قناديل وعناية    أمير الحدود الشمالية يطلع على برامج التجمع الصحي    العين بين أهله.. فماذا دهاكم؟    ماذا يحدث في أندية المدينة؟    أمانة المدينة تطلق الحركة المرورية في طريق سلطانة مع تقاطعي الأمير عبدالمجيد وخالد بن الوليد    قصور الرياض واستثمارها اقتصادياً    أمير حائل يفتتح أكبر قصور العالم التاريخية والأثرية    أمير حائل لمدير قطاع الحرف: أين تراث ومنتوجات حائل؟    شعوب الخليج.. مشتركات وتعايش    تدريب 25 من قادة وزارة الإعلام على تقنيات الذكاء الاصطناعي    سلسلة من الزلازل تهز تايوان    مساجد المملكة تذكر بنعمة الأمن واجتماع الكلمة    نائب أمير جازان يدشن حملة «الدين يسر»    حاجز الردع النفسي    الرياض تستضيف معرضاً دولياً لمستلزمات الإعاقة والتأهيل.. مايو المقبل    محافظ طبرجل يطلع على الخدمات البلدية    «البيئة» تُطلق مسابقة أجمل الصور والفيديوهات لبيئة المملكة    الزائر السري    أمير الرياض يرعى حفل تخريج دفعة من طلبة الدراسات العليا في جامعة الفيصل    وزير «الإسلامية» للوكلاء والمديرين: كثفوا جولات الرقابة وتابعوا الاحتياجات    انطلاق منتدى «حِمى» بمشاركة محلية ودولية.. ريادة سعودية في حماية البيئة لمستقبل العالم والأجيال    سعود بن بندر يستقبل أمين الشرقية ورئيس «جزائية الخبر»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تزفيتان تودوروف ينتقل إلى نقد العالم
نشر في الحياة يوم 22 - 05 - 2012

استهل حياته المعرفية ناقداً أدبياً، محاطاً بنصوص متعددة اللغات، ووصل لاحقاً إلى نقد العالم كله، باحثاً عن لغة إنسانية جامعة. بدأت شهرته، وهو البلغاري الذي حصل على جنسية فرنسية، مع فرنسيين آخرين نصّبوا البنيوية، في ستينات القرن الماضي، علماً للعلوم، واعتبروا أن ما لا تقول به"البنية"أيديولوجياً، تليق بالسلطات التقليدية ولا تليق بالعلماء. عاد بعد أربعين عاماً إلى المبادئ الإنسانية البسيطة، التي تدين القتل و"القنابل الديموقراطية"، التي تقطع رأس"المتخلّف"قبل أن تعترف بوجوده، وعاد إلى لغة شفافة واضحة، تحتكم إلى الحس الإنساني، ولا يؤرقها الفارق بين العلم والأيديولوجيا.
قبل أن يصل إلى كتابه النبيل والمرعب في نبله"فتح أميركا"، عام 1982، كان تزفيتان تودوروف قد أنجز مكتبة في النقد الأدبي، جمعت بين"الشعرية"و"علوم اللغة"وبين شعرية النثر والأدب العجائبي، مروراً ب"ديكاميرون"وقواعده النحوية وبميخائيل باختين والمبدأ الحواري... دشّن مساره النقدي بنصوص روسية نشرها في كتاب:"نظرية الأدب"- 1965 - مصرّحاً بأنه ينتمي إلى الشكليين الروس، وأنه يطوّر أفكارهم في سياق مختلف. غير أن ذلك الانبهار البنيوي، الموطّد بنسب شكلاني، ما لبث أن سقط عن موقعه، من دون صدى مهيب، بعد حوالى عشرين عاماً حين نشر الناقد الهارب من الشيوعية عمله"نقد النقد"1984 مصرّحاً بفقر النقد البنيوي وقصوره. ولعل إحساسه بالحياد الرخو لهذا النقد، الذي يمكن أن يوظّف لمصلحة"الثائرين"والخانعين معاً، هو الذي دفعه لاحقاً إلى وضع كتابه الصغير"الأدب في خطر"2007 الذي كشف فيه عن الاستعمال الاتباعي المحافظ لذلك"النقد الأدبي"، الذي أراد، في سياق آخر، أن يثور على كل شيء.
هل تأمل تودوروف"الأرشيف الدامي"لأقدار الهنود الحمر، وهو يكتب"فتح أميركا"، هو الذي أخرجه من النقد الاحترافي المقتصد الهموم إلى رحاب"المأساة الإنسانية"، أم إن وقائع الحياة، التي تتجاوز المفاهيم، هي التي أخذت بيده من مجال معرفي إلى آخر، ومن"إشكاليات النصوص"إلى قضايا الإرهاب والعنصرية و"سديم النظام الدولي الجديد؟". يأتي الجواب من تلك الكتب المتوالدة المتنقلة من قضايا معيشة مؤرقة، إلى قضايا ترمي على الضمير الإنساني بالعار. ساءل الباحث في هذه الكتب معنى الحداثة والعالم المعاصر، واستأنف بها هواجس مثقفين إنسانيين كبار، لم يكن آخرهم بيير بورديو.
يُقرأ كتاب تودوروف الأخير"أعداء الديموقراطية الحميمون"دار روبرت لافون، باريس، 2012 في ذاته وفي كتب المؤلف التي سبقته في آن: يُقرأ في ذاته بسبب"الموضوع الأساسي"الذي يعالجه، القائل بأن أدعياء الديموقراطية هم أعداء الديموقراطية قبل غيرهم، ويُقرأ في كتب تودوروف الأخرى، التي ندّدت بالاستبداد والنظام العالمي الجديد وتدمير الشعوب وأخطاء التنوير الأوروبي والثورة الفرنسية، وتداعي القيم الإنسانية في المجتمع الاستهلاكي... لذا، يبدو الكتاب امتداداً توضيحياً لما سبقه، ويبدو غيره مداخل له، منذ كتاب"نحن والآخرون"- 1989، الذي تلاه بعد عامين:"غويا على ضوء عصر الأنوار".
يحمل عنوان الكتاب الجديد مفارقة ساخرة، تضع في الظواهر ما لا يأتلف مع طبيعتها، مصالحة بين الفضيلة والرذيلة معاً. والمتوقع منه، إن كانت له علاقة حميمة مع الأيديولوجيا الغربية المسيطرة، أن يعطف العداء للديموقراطية على ما هو مغترب عن"المركزية الغربية"، صينياً كان أم عاملاً أفريقياً مهاجراً، أو مسلماً متعصّباً"مزنّراً بالمواد المتفجّرة". غير أن خطاب تودوروف، الهاجس ب"ثمن الحقيقة"، يحيل على الدول الغربية الكبرى المنتصرة بترساناتها العسكرية، وعلى أحزاب سياسية أوروبية صاعدة، تطالب بتطهير أوروبا من غير الأوروبيين.
نقل تصنيع الإرهاب، الذي على الغرب أن يردّ عليه، الديموقراطية الغربية"الأصيلة"من موقع إلى آخر، جعلها عدواً للديموقراطية بحجة الدفاع عنها. صدر الاستبدال عن تطرّف في النظر إلى الذات، إذ الغرب هو الحقيقة ولا حقيقة خارجه، وعن تطرف في النظر إلى الآخر، الذي يجب ألا يوجد إلا كما أراده الغرب أن يكون. يتراءى في التطرف الأول"التألّه الذاتي"، الذي يفترض طرفاً إنسانياً معصوماً من الخطأ، قنابله فضيلة وفضائله قنابل، وتتراءى في الثاني نزعة رسولية حاسمة، تقتلع من"الإنسان المستبد"ما يجب اقتلاعه، وتخبره بأنّ عليه أن يكون"غربياً"أو أن لا يكون. لا جديد في، الحالين، إلا بما سمحت به الليبرالية الجديدة ومنحته كساء على صورتها، فالجوهر الإنساني المتألّه امتداد مشوّه لفكر التنوير الأوروبي، الذي مجّد الإنسان واعترف بمحدودية إمكاناته، والرسولية السياسية متاع قديم، يعود إلى القرن التاسع عشر، مع فرق حاسم أضافته الليبرالية الجديدة المنتصرة، التي جعلت إنسانية القرن الحادي والعشرين تحتكم إلى طرف وحيد مسيطر.
انشغل كتاب تودوروف بموضوع الإنسان العاجز، نظرياً وعملياً، عن امتلك الحقيقة، وبحلم المساواة بين الشعوب المختلفة، المؤجل إلى زمن غير منظور. ذلك أن الغرب الراهن أعاد صوغ الموضوعين معاً، واشتق"الكمال الإنساني"من التفوق التقني والعسكري والاقتصادي، واشتق تفاوت البشر من اختلاف القوة عن الضعف، إذ القوي هو الفضيلة، وإذا الضعيف يحتاج إلى أكثر من عقاب ليعرف الصواب.
تأمل تودوروف، في كتابه الأخير، لا ديموقراطية"الديموقراطيين"في اتجاهين: الاتجاه الذي يأخذ على عاتقه تمدين العراق وأفغانستان وليبيا متوسلاً القنابل والصواريخ والاتجاه الذي يمجد الإنسان الحر والمبادرة، في زمن الليبرالية الجديدة، ويستعيض عن الإنسان بإرادة السوق، واصلاً إلى عدد قليل من"الأفراد الأثرياء"يتحكمون بالغالبية العظمى من البشر. والنتيجة لا تشير إلى الديموقراطية ولا إلى عصر التنوير، بل إلى تلك المفارقة التي تحدث عنها شكسبير، منذ قرون، التي تعطف الحق والذكاء والجمال على القوة وتعطف الفضيلة على سطوة النقود. والنتيجة التي تشيع التشاؤم ماثلة في مراوحة القهر الإنساني، حيث في الليبرالية"العلمية"التي أعقبت سقوط جدار برلين عام 1989، ما لا يختلف عن"الاشتراكية العلمية"، التي عطّلت الفرد باسم"المجموع المؤمم"، كما لو كانت السوق الليبرالية قد أخذت مكان"حزب الطبقة العاملة"البيروقراطي.
سؤال عادي ولا بدّ منه في آن: ما الأسباب التي دعت تودوروف إلى الانتقال من اختصاص أدبي نخبوي اللغة إلى الكتابة عن أمر عام بلغة واضحة لا تحتاج إلى الاختصاص؟ يكمن الجواب ربما في تطوير معنى النقد وتوسيع آفاقه والانتقال، تالياً، من نقد النصوص، التي تهم فئة محدودة من القراء، إلى نقد الواقع، الذي يتجاوز مقولة القارئ إلى مقولة الإنسان العام. وربما يكمن في الزهد بما يدعى"النخبة"والخروج من فضائها الضيق، وهو ما لمحه إدوارد سعيد، مبكراً، حين رأى العلاقة بين"النخبة النقدية المختصة"والسياسة المحافظة في زمن رونالد ريغان.
ولعل الزهد بالاختصاص الضيق، كما الانفتاح على الحياة اليومية، هو ما نقل الناقدين سعيد وتودوروف من النقد الأدبي إلى النقد الثقافي وأقنعهما، معاً، ب"النقد الدنيوي"، إذ النص جزء من العالم والعالم جزء من النص، ومن العبث الفصل بينهما.
ومع أن للنقد الأدبي تعددية نظرية خاصة به، تضيف علم النفس إلى علم اللغة وتعطف الطرفين على تاريخ الأدب والأدب المقارن، فإن قراءة العالم، بلغة الفيلسوف الألماني هانز بلومنبيرغ، تستدعي تعددية أكثر اتساعاً وشمولاً، قوامها السياسة وعلم التاريخ وتاريخ الأفكار، وقوامها أولاً ما يجري على الأرض، بدءاً من آلام الجياع وصولاً إلى الحملات العسكرية، التي تعيد تخليق مدن كثيرة. وفي الحالات جميعاً هناك التجربة الذاتية، التي تحذف وتضيف وتعيد ترتيب الأفكار، فبعد"التجربة البلغارية"في بلد شيوعي يقيّد الأفراد ويمنع الحق في الكلام، جاءت"التجربة الفرنسية"في بلد رأسمالي ديموقراطي، يسمح للمثقف بحرية القول والحركة. غير أن هذه التجربة، التي كانت تصطدم بالرقابة البوليسية اصطدمت، لاحقاً، بصورة"حلف الأطلسي"التي تدفع العسكري الفرنسي إلى"مراقبة"البشر في البلدان التي عليها أن"تتعلم"مبادئ الديموقراطية. ولعل الانتقال من الرقابة البلغارية المحدودة إلى الرقابة الأطلسية الواسعة النفوذ هو ما أشاع تشاؤماً طليقاً في خطاب الناقد، ودفعه إلى قياس اللاحق على السابق، أو بالعكس، تعبيراً عن يأس لا بدّ منه، يصاحب المثقف في الأنظمة جميعاً. حين يستعيد تودوروف شيئاً من الأمل التنويري الخاص بحكومة عالمية يقول""طالما أنه لا يوجد حكومة عالمية، وهو مطلب ضعيف الجاذبية، ستبقى العدالة الكونية واجهة لمصالح الأطراف القوية".
العدالة أمل صعب المنال، والدعوة إلى العدالة واجب أخلاقي، وحلم المثقف مهنة صعبة تتمسك بعدالة لا تأتي وترنو إلى أمل متجدد التأجيل. ليس في الانتقال من نقد النصوص إلى نقد العالم ما يبعث في الروح المسرّة، لكنه انتقال لا تفلح الأرواح الخيّرة في الهرب منه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.