مبادرة السعودية الخضراء تُطلق شخصية "نمّور"    صندوق الاستثمارات يعلن تسعيراً ناجحاً لأول عرض سندات بالجنيه الإسترليني    «الأرصاد»: طقس مكة والمشاعر في الحج حار إلى شديد الحرارة    النسخة5 من برنامج "جسور" لتأهيل المبتعثين بالولايات المتحدة    تراجع أسعار النفط    الملحقية الثقافية بواشنطن تستعرض برنامج "أدرس في السعودية"    ارتفاع درجات الحرارة العظمى في 3 مناطق    زيادة إنفاق المستهلكين 36% الأسبوع الماضي    الدوسري يشارك في المران الجماعي ل"الأخضر"    حشد عربي لمواجهة التصحر وتحدياته بالمنطقة    "التعاون الإسلامي" ترحب باعتراف حكومة سلوفينيا بدولة فلسطين    نسرين طافش: «النسويات» قاصرات منافقات.. ونوايا خبيثة !    أمير الباحة ل«التعليم»: هيئوا وسائل الراحة للطلاب والطالبات    أمير تبوك يطلع على سير الاختبارات بالمنطقة    الإسباني "هييرو" يتولى منصب المدير الرياضي في النصر    تستمر 3 أيام.. والرزيزاء: احتفالنا ليس للصعود    بسبب اجتهاد شخصي.. هل تعطل العالم ب«سذاجة» ؟    السعودية واحة فريدة للأمن والأمان ( 1 2 )    دعوة عربية للتعامل الإيجابي مع جهود وقف إطلاق النار في غزة    «أندرويد» يسمح بتعديل الرسائل    أشاد بدعم القيادة للمشاريع التنموية.. أمير الشرقية يدشن مشروعي تطوير بجسر الملك فهد    خلال ترؤسه جلسة مجلس الوزراء عبر الاتصال المرئي.. خادم الحرمين: المملكة تعتز قيادةً وشعباً بخدمة الحرمين الشريفين وقاصديهما    «طيران الرياض» يعزز خطوطه العالمية    انطلاقة مشرقة لتعليم عسكري احترافي.. الأمير خالد بن سلمان يدشن جامعة الدفاع الوطني    صدق أرسطو وكذب مسيلمة    الحسيني وحصاد السنين في الصحافة والتربية "2"    الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف بمنفذ الوديعة الحدودي    اتفاقية تعاون وصناعات دفاعية بين المملكة والبرازيل    تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين.. مؤتمر دولي عن البرنامج السعودي للتوائم الملتصقة    ناصحاً الحجاج.. استشاري: استخدموا الشمسية خلال التنقل في المشاعر    الشؤون الإسلامية تطلق حملة التبرع بالدم بالتعاون مع صحة جازان    القيادة تهنئ كلاوديا شينباوم بمناسبة فوزها بالانتخابات الرئاسية في المكسيك    «تكافل الخيرية» ترسم طريق الاستدامة    الملك يطمئن على ترتيبات الحج ويؤكد اعتزاز المملكة بخدمة الحرمين    أوتافيو خارج قائمة البرتغال    شاموسكا مدرباً لنيوم لموسمين    تنافس مثير في بطولة العالم للبلياردو بجدة    البرازيل تستعرض أغلى بقرة في العالم    «لا تضيّقها وهي واسعة» !    عالم عطور الشرق !    كيف يمكننا أن نتخذ قراراتنا بموضوعية؟    من أعلام جازان… فضيلة الشيخ الدكتور علي بن محمد الفقيهي    محافظ مرات يتفقد مشروع السوق بالبلدة التاريخية    وزير الشؤون الإسلامية يناقش تهيئة المساجد ومتابعة احتياجاتها    تعزيز مبادرة أنسنة الخدمات بتوفير مصاحف «برايل» لذوي الهمم من ضيوف الرحمن    تدشين كرسي الأئمة للإفتاء وإجابة السائلين في المسجد النبوي    جمعية تعظيم تطلق مبادرة تعطير مساجد المشاعر المقدسة    فتح باب التقديم على برنامج فني رعاية مرضى    تخصيص منزل لأبناء متوفية بالسرطان    انتخابات أمريكية غير تقليدية    بعد انتشار قطع ملوثة دعوة لغسل الملابس قبل الارتداء    %8 استشارات أطباء التخصص العام    أمير تبوك يشيد بجهود المتطوعين لخدمة الحجاج    أمير نجران يُثمِّن جاهزية التعليم للاختبارات    الدوحة تسلم «حماس» مقترحاً إسرائيلياً.. ونتنياهو يطالب بضمانات أمريكية لاستئناف الحرب    مودي يحتفل بفوزه في الانتخابات الهندية رغم تراجع غالبيته    مفخرة التطوع    رئيس هيئة الأركان العامة : جامعة الدفاع الوطني تؤسس لمرحلة جديدة وانطلاقة مشرقة لمستقبل تعليمي عسكري احترافي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جمعة الغضب
نشر في الحياة يوم 27 - 09 - 2011

لوّح الأهالي بالأعلام من شرفات عمارات"التوفيقية"، فالتهبت حماسة الجميع، وانتظم الهتاف حتى رج الشارع، لكنه توقف مرة واحدة، ثم حدث هرج، وتقهقر الجميع في هلع غير مفهوم، وفي ما بدا أنه الفخ، لم تكن يدانا متعانقتين بما يكفي، وجدتُ نفسي مرمياً على رصيف نادي"الزهور"، فوقي عدد من الأشخاص، وكانت هي تنهض من الرصيف المقابل، تنفض التراب عن ملابسها وتتلفت في هلع، وحين التقت عينانا، انفرجتْ أساريرها وأعادت في هذه اللحظة يدها إلى يدي ولم تفلتها، وصرخ الرجل الأشعث وهو يمسح الدم النازل على وجهه:
- مش قلتلكم مخبوين... الشعب... يويد... إسقاط النظام.
لا أدري كيف أضفتْ عليه اللدغة التي عجز عن إخفائها تماماً كل هذه الإنسانية والصدق، وأعاده الألم في صوته المتهدّج، والدم الساقط على وجهه مرة أخرى إلى بؤرة الهتاف، ولا متى اتسم هديرنا بالغضب المكتوم وانتظمت أرجلنا في دق أرض الشارع، وارتفعت أيدينا كأنها تمسك بمطارق، خمس مرات لكل هتاف، اثنتان منفصلتان وثلاث طرقات متتابعة، كأننا نتوعد، ولا متى كسر كل هؤلاء السياج الذي فرض عليهم بإحكام كي يسيروا خلف لقمة العيش، وتدبير الاحتياجات الأساسية، وتمر أعمارهم هكذا من دون أن يخرجوا في مسيرة واحدة، أو يدلوا بأصواتهم في انتخابات، لكنني غبطتُ البنت الممسكة بيدي اليسرى لأنها نزلت إلى الشارع مبكراً من دون أن تخبر أهلها.
في التقاء"يوسف عباس"ب"العروبة"زال الخوف بفضل حشود قادمة من"مساكن شيراتون"و?"مصر الجديدة"، فهتف المطلون من"عمارات العبور"، وأطلقت السيارات المتضامنة على الجانب الآخر أبواقها، وصارت المسيرة كرنفالية بفضل وجود نساء وأطفال وصبية ومسنين، وصار عناق قبضتينا إلفة أكثر منه حماية، فانتحينا بالأشعث ذي الوجه المضرج بالدماء جانباً وضمدت له جرحاً صغيراً في فروة الرأس فتوقف النزف، فيما صبت له البنت من زجاجة الماء فغسل وجهه، وحين قال شكراً جعلتني اللدغة ونبرة الصوت وملامح الوجه الذي لفحته الشمس أسأله عما إذا كان يبيع في الثمانينات كتباً قديمة على سور كلية طب عين شمس، فهز رأسه يميناً ويساراً في حسم وقال: لا. شعرت لوهلة بخيبة أمل حين ردّ قبل أن أكمل السؤال، وكنت أريد أن أخبره بأن سور كلية الطب بكتبه التي يمنعها من الوقوع حبل رفيع كان الزاد الأول الذي رسم لي بداية الطريق وحدد ميولي واختياراتي، ولاح لي أن سرعته في النفي تؤكد ربما أكثر مما تنفي وقوفه بأعداد"الطليعة"و"الكاتب"و"دراسات اشتراكية"و"السياسة الدولية"، وروايات منزوعة الغلاف لتشيكوف وتولستوي ودويستوفيسكي. أعدتُ السؤال بطريقة أخرى، لكنه انتزع نفسه من بين يدي واندفع بين الجموع وهتف، فعرفت أنه صار مجذوباً إلى الشارع.
مع انحرافنا من"العروبة"يميناً باتجاه"العباسية"، بدا السير وئيداً، والتحمت بمسيرتنا واحدة قادمة من"الخليفة المأمون"، وأخرى من شارع"الجيش"، وتوقفت الحركة تماماً على جسري"العباسية"و?"أكتوبر"، وانحنى قائدو السيارات على سورَي الجسرين بهواتفهم يصورون الميدان المكتظ بالبشر من كل اتجاه. شبتْ على قدميها وسألتني:
- فاضل أد إيه ع التحرير؟
- مسافة أد اللي مشيناها.
صارحتها أن المشي سيراً على الأقدام لمسافة ستة كيلومترات على مدار ساعتين يكفي كمشاركة رمزية لشخصين كلاهما يخرج في مسيرة ضخمة للمرة الأولى، فخرج صوتها المبحوح متسائلاً:
- بس أنا لسه متعبتش.
كنت أشعر بالتعب أنا الذي أبلغ من العمر ثلاثة أضعاف عمرها، وبأنني مضطر إلى العودة، فأمامي سفر إلى مدينتي، وينتظرني مرضى في السادسة، لكنني خجلتُ حين رأيت الأشعث بضمادته يقبل رجلاً معاقاً يسير على عكازين ويهتف رافعاً سبابته، فاستمررت في السير حتى أسفل جسر العباسية، وفي الزحام اختلستُ النظر إلى ساعتي وقلت إن عليّ الآن أن أرجع، وطلبتُ منها أن تحسم أمرها وألا تركن إلى جرأة اكتسبتها خلال ساعتين، فالضرب سيكون في"التحرير"، فتراخت يدها من يدي ووعدتني ألا تذهب إلى"التحرير"، لكنها ستمشي قليلاً ثم تعود من الطريق نفسه. طلبت منها تليفونها حتى أطمئن عليها بعد أن تعود الخدمة المقطوعة، فقالت إنها ليس معها تليفون. شعرتْ أنها زادت حيرتي، فاقترحتْ أن أعطيها رقمي لتطمئنني هي من أي تليفون أرضي، فشددت على يدها واخترت سيدة تسير إلى جوارها، وأوصيتها ألا تترك يدها، وأن تهرب متى شعرت بالخطر، فأومأت برأسها.
على الجانب الآخر من الطريق، في انتظار تاكسي عائد، وبقدر ما كنت سعيداً بمشاركتي الرمزية في المسيرة، كنت أشعر بالهزيمة، وبالانسحاب، وبشيء من الخزي إذ لم تراجع البنت نفسها وتخرج من بين الحشود قادمة باتجاهي كما تمنيت، فيما كانت تراودني رغبة في أن أندس بين الحشود مرة أخرى، لأخرجها بالقوة بصفتي أباها، وأجلسها في التاكسي، وألا أتركها في"رابعة"حيث التقينا، لتركب سيارة ميكروباص إلى الحي العاشر حيث تسكن مع أسرة من خمسة أفراد، ولكن لأعيدها إلى أهلها الذين تركتهم ونزلت من دون أن تخبرهم، وأتأكد أنها لن تترك ثانية ثانوي تجاري بسبب المصروفات، لكنها ذابت في ما يبدو وسط الحشود التي رأيتها في المساء وأنا أتنقل بين شاشات الفضائيات حتى الساعات الأولى من صباح السبت وقبل أن أغلق التلفزيون، مرت الكاميرا بسرعة على أدراج ثلاجة الموتى نصف المفتوحة، وما أصابني بالفجيعة والحزن والعزلة أنني رأيته يطل من الدرج نصف المفتوح بضمادة وعينين مفتوحتين ووجه لفحته الشمس، فانسحبت في ذهول إلى غرفتي ملتزماً الصمت، حتى إذا ما رن الهاتف، أهرع إليه في حماسة، لكنني لا ألبث أن أفقد حماستي مع أول صوت.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.