السعودية.. مسيرة نجاح بقيادة حازمة ورؤية طموحة    مركز الملك سلمان للإغاثة يُنظم جلسة عن "النهج الترابطي بين العمل الإنساني والتنمية والسلام" بنيويورك    القيادة تهنئ رئيسة جمهورية ترينيداد وتوباغو والقائد الأعلى للقوات المسلحة بمناسبة ذكرى يوم الجمهورية لبلادها    (الهفتاء ) يتلقى تكريمًا واسعًا من إعلاميي السعودية والعالم العربي    احتفالا باليوم الوطني 95..أسواق العثيم تؤكد استمرار مساهماتها الداعمة للقطاعات الاقتصادية والاستثمار المحلي    أبناء وبنات مجمع الأمير سلطان للتأهيل يزورون مرضى مجمع الدمام الطبي    مشاركة واسعة من الأهالي والزوار في فعاليات المنطقة الشرقية في اليوم الوطني 95    «ناسا» تكشف عن فريقها ال24 من روّاد الفضاء 23 سبتمبر 2025    ارتفاع أسعار النفط    مؤتمر حل الدولتين انتصار تاريخي لصوت الحكمة والعدالة والقيم على آلة الحرب والدمار والصلف    الأمير سعود بن مشعل يشهد الحفل الذي أقامته إمارة المنطقة بمناسبة اليوم الوطني 95    وزارة الداخلية تختتم فعالية "عز الوطن"    تمكين السياحة.. إبراز الهوية وتعزيز المكانة العالمية    فقيد الأمة: رحيل الشيخ عبد العزيز آل الشيخ وعطاء لا يُنسى    وزير النقل يعلن تبرع خادم الحرمين بمليون دولار دعما لمنظمة الطيران المدني الدولي    الجبير يلتقي رئيسة وزراء جمهورية باربادوس    47 منظمة إنسانية تحذر من المجاعة باليمن    وصفها ب«الثمينة» مع السعودية ودول الخليج.. ترمب: علاقات واشنطن والرياض دعامة أساسية للاستقرار العالمي    «كروز» ترسخ مكانة السعودية في السياحة البحرية    ضبط 4 مقيمين مخالفين لنظام البيئة    تغلب على الأهلي بثلاثية.. بيراميدز يتوج بكأس القارات الثلاث «إنتركونتنتال»    أوقفوا نزيف الهلال    أخضر 17 يتغلب على الكويت برباعية في «الخليجية»    الكرة في ملعب مسيري النادي أيها الفتحاويون    التقي القيادات في منطقة نجران.. وزير الداخلية: الأمنيون والعسكريون يتفانون في صون استقرار الوطن    القيادة تتلقى تعازي قادة دول في مفتى عام المملكة    الملك سلمان: نحمد الله على ما تحقق من إنجازات في بلادنا الغالية    قصص شعرية    أحلام تتألق في الشرقية بليلة غنائية وطنية    علماء يبتكرون خاتماً لاحتواء القلق    الصحة تحذر من تفاقم الأزمة الإنسانية.. مستشفيات غزة على وشك التوقف    المشي يقلل خطر الإصابة بآلام الظهر المزمنة    اليوم الوطني.. الدبلوماسية السعودية باقتدار    سعوديبيديا تصدر ملحقا عن اليوم الوطني السعودي 95    فيصل بن مشعل يرعى مسيرة اليوم الوطني واحتفال أهالي القصيم    رياضتنا في 95 عاماً.. إرشيف رياضي وصفحات تاريخية خالدة    نمو أقوى في 2025 و2026 للاقتصاد الخليجي بقوة أداء القطاعات غير النفطية    الدفاع المدني يشارك في فعالية وزارة الداخلية "عز الوطن" احتفاءً باليوم الوطني ال (95) للمملكة    محافظة طريب تحتفل باليوم الوطني ال95    القوات الخاصة للأمن والحماية تشارك في مسيرة احتفالات اليوم الوطني السعودي ال(95) بمحافظة الدرعية    المحائلي تبدع بالفن التشكيلي في اليوم الوطني ال95 رغم صغر سنها    الاتحاد يتأهل لثمن نهائي الكأس على حساب الوحدة    رحيل مفتي المملكة.. إرث علمي ومسيرة خالدة    بلان يتحدث عن موقف بنزيما من لقاء النصر    صلاة الغائب على سماحة المفتي العام للمملكة في المسجد النبوي    السعودية ترحب بالاعترافات الدولية بفلسطين خلال مؤتمر حل الدولتين    الهلال الأحمر بالقصيم يكمل جاهزيته للاحتفال باليوم الوطني ال95 ومبادرة غرسة وطن وزيارة المصابين    الأحساء تشهد نجاح أول عملية بالمملكة لاستئصال ورم كلوي باستخدام جراحة الروبوت    أمير جازان ونائبه يزوران معرض نموذج الرعاية الصحية السعودي    صندوق الوقف الصحي يطلق النسخة من مبادرة وليد تزامنا مع اليوم الوطني ال95    المشي المنتظم يقلل خطر الإصابة بآلام الظهر المزمنة    مركز التنمية الاجتماعية بوادي الدواسر يحتفي باليوم الوطني ال95 للمملكة    فضيلة المستشار الشرعي بجازان: " قيادة وشعبًا متماسكين في وطنٍ عظيم "    100 شاب يبدؤون رحلتهم نحو الإقلاع عن التدخين في كلاسيكو جدة    الأمن يحبط تهريب 145.7 كجم مخدرات    حفاظاً على جودة الحياة.. «البلديات»: 200 ألف ريال غرامة تقسيم الوحدات السكنية    القوات الأمنية تستعرض عرضًا دراميًا يحاكي الجاهزية الميدانية بعنوان (حنّا لها)    عزنا بطبعنا.. المبادئ السعودية ركيزة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كلمة اختتام السنة الدراسية في الجامعة الأميركية في بيروت . صرح ثقافي عريق يشبه حيوية لبنان ويشهد على حوادث شرقية مزلزلة
نشر في الحياة يوم 27 - 06 - 2010

{ ألقى البروفسور وليد الخالدي أمس كلمة اختتام السنة الدراسية في الجامعة الأميركية في بيروت امام الخريجين وأهلهم والمدعوين، كما ألقى ظهراً كلمة في احتفال خاص أقامته الجامعة لمنحه الدكتوراه الفخرية مع اريك رولو ودريد لحام.
هنا الكلمتان:
I
وقعت في مشرقنا العربي في القرن العشرين ثلاثة حوادث مزلزلة، طبعت وسيّرت حياة الآباء والأجداد، في عائلة كل منا جميعاً. ويحمل كل منا في نفسه، شاء أم أبى، بصمات التغيير الذي أحدثته هذه الحوادث الجسام.
لم تكن الجامعة الأميركية في بيروت شاهداً على هذه الحوادث الخطيرة فحسب، بل انها شهدت كذلك ما اعتمل من صدمات وآمال الآباء والأجداد وهم يتعاملون معها.
كانت الولايات المتحدة الأميركية، وهي بلدُ مؤسسي هذا الحرم الملهم الجامعة الأميركية في بيروت، وثيقة الصلة بهذا القدر أو ذاك، بتلك التغييرات وذيولها التي لا تزال تتسع أمواج عواقبها الى يومنا.
فما هي تلك الحوادث المزلزلة التي أتكلم عنها؟
أولاً: انهيار سريع لأربعمئة سنة من الحكم العثماني، في أعقاب الحرب العالمية الأولى، واستبداله بقوة السلاح، ليحل محله نظام دولي جديد، مهندسوه وقاطفو ثماره، هم القوتان الإمبرياليتان العظميان آنذاك: بريطانيا وفرنسا.
ثانياً: الثمرة الحتمية للشجرة البريطانية المسماة بالوطن القومي اليهودي والتي أثمرت قيام دولة اسرائيل على أنقاض فلسطين عام 1948 أي ما يعرف بالنكبة.
وثالثاً: إعادة تأكيد القوة العسكرية الصهيونية، بعد عقدين من الزمن، في حزيران يونيو من عام 1967، وانحسار الموجة العلمانية الوحدوية العربية، وإذلال رمزها وبطلها جمال عبدالناصر، وتوسع الحدود الإسرائيلية: حتى قناة السويس في الجنوب، وإلى نهر الأردن شرقاً، وعلى مشارف دمشق شمالاً.
لست ممن يرجع الى الماضي ليتجنّب المستقبل، بل أعود الى الماضي لأذكّر بأن سهم الزمن ينطلق من الماضي ويمر بالحاضر، ليواصل تحليقه في المستقبل.
II
منذ نحو 145 سنة، رست في ميناء بيروت السفينة الشراعية"السلطانة"، وكان على متنها مجموعة غير عادية من الرجال جاؤوا حاملين معهم جوهر ما في القيم الفضلى من بلادهم البعيدة: نزاهة القصد والتزام الخدمة واستقامة في التعامل مع الغير وطاقة لا تنضب وتفاؤل لا يكل.
كانت التلة حيث مبنى الجامعة، والتي أعيد تزيينها أخيراً بمبنى كولدج هول، أرضاً خلاء وغير آهلة، لا حركة فيها سوى عصف الريح. لكن يداً أشبه بيد ساحر، أنشأت عليها اول جامعة ليبرالية حديثة في العالم العربي. لم تمس الحرب العالمية الأولى الجامعة بسوء، ويُعزى هذا على الخصوص، الى ان الولايات المتحدة الأميركية لم تعلن الحرب على السلطنة العثمانية، بل كانت في الواقع تحاول ان تفك تحالف السلطنة مع ألمانيا. وأترك لكم أن تتخيلوا اين كنا سنكون جميعاً اليوم لو انها أفلحت في مسعاها هذا.
III
في عام 1919 كان الرئيس وودرو ولسون اقترح للتو نقاطه الأربع عشرة، كتسوية لما بعد الحرب، وجوهرها حق الشعوب المستعمرة في تقرير المصير. لقد بعث هذا المبدأ القشعريرة في بريطانيا وفرنسا، اللتين كان لعابهما يسيل لجني غنائم الحرب من الإمبراطوريات المهزومة.
كان هاورد بلس خلف والده رئيساً للجامعة الأميركية، وكان صديقاً شخصياً لولسون، وكان يفهم المزاج الشعبي في المشرق. وسعى لدى الرئيس الأميركي، في مؤتمر فرساي للسلام في باريس، كي يرسل لجنة مشتركة من الدول الحليفة، قوامها"حكماء غير منحازين"لاستطلاع رغبات المنطقة.
تقبل ولسون هذا الاقتراح، لكن رئيس الوزراء الفرنسي جورج كليمنصو، ورئيس الوزراء البريطاني لويد جورج، تآمرا للتملص من ذاك الاقتراح. وعندئذ أوفد ولسون مبعوثين اميركيين: تشارلز كرين وهنري كينغ، وهما من اصدقائه الحميمين ومن قماشة هوارد بلس، الى المشرق العربي. وأرسل المبعوثان الى واشنطن تقريراً عن إجماع المنطقة العربية عملياً على رفض وعد بلفور، والرغبة في الوحدة والاستقلال، فإذا كان من مندوب غربي سيعيَّن ليتولى أمرهم على نحو موقت، فالكثرة الغالبة من العرب كانت تميل الى ان يكون من الولايات المتحدة، لا من بريطانيا ولا من فرنسا.
بحثتُ عام 1961 في محفوظات ولسون في مكتبة فايرستون، فيما كنت في برنستون في سنة إجازة من الجامعة الأميركية في بيروت. وأمسكتُ بيديّ المرتجفتين البرقية التي أرسلها تيوملتي مساعد ولسون، من واشنطن الى الرئيس، وكان في جولة انتخابية في الغرب الأوسط. وسأل تيوملتي ما اذا كان عليه ان يرسل إليه التقرير. كان ولسون بدأ يعاني آلام صداع رهيبة، التي آلت في العاجل إلى إصابته بالعجز: فقد فات الأوان.
أدى اعتناق ولسون مبدأ حق تقرير الشعوب مصيرها، وصدور تقرير كينغ ? كرين على رغم اعتراض بريطانيا وفرنسا. والنزاهة المثالية التي أبداها المبعوثان الأميركيان، ومضمون تقريرهما، الى تعزيز الانطباع الأولي عن الجامعة الأميركية في بيروت، فأنشأت بذلك في النفس العربية، احتياطاً كبيراً من حسن الطوية حيال الولايات المتحدة، استمر عقوداً بعدئذ. أين نحن الآن من هذا المزاج؟
IV
كان لبنان، من بين جميع الدول العربية، أشدها معاناة من جراء تلك التطورات الجديدة، وفي السبعينات، أصاب الإعصار الجامعة الأميركية في بيروت.
أدى التفاهم الماروني ? السني في ميثاق 1943 عملياً، الى استبعاد أسرع الطوائف نمواً من السلطة، فأخذ التوتر يتصاعد.
تآكلت سلطة حكام النخب. واختفت الكياسة الاجتماعية. وعلى هذه الرقعة برزت على المشهد اللبناني منظمة التحرير الفلسطينية وأخذت تنغمس بلا إحساس بالمسؤولية في الخلافات الحزبية المحلية، ناسية أولوياتها الملحة في الأراضي المحتلة، ففاقمت من الأوضاع التي استغلتها إسرائيل بلا رحمة فكانت نتائج ذلك كارثية.
لست هنا لتأريخ الحرب الأهلية اللبنانية، بل لأذكّر بسكرات الموت التي عانتها الجامعة وعانيناها جميعاً معها، عن استشهاد رئيسها مالكوم كير، وفي محنة رئيسها المفوض دافيد دودج، وتدمير مبنى كولدج هول. كانت هذه المحن التي ألمّت بالجامعة، معالم على طريق تحوّلها، الذي كان موقتاً، من منارة الى ساحة حرب، وذلك بفعل تبدل صورة الولايات المتحدة في عيون أهل المنطقة، من مكانة الملاك الولسوني الحارس، الى مرتبة الخصم.
لم تندمل بعد جروح الحرب الأهلية كلها. وتعد المقاومة في جنوب لبنان، ملحمة لانتصار الإنسان على الآلة. وثمة دليل قاطع على ان الآلام التي عاناها لبنان أكسبته خبرة واسعة.
لن تتمكن الجامعة الأميركية من جعل غدها نسخة من أمسها. ان الجامعات، خلافاً لناطحات السحاب التي تنتصب في الجو، لا تستطيع ان تقوم بين ليلة وضحاها، حتى لو حظيت بدعم من أعرق الجامعات في العالم. ولا يوجد في العالم العربي مثل هذا الحشد من المواهب العربية، الذي يضمه حرم هذه الجامعة. هذه المواهب نضجت، مثلما يتخمر النبيذ من تربته الخاصة. ولا يضاهي هذا الحرم في العالم العربي أي حرم آخر، في تعايشه الفذ وخطابه الأكاديمي المميز.
إن لبنان هو بيئة الجامعة الأميركية الطبيعية. ولهذا سبب، فلبنان ليس بلداً عربياً آخر. إذ إنه يستمد فرادته من تنوعه، ولكنه تنوع يختلف عن ذلك التنوع الذي نجده في البلاد العربية الأخرى. فهو يدين بحيويته للتعايش الوثيق بين مكوناته المتعددة والمكوّن المسيحي بين هذه المكونات له على الباقين أي الشيعة والسنة والدروز بل وله على العالم العربي ككل حق خاص لا يمكن نكرانه.
V
ترسّخت روح الغلبة الصهيونية في إسرائيل بعد انتصاري 1948 و1967 الكاسحين.
وترسو هذه الروح على اساس احتكار إسرائيل النووي، والضمان الأميركي لتفوقها العسكري على أي تجمع للدول المجاورة.
وتستمد إسرائيل حيويتها من الدعم غير المتردد الذي محضها إياه اليمين الإنجيلي الأميركي.
ويغذي اعتدادها بنفسها إصرار الكونغرس الأميركي وفي شكل تلقائي على دعم أي خطوة تتخذها إسرائيل مهما كانت.
وفي ما يخص اسرائيل فإن الولايات المتحدة ليست كما تدعي حَكَماً، ولا وسيطاً ولا مراقباً محايداً. فالولايات المتحدة إن هي فعلت امراً ما أو لم تفعله، لاعب أساسي في خلق مشكلة فلسطين وديمومتها كما هي العامل الأكبر في حلها.
إن الاختلال في ميزان القوى المجمل، بين إسرائيل والعالم العربي، يتفاقم بالخلاف الفلسطيني الانتحاري بين الإخوة، وافتقار العرب الى مركز ثقل مادي أو معنوي.
لقد تنامت الآمال في وقت ما، في العالمين العربي والإسلامي، مع تولي الإدارة الأميركية الجديدة سلطاتها. فليس في تاريخ اميركا الشمالية رؤساء اسمهم الأوسط حسين.
الوقت والوقت ثم الوقت هو العنصر المحوري هنا. إن السفير ميتشل، وهو آخر خلفاء كينغ وكرين، ديبلوماسي رائع. غير ان المشكلة العويصة الإرلندية لا تشبه مشكلتنا هذه. فلا البروتستانت ولا الكاثوليك استثمروا زمن التفاوض استثماراً محموماً، ليبدّلوا الخريطة السكانية والجغرافية على الأرض تبديلاً جذرياً.
وليس تدخل الرئاسة الأميركية القوي والمثابر والمصمم، من اجل دفع مسيرة السلام، عمل إحسان حيال العرب أو المسلمين. بل انه المصلحة الأميركية الوطنية العليا نفسها، وإسهام عملاق في الوفاق العالمي.
ويبدو واضحاً ان المقيم في البيت الأبيض، لا يفتقر الى حسن النية، لكن، هل لديه، لهذه القضية، متسع من الوقت في وسط حسد أولوياته الملحة الأخرى؟ وهل في يده من القوة ما يمكّنه من العمل في وجه كونغرس ملكي أكثر من الملك؟
وفي هذه الأثناء، يبدو الخطر الوجودي المزعوم الذي تراه إسرائيل في برنامج ايران النووي، اشبه بكذبة مفضوحة يراد بها صرف الانتباه وتستحق دخول كتاب غينيس للأرقام القياسية.
في عام 1978 اقترحتُ في مقالة لي خطوطاً عامة لحل النزاع العربي ? الإسرائيلي. لم تكن مقترحاتي آنذاك تحظى بتأييد شعبي. لقد اقترحتُ صيغة دولة لفلسطين، تقوم على اقتسام الأرض، لا لأنني أؤمن بعدالة اقتسام الأرض، فأنا لا اؤمن بأن ثمة عدالة في هذه الحياة الدنيا. لكن هذه الصيغة تبقى الوحيدة التي يمكن ان تكون عملية للتعايش السلمي بين إسرائيل وفلسطين، على رغم كل ما بدا من تأييد لسراب حل الدولة الواحدة.
ومفتاح حل الدولتين هو القدس، القدس الشرقية عاصمة لفلسطين، والقدس الغربية عاصمة لإسرائيل.
VI
فيما يجول بصري على هذا البحر المضيء من الوجوه الشابة المشرقة وفيما أحاول ان أحتسب القرون الطوال من الوعد والإنجاز، الذي تختزنه هذه الوجوه، يحدوني الأمل: الأمل في أنكم لن تهجروا مشرقكم، الذي هو في أمس الحاجة إليكم، والأمل أنكم ستخلّفون لأبنائكم وحفدتكم، كل أسباب الافتخار بكم. وتذكروا: ان واجبكم الأخلاقي الأسمى هو الالتفات الى المعدَمين والأقل حظاً منكم في صفوف شعوبنا.
وعسى ان يظل جرس الكولدج هول يدق مؤذناً للدراسة، وأن يتردد صداه، صادحاً كأصوات بلس وكنغ وكرين في جادة بنسلفانيا كما على تلة الكابيتول.
ليبارك الله لبنان... ومع خالص التمنيات لمستقبل باهر.
آثار على الرمال
هذا التكريم يجعلني أشعر بالفخر والامتنان، ذلك انني أتشارك به مع شخصين فذّين هما إريك رولو، عميد المراقبين الغربيين للديار العربية في حوض البحر الأبيض المتوسط، الذي ألقت كتاباته هو دون غيره منهم الضوء الكاشف على أخطر التقاطعات الرئيسية في العلاقات الغربية - العربية على مدى نصف قرن دون انقطاع، ودريد لحام، أمير الظرف والفكاهة في العالم العربي، الذي لم يجعل دموع الضحك تنهمر من أعين الملايين فحسب، لكنه أيضاً أعطى صوتاً للذين لا صوت لهم تجاه أهل الحل والربط.
انني وإن لم أدرس في الجامعة الأميركية في بيروت حيث لم تبدأ علاقتي بالجامعة إلا بعد أن تقدمت باستقالتي من جامعة أوكسفورد كمحاضر والتحقت بهيئة التدريس فيها في العام 1957، غير أنه تربطني بالجامعة شبكة وشيجة من العلاقات الشخصية والعائلية حيث أن والدي وأعمامي الأربعة وأخي وعدداً غير محدود من أقربائي من الذكور والإناث درسوا فيها. بالإضافة الى أن والدي تزوج من لبنانية، وزوجتي كانت لبنانية، وأختي تزوجت من لبناني وكذلك اخواي الإثنان. كما ان والدي يرقد بجوار منارة الإمام الأوزاعي البيضاء. فبالنسبة إليّ، تشكل آلام فلسطين ولبنان التوأم ما يسمّيه الشاعر تي.إس. إليوت"ضَرَر العمر".
إن الحقيقة طريدة بعيدة المنال. وهي تبدو مختلفة بالنسبة الى مهراجا من فوق فيله، وإلى الأجير السائر من خلفه. وحقوق الحيوان هراء بالنسبة الى الخروف الذاهب الى الذبح. وإنني لأشهد عن معرفة بأن البحث عن الحقيقة لا يتم بحماسة أشد على ضفاف نهر"أيزيس"أكسفورد أو نهر"كام"كمبريدج أو على ضفاف بحيرة"كارنيغي"برنستون، منها في أروقة جامعتنا هذه الجامعة الأميركية.
يتحدث والدي في مذكراته غير المنشورة عن سنوات حياته في الجامعة الأميركية في بيروت ما بين عامي 1916 و1918 بلغة شعرية عن أساتذته آنذاك الذين تشكل أسماؤهم قاموس أعلام لرأس بيروت:"ضومط"،"جرداق"،"خوري"،"قربان"،"مقدسي"،"خولي". ويتحدث والدي بالحرارة ذاتها عن أساتذته الأمركيين:"بلس"،"داي""نيكولاي"،"بورتر". وإنني وإن كنت أعجز عن أن أبزّ هذه القائمة من النجوم غير أنه يمكنني أن أجاريها بقائمة من عندي لزملاء لي في الجامعة من الأحياء والراحلين:"بطاطو"،"أيبش"،"فارس"،"صرّوف"،"ثابت"،"صليبي"،"زريق"،"سالم"،"حمادة"،"كراو"،"عاشور"،"دجاني"وأخيراً وليس آخراً شهيدنا"مالكولم كير".
ربطتني علاقة مميزة مع قسطنطين زريق إذ أن وعد بلفور المشؤوم يتوسط تاريخَيْ ميلادنا. فهو من مواليد العام 1919 وأنا من مواليد العام 1925.
ومع حلول العام 1963 كنا قد أسسنا معاً"مؤسسة الدراسات الفلسطينية"، وهي مؤسسة خاصة مستقلة وغير ربحية، تعنى بالشأن العام وغير مرتبطة بأي رابط حكومي أو تنظيمي. وهي الى ذلك مؤسسة عربية، وليست فلسطينية، غايتها الحفاظ على التراث التاريخي لفلسطين والدراسة الشاملة لإسرائيل وسياسات الدول الكبرى تجاهها. ولعل 600 مطبوعة باللغات العربية والإنكليزية والفرنسية، ومكتبة تضم 80 ألف مجلد، وثلاث مجلات فصلية متخصصة، ومطبوعات مشتركة مع جامعات كولومبيا وأكسفورد وكاليفورنيا بالإضافة الى مكاتب في بيروت ورام الله وواشنطن دي سي تشهد على أننا نسير في الاتجاه الصحيح. لكن تأسيس مؤسسة على غرار مؤسسة الدراسات الفلسطينية وضمان استمراريتها ليسا بالنزهة في العالم العربي. ولهذا لا يسعنا إلا أن نبدي إكبارنا لما حققه الآباء المؤسسون لهذه الجامعة العتيدة.
يسرع الوقت بسرعة آلة الحياكة، ويمر بصمت لصوص الليل حتى لو أمسكته من الناصية. بقي الكثير من غير المنجز، إلا أنه لمن المفرح أن تعلم وأنت على عتبة الخرف أن هناك بعض التقدير لأثر قدمك على الرمال.
* مؤرخ وأكاديمي فلسطيني
نشر في العدد: 17250 ت.م: 27-06-2010 ص: 10 ط: الرياض


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.