لو عنّ لنا الحديث عن أعلام الفكر وفرسان القلم تحت سمائنا لحضرتنا أسماء عدة لعلماء أفذاذ مشهود لهم بالكفاءة والتمييز منذ فترات موغلة في القدم، فقد أنجبت تونس البونية ماغون، والرومانية القديسين سيبريانوس وأوغسطين والشاعر أبليوس، كما عاين انخراطها ضمن الحضارة الإسلامية ظهور سحنون وابن الفرات والمازري والحصري وابن رشيق وابن عرفة وابن خلدون والبرزل"وعظوم وابن أبي الضياف والشابي والحداد. وتجددت شعلة الانكباب على التحصيل والامساك بناصية المعارف منذ حلول النصف الأخير من القرن التاسع عشر من خلال تأسيس"المعهد الصادقي"الذي تكفل بتكوين النخبة التونسية المتنورة ريثما تحصل البلاد على استقلالها وتعيد صياغة سياستها التربوية بتأسيس"جامعة تونسية"نحتفل بإشعال شمعتها"الخمسين". نشأت عن حراك عشرية أولى من الاستقلال ما قد تستقيم تسميته ب"جمهورية المعلم"، ذاك الذي جاب بمحفظته الضخمة وقيافته المهيبة البلاد طولا وعرضا، فارتقى إلى مرتبة"الإله الحي"لمّا بدا قادرا على تغيير العقول وتنظيف ما ران على الأدمغة من أمية وتكلس وليد قرون مديدة من الفقر والمرض والجهل والاستكانة. في المدرسة مُعلّم كما في المعهد والكلية، هناك وعلى كل شبر من الوطن المستعاد تواترت أجيال. فصل ومناضد واطلاع دءوب على كيفية الارتقاء بموفور الجهد وبالغ الكد من موقع الانتظار والتواكل إلى مجال العمل والفعل. قال المعلم للآلاف المؤلفة ممّن أمّوا فصله:"المواطنة تحمّل كامل لمسؤولية النفي والإيجاب وتعقّل لجليل مقامهما قولا وفعلا". أعاد قوله مرارا وتكرارا فوقر صداه في الأعماق وحُفر شعارا فوق الجباه. وكان ما كان مما لست أذكره... أيامها تكدّر الماء وتلبّدت السماء وخُنقت الأصوات ورمي بمن تجرأ على المراجعة وراء الشمس، فصحّ العزم على القطع مع"جمهورية المعلمين"ليُشرع الباب على مصراعيه أمام"رجل الأعمال"ودورة المال فتبدل الخلق وتغيرت الأحوال. قال المعلم:"المال قوام للأعمال ولا معنى لدعوى تحرير المبادرة دون تدقيق في واجبات وحقوق مختلف المتعاقدين". يومها...لم يصغ أحد لكلامه ومُدّ حبل التعامل ليغتال العمل ويبتلع الجهد موشكا على إطفاء جذوة الأمل...وبعدها امتلأت المدارس بالمعلمين والمتعلمين وعرفت دور التحصيل والمعرفة جلبة منقطعة النظير شبيهة باختلاط الحابل بالنابل في الأسواق وبلغ السيل... ولأن جميع الطرق تعيدنا إلى حيث انطلقنا، يعود علمنا وخبرنا إلى حال من"قمنا نوفّ جمهوريته التبجيل"، أيعقل أن نسلّم بانتهاء زمن المعلِّمين ونحن لم نملك بعد ثقافة سياسية حقيقية، ولم نجسر على مدى نصف قرن من الاستقلال علاقة صحية بين من لا يملكون في الغالب غير حسهم السياسي ومن هم أدعى بفائق الجد والتحصيل إلى امتلاك ثقافة سياسية حقيقية؟ سؤال صاغه معلم فرد ستة أشهر فقط بعد حصول"التغيير"في تونس، لا يزال مُرجأ الجواب منذ ذلك الحين. "تحت السور"وفي مقاهي أرباض مدينة تونس ظهرت"جماعة"عشقت الفنون وجلت الآداب. جماعة صنعت ربيعا لا تزال أغانيه وأشعاره وأقاصيصه ورواياته محفورة في الذاكرة. تونسيون دفعتهم أزمة الثلاثينات إلى الاحتشاد بمواضع عدة من عاصمة البلاد، فامتزجوا بأرهاط من مدجّنيها"يهود"و"مغاربة"و"جزائريون"و"طرابلسية"و"أناضوليون"و"جورجيون"و"ألبان"و"نابوليطان"و"مورسكيون"و"مالطيون"و"فرنسيون". نوة فنية وإبداعية اخترق دفقها أطر موازية للمدرسة منذ نهاية ستينات القرن الماضي فاسحا لنفسه مجالا استوت طبخته ولا يزال لبعض أعلامه فعل جلل وصيت واسع داخل ساحة البلاد الثقافية. مرّ الشاب"من هناك وتبعه الدوعاجي والحداد وترنان والجويني وخريف ثم لحق بهم المسعدي والمطوي والرياحي والقلعي وغيرهم كُثْرٌ. لم يستهدف الاستعمار الفرنسي بصرف النظر عن طبيعته الاستغلالية غير الخافية بشكل مطلق الفعل الثقافي ولا نظيره الصحافي والنقابي والخيري والجمعياتي. فقد ساغت لأجدادنا قراءة صحف محلية صدرت بشكل منتظم ولسنوات مديدة بحواضر متعددة تقع بجنوب البلاد أو بشمالها لم تسمع أجيال تصفية الاستعمار بوجودها طيلة خمسين سنة متتالية من الاستقلال، وحُبّرت على أعمدة تلك الصحف مقالات ومساجلات ومناظرات سياسية واجتماعية وثقافية قد يتعجب كل مواظب على قراءة ما يتيحه هامش الفعل الصحفي والإعلامي ومحصلة المؤتمنين عليه حاضرا من إمكان صدورها. سنوات قليلة من"معركة التنمية"كانت كافية لإخماد هذا الحراك بصياغة ثقافة منحرفة تجل القول الواحد والفكر الواحد والنظرة الوحدة والهدف الواحد، ليأتي الرد ضمن أقصوصة هي أبلغ دلالة من أي"بيان سياسي"اختار لها مؤلفها في جرأة مربكة عنوان"الإنسان الصفر"وتعقبته شبيبة يسارية كرست، في جنوح وهامشية لا توصفان طوال الثلث الأخير من القرن الماضي وضمن أعمال فنية وأدبية جريئة، بعض ما يصح نسبه لسجل"الثقافة المضادة contre culture". لن يتناطح كبشان في حقيقة امتلاك البلاد حاضرا لمؤسسات جامعية عليا يشتغل معلموها وطلبتها بالآداب الجميلة والفنون التشكيلية والموسيقية والدرامية والسنمائية... وكذا بالصحافة وبغيرها من وسائط الاتصال والنشر الحديثة، غير أن أفق تلك المؤسسات على تنوعها وعلى الحركية المشهودة التي أدخلتها على المشهد الثقافي عامة لم يتم رسمه بعد. هناك لغط مُتعمد يذكّر تونسيا وبطريقة معكوسة وإلى حدّ ما طبعا بما شاب الخطاب الشعري عند أواخر ثمانينات القرن الماضي، حال تضخم فوضى الكلمات وتوليدها لتأتأة لا صلة لها بنمط إنتاج الحقيقة الإبداعية أو الفنية تحت سمائنا. هناك"سوق"وحركة، وقليل أو كثير من"البركة"، لا ينبئ انتصابها على انخراط فعلي ضمن أفق ينطوي على قدر معقول من القلق والحيرة، وهناك مقص لم يعد يجدي بقاءه بيد رقباء الدوائر الأمنية فتمت إحالته في خطوة دالة على دوائر غير محددة في انتظار ما قد يُسفر عليه الواقع من مخاض بعد أن التهم الرديء أو المُزيف صحيح النقود. * كاتب تونسي.