ما إن انفكت عقدة الألسن مع نهاية الثمانينات في تونس المستقلة، بعد ثلاثين سنة من الانفراد بالزعامة، حتى طفح فيض من شهادات جيل الاستقلال المعاصر لمشروع"دولة بورقيبة الوطنية". هكذا قرأنا نصوصا عديدة صاغها باللغتين العربية والفرنسية فاعلون سياسيون وتلقفتها الساحة الثقافية قبل أن يخوض بشأنها الرأي العام وهو غير ما درج الجميع على تسميته بالشارع بعد أن تناولتها أقلام الصحف والمجلات بالتعريف والنقد. فمن محمد بن سالم إلى الطاهر بلخوجة مرورا بسليمان بن سليمان وعز الدين عزوز والباهي الأدغم، لا يمكن أن لا تشد انتباهنا مقولة عاودها مؤلف كتاب"كواليس الاستقلال الطبيب محمد بن سالم:"في السياسة لا تطلب الحقيقة لذاتها بل لما ينبغي أن يصدّقه الآخرون". تنطوي هذه المقولة على تعبير بليغ بخصوص المدلول الحقيقي للممارسة السياسية. فالفعل السياسي هو بالأساس قدرة على الاستدراج والمناورة وشد الانتباه والتلميح في مقام التصريح ورفع القول إلى مرتبة الفعل والمتخيل إلى موضع الحقيقة، مع قدرة لا تمارى في تضخيم تافه الفعل وتهوين جليله وتعبئة الجموع وكسب تعاطف الرأي العام. ليس في هذا التعريف ما يضير الساسة الماسكين بموقع ممارسة السلطة أو المتمترسين خلف جدران المعارضة بافتراض ممارستها فعلا لا معاينتها صورة، فهم أعرف من الجميع بأن"خلاص"جميعهم يكمن في عدم الكف عن رفع شعار التعفف وادعاء الانقطاع لخدمة الصالح العام. حدد صناع دول الاستقلال على مدى النصف الثاني من القرن الماضي مجال الخطاب والفعل السياسيين، رافعين شعارات التنمية والحداثة والإصلاح والتغيير واللحاق بركب الحضارة. فصدّق الكافة وهللوا وطبلوا وناشدوا وأمّروا وملّكوا ناصية الرقاب متشوفين إلى جني مكاسب الاستقلال بالقطع مع العوز والفاقة وإطباق الجهل وشدة الكرب وأطماع المتربصين. أذكت فذاذة نهرو وعبد الناصر وبورقيبة ولومومبا وسنغور... وغيرهم من زعماء العالم الثالث شعورا حقيقيا بالأمل بعد أن حمّلوا مشاريعهم السياسية واختياراتهم الاجتماعية والثقافية أيضا تدرّجا واقعيا باتجاه تغيير العقول والقطع مع قرون مديدة من الانكفاء والتقوقع والخنوع، غير أن تلك الآمال سرعان ما أتى التمسّك المرضي بالسلطة على ألقها وحولها بالتقادم إلى طلل بعد عين. أعلى التونسيون مكانة المعرفة وأحلوا المدرسة موقعا تساوق إن لم يتجاوز في أهميته مع مواضع العبادة، وأعاد عبد الناصر إلى مصر شيئا من بريقها الإقليمي بعد أن جازف بتأميم القناة، بينما قدم نهرو الدليل على وجود هامش مناورة سياسي خارج لعبة المعسكرات بتفادي الانحياز، وتوصّل سنغور بعبقرية نادرة إلى قلب تصور الغرب للغيرية السوداء المستعبدة بإعادة صياغة مفهوم"الهوية الزنجية"والقطع مع شعورها الأزلي بالنقص. لم تكن الساحة السياسية والفكرية التونسية طوال النصف الثاني من القرن الماضي معزولة على هذا الغليان، حتى وإن أشّر مستوى السجال القائم بين رموزها -بفرض القدرة على استيعابه من قبل الماسكين بالسلطة- على تباعد في التصورات والرؤى. فالتوجهات العلمانية المكرسة واقعيا رغم تناقضها صراحة مع منطوق الدستور لم تقابل بأي استعظام حتى وإن لم يشملها جدال حقيقي، وكذا التعديلات المدخلة على القوانين الناظمة للأحوال الشخصية أو غيرها من المسائل المصيرية المتصلة بمضمون السياسات الاقتصادية والتربوية والثقافية للبلاد، تلك التي لم يتم التداول أو النقاش بشأنها اعتبارا لصدورها عن شرعية لا تضاهى دار الجميع في فلكها طيلة أكثر من ثلاثة عقود. ألم يكن بالإمكان إذا ما تملينا المتاح من شهادات الفاعلين وأصحاب القرار وما رشح عن أرشيفات الصدور، سواء قبل فك عقدة الألسن أو بعدها، أن يحتل"المجاهد الأكبر"، على مكانته الخاصة في قلوب التونسيين، موقعا يحول دون توريطه في الفردانية ويسمح له بتقاسم الأدوار مع غيره، لاسيما وأن واقع نهاية أربعينات وأواسط خمسينات القرن لماضي قد رشّح بشهادة الجميع أطراف فاعلة داخل مؤسسة"حزب الدستور"نفسها كصالح بن يوسف مثلا للتنافس بكفاءة حول مضمون الاختيارات والتوجهات والمشاريع السياسية والاقتصادية والفكرية للبلاد بعد تصفية الاستعمار؟ ألم تكن الأزمات الصحية المتتالية لبورقيبة وحضور شخصيات شديدة التنفّذ داخل جهاز الحكم على غرار أحمد بن صالح والهادي نويرة ومحمد مزالي... كفيلة بطرح مسألة التداول على الحكم لا توريثه -كما تندر بذلك بورقيبة مرارا وتكرارا؟ يبدو الأمر على قدر كبير من البساطة، فإبعاد"الزعيم بورقيبة"عن سدة الحكم وإن تسربل بلبوس"المهمة المستحيلة"قد تمّ وفقا للرواية الرسمية باتفاق لفيف من أطبائه المباشرين على فساد أهليته لمواصلة أداء مهامه كرئيس للبلاد ونقل مجمل صلاحياته -طبقا لصريح بنود الدستور- إلى وزيره الأول آنذاك والرئيس الحالي للبلاد التونسية. توفرت عند هذه المفصلة الزمنية تحديدا فرص جديدة وواعدة لإعادة صياغة المشهد السياسي للبلاد وجاء"بيان السابع من نوفمبر"حاملا لاعتراف معلن من قبل"صانع التغيير"بحاجة البلاد وأهلية سكانها أيضا لمراجعة عميقة وجسورة للقوانين الناظمة للّعبة السياسية، فضلا عن حصول حالة تأرجح لافتة بدت خلالها المؤسسة الحزبية لبرهة من الزمن متقبلة، وإن دون حماس مفرط، لذلك قبل أن يتم حسم الموضوع أو تأجيل البت فيها لتنفيله عبر ما ساد من لغط مدروس في مفتتح تسعينات القرن الماضي بخصوص إمكانية انبثاق ما وسم آنذاك ب"الأغلبية الرئاسية". ليس هاما أن نخوض فيما ترتب عن تغليب حجة التريث والتمسك بسجل تمثلات التونسيين بخصوص السلطة وإعلائهم لحجة"العادة"على جميع ما سواها من إفراغ مقيت للساحة السياسية والفكرية والفنية والإعلامية من محركيها أو نتوءاتها، فتلك آليات"تعوّد"التونسيون على تشغيلها بدم بارد مرارا وتكرار من هنيبعل إلى خير الدين، مرورا بابن خلدون وأبي الحسن الشاذلي وغيرهم سبق وأن تعقبنا جوانب من مدلولها الخفي تفصيلا في مقام اتسع لذلك. غير أن اللافت في جميع هذا هو قدرة"المواضعات الاجتماعية"على نحت حقائق المشهد السياسي تحت سمائنا تصورا وممارسة بعيدا عن جميع أساليب المماحكة والتذرع بحقيقة إلجام العقول والأفواه دون فسح مجال واقعي يعلي قيم"الإمكان... لبلوغ أبدع مما كان". * كاتب تونسي.