تُلفتُ المؤشراتُ الإيجابية التي سجّلتها قطاعاتٌ مختلفة في الفترة الأخيرة، إلى احتمال عودة التوازن إلى الأسواق العالمية. فبداية النصف الثاني من السنة الجارية، تحمل بزور العقلنة بعد موجات جنونٍ شهدتها أسواق الرهن العقاري، وأسعار النفط وأسعار المواد الأولية والغذائية، وطاول الجنون مصارف ومؤسسات مالية كبرى سجلت خسائر تتخطى إدراك المتمرّسين في التعامل مع أسواق الرهن والبورصات. وعلى عكس بداية الانهيار، المتلازمة مع أزمة الرهن العقاري المجازف، بدأت قبل عامٍ، فإن مسيرة استعادة العافية انطلقت، على ما يبدو للآن، من عقلنة أسعار النفط، التي تزامنت مع تراجع الطلب من جهة وتصريحات مسؤولين من جهة ثانية، كانوا قبل شهورٍ ينذرون ببلوغ سعر البرميل 200 دولار، فباتوا يتوقعون الآن أفوله إلى 100 وحتى إلى 80 دولاراً. والنشاط الاقتصادي، المنزّه عن عوامل خارجية، يتعرّضُ إلى دوراتٍ متباينة في الإيجابيات والسلبيات، وهي دوراتٌ لفتراتٍ قصيرة من سنة إلى سنتين، تُعتبرُ دوريةً، قد تدخلُ ضمن دوراتٍ أطول تتجاوز أحياناً العقد الواحد. وتَعرفُ الدورات ازدهاراً وانكماشاً، وكلّما حصل خللٌ تعودُ عواملُ السوق وتصلحه، فتستقيم الأمور. ونظراً إلى هذا التفاوت الدوري، تتحصّن المؤسسات بالاحتياط او بالمخزون تلافياً للآثار السلبية التي قد تتخطّى إمكاناتِها لدى حصول أخطارٍ اقتصادية كبيرة. والأزمة الأخيرة، طاولت ارتداداتها، بلدان العالم، بتموجاتٍ يختلف حجمُ تأثيرها، علماً أن تأثيرَ الأسعار لم يكن جيّداً للمنتِج وسيّئاً على المستهلك، فالدورةُ مترابطة وارتداد تموجات الغلاء أصاب الجميع، وفتهاوت البلدان الغنية أمام جموح معدلات التضخم، واشتدَّ الفقرُ في البلدان النامية. ولم تكن البلدان المنتجة للنفط، على رغم ارتفاع العائد لديها، افضلَ حالاً من البلدان المستهلكة له، فما ربحته من زيادة عائدات، خسرته من تراجع قيمة الدولار، العملة الرئيسة لتسعير النفط. وما ربحته بلدانٌ بارتفاع قيمة عملتها أمام الدولار، خسرته في جمودها الاقتصادي فتقلّصت صادراتها وشُلَّ نشاطُها. وبات أفضل للبلدان المنتجة للنفط أن تنكمش عائداتها، من أن تواجه موجة غلاء تهدّد أمن مجتمعها الاجتماعي والاقتصادي، وترفع تكلفة مشاريعها العامة وتكلفة البناء فتتهدد المعيشة والسكن، وتضطر إلى تقديم الدعم والمساعدات إلى المواطنين، ما يستنزف ماليتها بأكثر من فوائض عائدات النفط. وواجهت دول عربية، نتيجة انخفاض سعر الدولار وارتفاع أسعار النفط، صعوبات شكّلتْ بداية أزماتٍ متتالية، أولها ارتفاع أسعار مواد الغذاء، ومن ثم تكلفة المشاريع، بحيث توقف متعهدون عن إتمام مشاريعهم وطالبوا بتصفية أعمالهم نظراً إلى ارتفاع أسعار مواد البناء. وبات النشاط العقاري مهدّداً بالتراجع، وارتفعت أثمان الشقق المعدّة للسكن وإيجاراتها ما اضطر حكومات إلى التدخل وسن قوانين تضبط القطاع. وإذا ساعدَ انهيار الدولار، الولاياتالمتحدة في تعزيز صادراتها، وخَّضَ عجزَ ميزانها التجاري، إلا أن واقع اقتصادها الداخلي بدا أسوأ. فما تستطيع البلاد أن توفره عبر التبادل التجاري، تخسر أضعافه داخلياً من طريق تقديم معونات إلى العاطلين من العمل الذين يزدادون من شهرٍ إلى آخر. وخسر مليون أميركي منازلهم لعجزهم عن سداد أقساطها بسبب أزمة الرهن العقاري، وانخفض طلبُ البلاد على النفط وهي تستأثر بربع الإنتاج اليومي العالمي تقريباً، فهدأت السوق ولم تعد تتوافر للمضاربين أجواء المنافسة المربحة، فتحوّلوا عن المواد الأولية الأساسية. كذلك الأمر بالنسبة إلى الصين، ثاني أكبر اقتصاد عالمي، اضطرّت للمرة الأولى إلى استيراد مشتقات نفطية لتكوين احتياطٍ يستخدم خلال الدورة الأولمبية التي بدأت قبل أيام، إذا حصلت أزمةُ إمدادات خلال انعقادها. وواجهت الصين مع انخفاض الدولار، ضغوطاً عالمية دعتها إلى تقويم عملتها المحلية"اليوان"، كما واجهت خسارة في قيمة احتياطها الذي تجاوز 1.8 تريليون دولار، فسعت إلى تنويعه واعتماد جزءٍ منه بالعملة الأوروبية الموحدة، اليورو. وأكثر من ذلك تواجه حالياً خطر معدل تضخم مرتفع قد يوازي معدل النمو. وهكذا يبدو الرجوع إلى المستويات المعقولة، أقصر السبل لتحقيق توازنٍ بين عائدات النفط، ولجم معدل التضخم وإعادة الدورة الاقتصادية إلى النشاط. فارتفاع سعر الدولار وانخفاض أسعار النفط يقودان إلى توازنٍ في أسعار المواد الأولية الأخرى سواء المعدنية أم الغذائية، لا سيّما حيث تشكل المحروقات عنصر تكلفةٍ مرتفعة. ويُنتظر حتى نهاية السنة، عودة الخط البياني إلى الانحناء، ما لم تتسبب العناصر الخارجية مثل الحروب والاعتداءات بتهديد إمداد النفط! وأقربها الحربُ في محيط بحر قزوين.