عندما يقرأ سينمائي في صحيفة ربما تكون قديمة بعض الشيء، حكاية ذلك "المناضل" الفلسطيني الذي أرسل من لندن ذات يوم حبيبته الإرلندية الحامل منه بطفلهما الأول، الى تل أبيب وهي تحمل، من دون أن تدري، حقيبة يد ملئت بمتفجرات يفترض أن تنفجر وتفجر معها طائرة شركة العال الإسرائيلية وهي في الجو، ما الذي قد يفكر فيه من فوره، بخاصة ان كان سينمائياً تعنيه قضايا الشرق الأوسط في شكل أو آخر؟ قبل ربع قرن قرأ المخرج الإيطالي الراحل قبل أسابيع دينو ريزي هذه الحكاية فحوّلها واحداً من الاسكتشات الأكثر مأسوية ومرارة في فيلم له عنوانه"الوحوش". في هذا الاسكتش قدم ريزي الحكاية كما هي مشدداً على وحشية ذلك المناضل اللئيم الذي أراد أن يضحي بحبيبته والجنين في أحشائها على مذبح أفكاره، بدم بارد، وكاد ينجح لولا اكتشاف أجهزة الاستخبارات للعملية قبل أوانها. نظر ريزي الى الحكاية في شكل مباشر وصورها من دون أي تسييس. لكن السينمائي الكندي آتوم ايغويان، نظر إليها من وجهة نظر مغايرة تماماً: لم يسع الى التخفيف من وطأة وحشية الحدث، لكنه آثر أن يستخدمه في مجال مغاير تماماً: جعل الحدث نفسه حكاية يبني عليها مراهق كندي أسطورة تتعلق بحياته الشخصية مستخدماً جهاز الكومبيوتر وتقنياته الحديثة لنشر الحكاية التي جعل من نفسه فيها ذلك الجنين وقد صار فتى يافعاً يعيش ذكريات تلك الجريمة التي كاد أبوه يقترفها في حقه وفي حق أمه، إضافة الى عشرات آخرين من ركاب الطائرة التي كان يفترض استهدافها. صاغ الفتى هنا، إذاً،"حكايته"على هذا النحو، ولكن من دون أن تكون حكاية حياته الحقيقية. أما القاسم المشترك بينه وبين الجنين، فهو تحدرهما معاً من أب فلسطيني الأصل، وأم غربية إرلندية في الحكاية الحقيقية، كندية في حكاية الفيلم. ذكريات الشخص الآخر انطلاقاً من هذا الإطار الذي لا يمكن إلا الإقرار بقوته ودلالته في الإطار الخاص بالفتى المعني، أو في الإطار الأكثر عمومية والمتعلق بجملة من القضايا الشائكة، وغير الشائكة التي يعيشها عالمنا اليوم، صاغ ايغويان إذاً موضوع فيلمه الجديد"عبادة"الذي عرض، للمرة الأولى، ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان"كان"السينمائي في دورته الأخيرة، وپ"خرج من المولد من دون حمص"، في معنى أنه لم يفز بأية جائزة، وكان ? في الحقيقة ? يستحق جائزة كبيرة، كجائزة الإخراج أو جائزة السيناريو. وبخاصة هذه الأخيرة إذ بدا واضحاً أن هذا الفيلم المركب والشديد الحداثة، والجامع بين تفاصيل السياسة والحياة الداخلية وبحث الذاكرة ومسألة الإرهاب والتفكك العائلي في بوتقة واحدة، ناهيك بإطلالته اللافتة على العلاقة المتوترة بين الإسلام والغرب فيلم كبير واستثنائي. ولسنا في حاجة الى القول هنا إن ايغويان وقّع السيناريو الذي أخرجه بنفسه، كما انه كان هو منتج الفيلم، مع انه اعتاد منذ زمن أن يحقق بعض أفلامه الأساسية انطلاقاً من أعمال أدبية أو نصف أدبية كما حال"حيث تكمن الحقيقة"أو"رحلة فليتشيا"أو"أيام مقبلة مباركة"... أومن عمل مسرحي كما حدث حين اقتبس للتلفزة مسرحية"شريط كراب الأخير"عن صامويل بيكيت. إذاً من حول حكاية الحياة والذكريات الاستثنائية التي ابتكرها بطله المراهق، سايمون لنفسه، حرك آتوم ايغويان مجموعة من الحكايات والمواقف والشخصيات الأخرى، ذاهباً طوال المئة دقيقة التي يستغرقها عرض الفيلم، الى خبطة مسرحية تلو الأخرى، راسماً في طريقه علاقات واحتمالات علاقات غير متوقعة، بحيث أن كل خبطة مسرحية جديدة تبدو متضمنة في سلسلة اسئلة يطرحها المتفرج على نفسه خلال دقائق تسبق اكتشافها. فمثلاً، ما إن يبدأ المتفرج في التساؤل حول ما الذي يحرك مدرّسة سيمون آرسيني خانجيان أدت الدور في شكل رائع ويجعلها تضحي بوقتها وتصرف المال، كي تطارد حكاية سيمون وتعرف الحقيقة الكامنة وراء اختراعه حكاية حياته، حتى يأتي الجواب من حيث لا يتوقع، مكتشفاً أن المدرسة معنية بالحكاية منذ البداية، بل حتى منذ ما قبل ولادة سيمون. وقبل ذلك حين يستبد بالمتفرج الفضول إذ يعتقد حقاً أن سيمون هو الذي كان جنين عملية الطائرة الفاشلة، يفاجئ السيناريو المتفرج بمعلومات حول مقتل والديّ سيمون في حادث سيارة وهو طفل، ما يتنافى تماماً مع صدقية الحكاية التي يرويها. وهنا بالتحديد يستعيد المتفرج بعض لحظات المشاهد الأولى في الفيلم ليتذكر كيف أن كل شيء ضمن إطار الحقيقة والظاهر، هذا الإطار الذي يشكل دائماً واحدة من الخلفيات الأساس التي يبني عليها ايغويان جوهر سينماه ككل -، إنما ولد في مخيلة سيمون، حين طلبت منه المدرسة في الصف، كما طلبت طبعاً من رفاقه الآخرين، أن يقرأ حكاية"المناضل"الفلسطيني الحقيقي، ليصوغ منها موضوعاً دراسياً. هنا، وإذ سنعرف أن الأب الحقيقي لسيمون هو فلسطيني أيضاً، سيستحوذ سيمون على الحكاية ويتبناها موزعاً إياها بل مناقشاً إياها بوفرة أيضاً عبر تقنيات الكومبيوتر والإنترنت، أمام محاورين له، يروح كل واحد منهم، إذ يعتقد الحكاية حقيقية، يعطي رأيه فيها وبخاصة في ما"فعله"والد سيمون"إن السجال الجماعي هذا، يطاول من ناحية مبدئية حكاية اخترعها سيمون أصلاً، لكنه أي السجال يطاول في الحقيقة قضية صحيحة كل الصحة. صحيحة حتى وإن لم يكن لسيمون أي علاقة بها. وعلى هذا يكون ايغويان قد جدد هذه المرة في تعاطيه مع مسألة الحقيقة والمتخيل، الظاهر والباطن، من خلال الدمج المطلق بينهما. أما المدرّسة، التي تراقب هذا كله منذ البداية، فإنها ستتحرك أيضاً انطلاقاً من العلاقة التي يقيمها ايغويان بين الحقيقي والمتخيل. انها تدل على هذه العلاقة، أولاً، انطلاقاً من كونها من يمسك حقيقة ما يحدث... ولكن أيضاً انطلاقاً وهذا ما نكتشفه لاحقاً من كونها هي أيضاً جزءاً مما يحدث. للذين سيشاهدون الفيلم ولن يمتعهم أن نكشف لهم في هذه السطور بعض مفاجآته الأكثر دلالة، سنكتفي بالقول إن سابين المدرّسة، هي أيضاً آتية من الشرق الأوسط نفسه، تحديداً من لبنان الذي بارحته خلال حربه الأهلية إثر إبادة أسرتها على يد إحدى الميليشيات. بهذا طبعاً تكتمل الدائرة الشرق أوسطية في الفيلم، لكن اكتمالها ليس مسألة جغرافية فقط. إذ هنا، وعلى عكس ما يحدث مثلاً في فيلم قديم للراحل مارون بغدادي، هو"الرجل المحجب"، حيث ينقل لبنانيون متقاتلون صراعاتهم معهم الى باريس محملين بذكريات لا تريد أن تمحى، يحدث في"عبادة"أن الذكريات الشرق أوسطية الحقيقية امحت تماماً، إن لدى سابين عبر انخراطها في المجتمع الكندي الذي تعيش فيه منذ زمن، أو لدى ما تبقى من أسرة سيمون جده العنصري وخاله السلبي اللذان يتوليان تربيته بعد مقتل والديه. وما يحل محل تلك الذكريات إنما هو ذكريات أخرى منحولة ابتكرتها مخيلة وكومبيوتر سيمون بدفع من المدرّسة سابين، التي سندرك هي وسندرك معها كم ان الأمور تبدو وكأنها وقعت في فخ اللعبة التي أطلقتها. البحث عن معنى حقيقي ولكن هل حقاً يمكننا أن نقول إن سابين وقعت في الفخ؟ ليس هذا مؤكداً... لا سيما ان نظرنا الى الأمور من زاوية أخرى، زاوية يدفعنا إليها آتوم ايغويان بهدوء: ذلك أنه، ذات لحظة، وفي قلبة في السيناريو تبدو تشويقية الى أبعد الحدود، سيقول لنا إن"عبادة"ليس فيلماً عن الماضي فقط، الماضي سواء أكان حقيقياً كماضي سابين الذي يطلع أمامنا وأمامها مستيقظاً بفضل تبني سيمون لحكاية الجنين، أم متخيلاً تحديداً كالماضي الذي اخترعه سيمون لنفسه، وربما في أعماقه رداً على عنصرية جده وسلبية خاله، المعلنتين حتى من قبل ولادته. وفي هذا الجانب الأخير تكمن راهنية هذا الفيلم، ما يجعل تدخلية سيمون وسابين، جزءاً من التدخل في الصراع الضمني أو العلني الدائر من حول النظرة الى الإرهاب، وبالتالي من حول النظرة الغربية الى الإسلام. وبما أن جزءاً كبيراً من السجال حول مثل هذه المواضيع، بات اليوم يدور من خلال الإنترنت، وحداثته التقنية المطلقة، لم يكن صدفة ان يقدم مخرج ما بعد حداثي أثبت هذا في معظم أفلامه السابقة على جعل الإنترنت والنقاش من خلاله، شخصية أساسية في الفيلم. غير أن هذا اللجوء الى هذه الحداثة التقنية، لم يخف أن ما همّ ايغويان في هذا الفيلم في شكل خاص إنما هو سبره للطريقة"التي فتنتني دائماً، كما يقول، والتي يتواصل بها الناس بصفتهم كائنات بشرية، حيث باتت التقنيات تعطينا إمكاناً غير متوقع لتقديم أنفسنا أمام الآخرين. خلال سنوات الثمانين كان المجتمع منقسماً بكل وضوح بين أولئك الذين في وسعهم خلق الصور، والآخرين الذين لم يكونوا سوى متفرجين. أما اليوم، بعد عشرين سنة، فلقد بات الكل قادراً على خلق الصور و... نقل الأفكار". والى هذا قال ايغويان أيضاً، أن فيلمه"يحكي عن ضرورة إيجاد أشياء وأماكن لها معنى حقيقي، معنى عميق، بالتناقض مع المعاني والأفكار السطحية التي نجدها في أجوبة محاوري سيمون عبر الإنترنت". فما الذي يعنيه ايغويان حقاً بهذا؟ ليس، بالتأكيد، أقل من الإشارة مرة أخرى، الى أن الصورة، كل صورة والكلام كل كلام، إنما هما وسيلة لإخفاء الحقيقة، أو إعادة اختراعها من جديد، بدلاً من أن يكونا وسيلة لكشفها... للوصول إليها. أما هذا الكشف وهذا الوصول فأمر يتخطى التكنولوجيا، الى العلاقات الإنسانية نفسها التي يقول لنا ظاهر الأمور إنها تكاد تكون الغائب الأكبر عن عالمنا الراهن. ونقول: ظاهر الأمور، لأن الواقع الملموس، كما نجده في"عبادة"، يقول العكس تماماً وبالتحديد من خلال شخصية سابين وحضورها في الفيلم... وربما من خلال ما قد يبدو أنه، منذ البداية، لعبتها على الضد من لعبة سيمون. هذا ما يقوله ايغويان في هذا الفيلم... ولكن هل تراه قال أي شيء آخر في أفلامه السابقة التي جعلت منه واحداً من أقطاب التجديد السينمائي في عالم اليوم؟ سيرة غنية من السد العالي الى "آرارات" يحلو للمخرج الكندي من أصل أرمني آتوم ايغويان أن يذكر دائماً بأنه ولد في مصر التي عاش فيها ردحاً من طفولته قبل أن يضطر أبوه الى أخذ العائلة الى كندا تحت ضغط ظروف صعبة. كذلك يحلو لإيغويان أن يروي كيف أن أباه المناصر لسياسات الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، سماه أي سمى الابن آتوم ومعناها في العربية"الذرة"، انطلاقاً من إعجابه بمشروع السد العالي الذي كان يفترض به أن يولد مفاعلاً ذرياً. ناهيك بأن الابن آتوم ولد يوم افتتاح المرحلة الأولى من مراحل بناء السد. غير أن هذا الإرث المصري الشرق أوسطي في حياة آتوم ايغويان، لم ينعكس في سينماه إلا في شكل متأخر، وبالتحديد في زمن يلتقي مع زمن اهتمامه بالقضية الأرمنية. ففي البداية، حقق ايغويان الذي وصل الى تورنتو ليعيش ويدرس جامعياً، بعد أن عاش مراهقته في مدينة فكتوريا، أفلاماً لا تمت الى قضايا الشرق الأوسط بصلة. وذلك بعد أن درس العلاقات الدولية و... عزف الغيتار في تورنتو، قبل أن يتعرف الى دراسة السينما ولغتها ليقرر أن يكرس حياته للفن السابع. وهو كان في العشرين تقريباً حين حقق أول فيلم اشتهر له"القريب الأدنى"، والذي فاز عنه بجوائز عدة، أهلته كي يقدم نفسه للمنتجين ولمحطات التلفزة في شكل جدي. وحقق عاك 1987"مشهد عائلي"الذي نال عنه جائزة النقاد في مهرجان لوكارنو، لتتوالى من بعده أفلامه بمعدل واحد كل سنتين:"أجزاء ناطقة"،"المعدّل"، الذي أكد حضوره في"كان"للمرة الثانية، بعد الفيلم السابق في نصف سن المخرجين. وهو بعد أن حقق"كالندر"عام 1993 في أرمينيا، حقق عام 1994"اكزوتيكا"الذي كان في العام نفسه أول فيلم كندي ناطق بالإنكليزية يشارك في المسابقة الرسمية في"كان"، ليليه عام 1997"أيام مقبلة مباركة"عن رواية للأميركي راسل بانكز، الذي فاز في خمسينية"كان"بجائزة النقاد الكبرى، بين جوائز كثيرة أخرى. وهو بعدما حقق"رحلة فيليتشيا"1999، حقق عام 2002، ما اعتبر واحداً من أشهر الأفلام التي حكت عن القضية الأرمنية:"أرارات"، الذي، إذ نال جوائز كثيرة، لم يعتبر مع هذا واحداً من أفلام ايغويان الكبرى. اعتبر واجباً قومياً لا أكثر... غير ان ايغويان عاد بعده ليحقق عملاً هوليوودياً ضخماً هو"حيث تكمن الحقيقة"، قبل أن"يصل"أخيراً الى الشرق الأوسط وقضاياه الشائكة من خلال"عبادة". وآتوم ايغويان، المتزوج من الممثلة ارسيني خانجيان، الأرمنية من لبنان، يكتب للتلفزيون أعمالاً يخرجها بنفسه، كما يقتبس له أعمالاً أخرى. وكذلك يخرج للأوبرا وأبرز أعماله في هذا المجال"الفالكيري"عن فاغنر... كما انه يكتب نصوصاً أدبية ويقيم معارض فنية من نوع التجهيز... ويقول إن هذا ليس كل شيء، ففي جعبته المزيد للسنوات المقبلة.