إذا كان انديانا جونز، في فيلمه الرابع الذي حققه ستيفن سبيلبرغ وعرض خارج المسابقة الرسمية في مهرجان "كان"، قد تخلص هذه المرة من أبيه، فغاب شين كونري بعد أن أزعج ابنه كثيراً في الحلقات السابقة، ثم نقده وسخر منه كثيراً أيضاً، فإن هذا التخلص من الأب، ومن العائلة في شكل عام، لم يكن من حظ أبطال أفلام كثيرة أخرى عرضت في هذه الدورة من"كان". والحقيقة أننا إذا شئنا أن نعثر على موضوعة محددة تكاد تجمع من حولها عدداً كبيراً من أفلام التظاهرات المختلفة، ستكون هذه الموضوعة، العائلة. يمكن القول طبعاً أن العائلة بكل تجلياتها وأزماتها وعلاقاتها، كانت دائماً موضوعاً أثيراً للفن السابع، وفي كل زمان وبلد، لكن اللافت حقاً هو تحلق هذه النسبة العالية من الأفلام حول هذا الموضوع في زمان واحد وبالتالي في دورة واحدة من"كان". ولعل غرابة الأمر تنبع من تصور عائد الى ستينات القرن العشرين وسبعيناته، مفاده أن القيم العائلية الى اندثار وأن البديل عنها إما فردية محصورة وإما جماعات شديدة الاتساع. طبعاً نحن نعرف أن هذا التصور على رغم قوة إغرائه لم ينطبق تماماً، ولكن يبين أن نلاحظ عدم انطباقه، وأن نجد عبر أفلام آتية من مجتمعات متباعدة، ان العكس هو ما حصل ويحصل الآن، هوة واسعة، يبدو أن الدورة الحادية والستين لمهرجان"كان"قد قطعتها، لتجعل هموم العائلة وأثقالها واجتماعاتها ولكن نادراً: تفككها حبكات تدور أفلام كثيرة من حولها. والحقيقة اننا حين نتحدث عن"العائلة"في هذا السياق، لا نعني تحديداً المشاكل التي يواجهها الزوجان أي زوجان في ما بينهما وهما يسعيان الى تكوين عائلة أو يرزحان تحت عبء ذلك التكوين، بل اننا نعني الخلية الاجتماعية الأوسع من الزوجين. والفيلم الأول الذي يستوقفنا في هذا السياق هو"حكاية عيد ميلاد"للفرنسي آرنو دبليشان، والذي كان واحداً من أول الأفلام المتسابقة التي عرضت. فهذا الفيلم هو على غرار الكلاسيكيات العائلية الكبرى، إنما من دون أن يكون على مستواها، فنياً أو قدرة على الإقناع، يدور تحديداً من حول عائلة بورجوازية من مدينة روبي في الشمال الفرنسي، محاولاً سبر أغوار حياتها وعلاقاتها، وذلك إذ يلتقطها في لحظة يكتشف فيها أن الأم كاثرين دونوف مصابة بالسرطان وأنها في حاجة الى زرع مادة نخاعية يجب أن يتبرع بها واحد من أفراد العائلة. وهذه الوضعية هي التي، طوال الفيلم، تكشف جملة الأنانيات وضروب الدنو والابتعاد، كما تكشف نوعاً من لعبة صمت يلعبها أفراد العائلة من حول موت مسكوت عنه لواحد من أطفالها في الماضي. ولتقديم هذا وجد المخرج لزاماً عليه أن يفتح فيلمه بجنازة، ما جعل نقاداً أميركيين يقولون إنه لأمر غير منطقي أن تبدأ السوداوية بالسيطرة على أجواء المهرجان باكراً على ذلك النحو. لكن النقاد الفرنسيين كان لهم رأي آخر: بالنسبة إليهم"حكاية عيد الميلاد"هو الفيلم المرشح منذ الآن للسعفة الذهبية. وهو افتراض من الصعب جداً أن يشاركهم فيه غيرهم من نقاد العالم. جنازة أخرى وفيلم آخر:"سبعة أيام"من إسرائيل لشلومو وروني الخباز. وهذه الأخيرة ممثلة مميزة كانت أثبتت حضورها القوي في عدد من الأفلام بينها"زيارة الفرقة"في العام الفائت، لكنها هذه المرة آثرت أن تعمل وراء الكاميرا إضافة الى تمثيل دور أساسي في الفيلم مع شقيقها لتقديم حكاية تدور من حول جنازة قريب وحداد الأيام السبعة الذي يلي الجنازة. هذه الأيام تقضيها العائلة الكثيرة في بيت الميت. ما يخلق التصادمات والصراعات وسوء التفاهم. لقد هرع كثر لمشاهدة هذا الفيلم، في عروض السوق بفضل السمعة المتجددة التي صارت للسينما الإسرائيلية، لا سيما منها الأفلام المتكاثرة منذ حين في فضحها الأيديولوجيا الصهيونية وممارسات دولة إسرائيل، لكن"سبعة أيام"شكل صدمة بقناعته ومسرحية لغته السينمائية وتشابك موضوعاته، في مقابل تقديمه صورة غير سعيدة وليس بسبب الجنازة والقبر اللذين يفتتح الفيلم بهما لما آلى إليه حال العائلة اليهودية في إسرائيل في الذكرى الستين لإنشاء هذا الكيان. الحياة كما هي ليس ثمة جنازة عائلية تفتتح فيلم"3 قرود"للتركي نوري بلغي سيلان، وهو واحد من أقوى ما عرض في المسابقة الرسمية لهذه الدورة من"كان"حتى الآن. لكن هناك قتيلاً تصدمه سيارة وسط طريق ناء، وعاصفة مرعبة. وانطلاقاً من هذه الحادثة التي يرتكبها شخص من الأعيان يدرك بسرعة أنه يجب ألا ينكشف وإلا فإن هذه الجريمة سوف تؤثر على ترشحه لمنصب نيابي. فماذا يفعل؟ على الفور يطلب من سائقه الوفي أن يعترف بأنه هو الصادم القاتل، ليسجن بدلاً من سيده، على أن يعطيه هذا مالاً، في المقابل، يقي أسرته العوز خلال فترة غيابه. وهكذا، انطلاقاً من هذا الموقف نجدنا على الفور في قلب عائلة تركية تتألف من الأب السائق والأم والشاب المراهق. وما بقية ما تبقى من"ثلاثة قرود"سوى نظرة على التقاء هذه العائلة وتفككها، لا سيما منذ يغيب الأب في غياهب سجنه. ان الدراما هنا تتصاعد بالتدريج بين الأم وابنها، ثم من حول الأم نفسها... بحيث أن الأمور تصل الى مستوى من الخطر، حين يخرج الأب من سجنه، ما يوحي بأن العائلة قد انهارت تماماً، من الداخل ومن الخارج. غير أن سيلان، المخرج المميز الذي كان خلال سنوات سابقة قدم فيلمين كبيرين ذاتيين هما"من بعيد"و"مناخات" لم يشأ في جديده هذا أن يمعن في أي ميلودرامية، بل آثر أن يغوص في واقعية حياتية لافتة، تقول الأشياء كما هي، وتعثر على حلول وإن على طريق القرود الثلاثة: الذي لم ير والذي لم يسمع والثالث الذي لن يتكلم -. إنه المجتمع الجديد، مجتمع نوع من الواقعية التي تريد أن تعيش الحياة كما هي. وربما تنجح في ذلك، نجاح سيلان المحتمل في الحصول على جائزة كبيرة عند اختتام المهرجان. غير ان اجتراح الحلول لا يعني أن فيلم"3 قرود"يقل قتامة عن الأفلام الأخرى التي نتحدث عنها. وهو أمر يشارك"3 قرود"فيه، فيلم البرازيلي والتر ساليس"خط العبور"وهو فيلم يبدو شديد القرب، روحاً وموضوعاً من"بداية ونهاية"لنجيب محفوظ وهذه الرواية نقلها المكسيكي ارثور ابشتاين الى السينما قبل سنوات، وقال لنا أستاذنا الأديب الكبير يومها أن هذا الفيلم هو أفضل ترجمة سينمائية لأي عمل من أعماله."خط العبور"موضوعه، هو الآخر، العائلة ولكن متحلقة هذه المرة، في أحياء ساوباولو الفقيرة، من حول أم تعمل خادمة، ولها أربعة أبناء صبيان، من الواضح انها أنجبت بعضهم من رجل مجهول ولا حضور له في الفيلم. إنها عائلة أمومية، إذا شئتم... والفيلم يصورها لنا خلال أشهر صيفية ثلاثة سندرك بسرعة أن الأم حامل فيها من جديد وعلى وشك أن تضع طفلها الخامس. ثمة، في هذه العائلة شيء من التماسك بالظاهر على الأقل، على رغم التناقض الكبير بين أخلاق وتصرفات الأبناء، من لاعب الكرة الذي يريد أن يفرض نفسه على فريق بأي طريقة من الطرق، الى المنتمي الى طائفة دينية طقوسية، الى الأرعن الذي سيتحول أمام أعيننا الى سارق محترف، وصولاً الى المراهق الأسود، الذي جعل من الباص وقيادة الباص محور حياته. في شكل أو بآخر يمكن النظر الى هذا الفيلم على انه استكمال لفيلم برازيلي آخر هو"مدينة الله"أنتجه ساليس نفسه من إخراج فرناندو مريّيس صاحب فيلم الافتتاح"العمى"هذه المرة، لكن الانفلاش المجتمعي في"مدينة الله"يقابله هنا انحسار داخل إطار هذه العائلة التي، هي الأخرى، تعيش حياتها كيفما اتفق، مكتفية بطموحات وتطلعات صغيرة، وسط عالم كفّ الحلم عن أن يكون ذا حضور فيه. الحياة كما هي مرة أخرى، بحلوها ومرّها: ذلكم هو الأساس في فيلم جيد التركيب صور كما لو كان وثائقياً، وعرف مخرجه كيف ينزع عن أي لحظة طابعاً درامياً عنيفاً كان يمكن أن يأخذه الى ميلودراما قاتلة. الأمل رغم كل شيء وهذا النزع لفتيل الميلودراما نجده في فيلم آخر عائلي، داخل هو بدوره في المسابقة الرسمية، لكن كل المؤشرات تؤدي منذ عرضه الى استبعاد وصوله الى أي جائزة، على رغم أنه كان واحداً من الأفلام المنتظرة أكثر من غيرها، لسمعة مخرجه الطيبة. هو فيلم"عاشقان"لجيمس غراي، الذي سبق أن صار نجماً كبيراً في الإخراج السينمائي الأميركي بفضل أفلام تنتمي نوعاً ما الى السينما المستقلة، مثل"الياردان"و"الليل لنا"، و"أوديسا الصغيرة". هذه المرة، في"عاشقان"، وعلى رغم ان غراي عاد مرة أخرى كما فعل في جميع أفلامه من قبل الى موضوعه الأثير: العائلة، لم يتمكن من أن يقدم موضوعاً قوياً، حتى وإن كانت لغته السينمائية بدت على قدر كبير من القوة. فالمشكلة كمنت في أن السمة الأساسية لشخصية بطله لم تصل تماماً: إنه نموذج ابن الأسرة اليهودية النيويوركية الصغيرة، خاضع ظاهرياً لسيطرة والديه ومشيئتهما، لكنه راغب في أعماقه بالتخلص منهما. ببحث عن الحب لكنه لا يجده حتى حين يجده. يحاول الانتحار ثم يصرخ بعد أن يقفز الى النهر، كي ينقذ. لعب خواكين فينكس هنا دوراً أخاذاً لكنه الدور لم يكن مقنعاً... وفي المقابل أتى بناء العائلة، أو العائلتين وعلاقتهما، جيداً، بل أتى"اوتوبيو غرافياً"الى حد ما، وهو أمر نعهده لدى غراي دائماً. هذه الأفلام الخمسة، ليست سوى نماذج متنوعة لهذا"الانقضاض"السينمائي الجديد على فكرة العائلة وحضورها في الحياة اليومية. ذلك أن ثمة ما لا يقل عن دزينة ونصف الدزينة من أفلام"كانية"أخرى تغوص في هذا العالم الذي يبدو السينمائيون هنا وكأنهم يكتشفونه من جديد... يكشفونه كل مرة جديدة من جديد. والحقيقة اننا لسنا ندري أبداً ما إذا كان هذا"الاكتشاف"المتجدد، لخير العائلة، لخيرنا... أو لخير السينما. وفي انتظار جلاء الأمور أكثر للوصول الى نتيجة ما... يسير مهرجان"كان"وقد وصل الى أيامه الأخيرة، من دون أن يحمل، حتى الآن، مفاجآت كبيرة، في استثناء هذه القتامة التي قد يحد منها المشهد الأخير والمميز في فيلم كلينت ايستوود"الابدال" وهو بدوره فيلم عن العائلة بأصغر تكويناتها: أم وطفلها -، المشهد الأخير حيث تقف الأم بعد سنوات من اختطاف طفلها، وبعدما كافحت لاستعادته بقوة وإيمان، لتقول إنها لم تفقد الأمل ولن تفقده أبداً. للرياضة حصتها من اهتمام المخرجين . كوستوريتسا لدى مارادونا وتايسون على خط الكاميرا حين يعجز أمير كوستوريتسا عن فعل هذا، مَن ذا الذي سيمكنه أن ينجح في فعله؟ كان هذا هو السؤال المحيِّر الذي دار في أذهان النقاد وأهل السينما عند انتهاء عرض الفيلم الأخير الذي حققه صاحب"أندر غراوند"و"زمن الغجر"، حتى الآن وهو فيلم"مارادونا"الذي كان عرضه قد أحيط بضجة كبيرة... تضاهي على أية حال الضجة الأكبر التي كانت، طوال العامين الفائتين، رافقت مراحل تحضيره وإنجازه. إذ، وسط صخب كبير كان كوستوريتسا أعلن بنفسه، في"كان"قبل عامين عزمه تحقيق فيلم عن لاعب الكرة الأرجنتيني الأكبر. لكن الذي فهم يومها هو أن الفيلم سيكون درامياً عن طفولة مارادونا وكيفية وصوله الى مكانته العالمية. في النهاية، وبعد مخاض طويل، أنجز الفيلم وعرض ليتبين أنه أشبه بأن يكون تحقيقاً تلفزيونياً طويلاً عن ساحر الملاعب. كان يمكن أي مخرج جيد أن يحققه... أي أن عملاً من هذا المستوى لم يكن في حاجة الى أن ينفق مخرج كبير من مستوى أمير كوستوريتسا، عامين من حياته لإنجازه. عادية الفيلم حيرت كثراً ودفعتهم الى التساؤل: أمير كوستوريتسا الى أين؟ وتأتي مشروعية هذا السؤال من كون فيلم"عدني"الذي كان هذا المخرج البوسني ? الصربي، شارك به العام الفائت في"كان"مر بدوره مرور الكرام ليسجل تراجعاً في مسيرة صاحبه، ولكن إذا كان كوستوريتسا خرج خاسراً من المشروع، فإن الرياضة نفسها خرجت رابحة بعض الشيء ولو في مجال القول إن مخرجين كباراً لا بأس عليهم إن هم التفتوا مرة في حياتهم الى الرياضة فأكسبوها وخسروا هم... إذ، حتى وإن كان صحيحاً أن الملايين التي ستشاهد"مارادونا"ستقصده بصرف النظر عن هوية مخرجه حيث ان نجومية مارادونا وحدها تكفي، فإن لمسة كوستوريتسا بدت واضحة بين الحين والآخر، ما ميز الفيلم، على رغم رأينا الإجمالي فيه، عن معظم ما نعرف من أفلام سينمائية جعلت الرياضة موضوعها الأساس. وليس أدل على هذا من فيلم"رياضي"آخر عرض في هذه الدورة لمهرجان"كان"، ومر بدوره بما يشبه مرور الكرام، على رغم أن نجومية"بطله"، أي شخصيته الأساسية مايك تايسون لا تقل حجماً عن نجومية مارادونا... ومع هذا، لا بد من أن نشير الى أن حكاية تايسون نفسه تفوق في دراميتها، ألف مرة، حكاية مارادونا. فإذا كان الجانب"الدرامي"في حياة هذا الأخير، منه إدمانه المخدرات، الى حد تضحيته بجزء من مكانته الرياضية ومن سمعته الشعبية بسبب هذا الإدمان، فإن مشكلة تايسون والتي يركز عليها الفيلم المعنون"تايسون"- تبدو عويصة أكثر: إنها حكاية إدمان ومطاردات بوليسية وسجن وانحدار تام. هذا كله موجود في حياة بطل الملاكمة الأكبر في تاريخ الربع الأخير من القرن العشرين... وموجود في الفيلم... غير أنه كله أتى باهتاً خطياً، فشكل"اللاحدث"بدلاً من أن يشكل الحدث المرجو. الرياضة في"كان"لم تكن ممثلة في هذين الفيلمين فقط، بل في عدد آخر من الأفلام... والروائية حتى. لكن أبرز حضور لها في عالم الفيلم الروائي أتى في جزء أساس من فيلم"خط العبور"لوالتر ساليس، حيث ان واحداً من أبناء الأم التي تحتل حكاية كفاحها في الحياة وإنجابها الدائم وصراعها مع أبنائها وفي سبيلهم، واحداً من هؤلاء الأبناء، والذي يركز الفيلم على قصته أكثر ما يركز، هو لاعب كرة قدم، مثل ملايين الفتيان البرازيليين الآخرين، وهذا ما جعل المشاهد التي تروي جانبه من الحكاية، من أجمل مشاهد الفيلم. وهذا على أية حال، أمر طبيعي في فيلم يتحدث عن الحياة اليومية في البرازيل، البلد الذي يعتبر على صعيد الكون كله، وطن كرة القدم بامتياز، والذي يقال عنه إنك إن حككت جلد أي واحد من أبنائه، صغاراً كانوا أو كباراً، ستجد تحته لاعب كرة قدم كامناً. وفيلم"خط العبور"قدم هذا الواقع، عرضياً في سياق أحداثه، ولكن جوهرياً في روح الفيلم.