افتتح الرئيس جورج بوش الإبن عهده الأول بالقول بدولتين على أرض فلسطين. وجدَّد هذا الوعد على مشارف غزو العراق، ثم نسيَ الأمر كله حتى مطالع العام 2007 حين عاد مع وزيرة خارجيته هذه المرة لتأكيد الأمر نفسه، والذي صار مؤتمر أنابوليس أواخر العام 2007 حجر الأساس له. وما بدا اليهود في إسرائيل، ولا في الولاياتالمتحدة متحمسين لهذا الأمر، وإن اختلفت الحُجج والتعليلات. الإسرائيليون قالوا أيام شارون ولا يزالون إنه قبل البحث بهذا الخيار أو ذاك، لا بد من الاتفاق على"الشريك"الفلسطيني، وهو ما كان موجوداً في ظل زعامة عرفات القوية والمتشدّدة، كما انه ليس موجوداً الآن بسبب تشرذُم الفلسطينيين، وضعف زعامة محمود عباس. أما اليهود الأميركيون - وهم الأكثر تقبُّلاً لفكرة السلام في العادة - فيذهبون الى أن حرب تموز يوليو 2006 أثبتت أن الجمهور الفلسطيني والعربي لا يريد السلام، ولذا فقد استقبل حرب"حزب الله"على اسرائيل بترحاب شديد يضاهي ترحيبه بصواريخ صدام حسين على الدولة العبرية في مطلع التسعينات. ولذا لا ضمانة هناك حتى لو حصل الاتفاقُ على التنفيذ أو الاستمرار. فمحمود عباس طرف، و"حماس"طرف آخر. وشعوبُ دول الجوار تتربّصُ بالحلول. وإيران وسورية تتدخلان في لبنان وفي غزة. ومن هنا فينبغي الانتظار لحين ايجاد حل في العراق، وآخرَ مع ايران وسورية. لكن اللافت كان، وعلى مشارف أنابوليس، ظهور فريقٍ من اليهود الأميركيين، والليبراليين الإسرائيليين، يقول بحلّ الدولتين الآن، للخوف على يهودية الدولة العبرية، وللخوف على العرب من مؤيّدي التسوية. في الأمر الأول قال هنري كيسنجر إنه إذا لم تنشأ دولة فلسطينية في الضفة وغزة، فإن الاحتلال الإسرائيلي سيستمر، ولن يمضي وقت طويل حتى يصبح الفلسطينيون على أرض فلسطين التاريخية أكثر من اليهود، فيذهب الطابع اليهودي للدولة أدراجَ الرياح. واليساريون اليهود قالوا إن المعتدلين العرب قدّموا المبادرة العربية للسلام، والمنطقة تعجُّ بالأصوليات، وإذا لم تتحقق التسوية الآن، فإن الأصوليات ستقوى على المعتدلين، وسيجد الإسرائيليون أنفُسَهم في بحرٍ أصوليٍ من كلّ الجهات. وإذا كانت السلطة الفلسطينية ضعيفةً الآن، فإنها لن تكون موجودةً بعد مدة إن لم تتحقق التسوية، وسيكونُ عندها على الجيش الإسرائيلي أن يخوضَ حرباً دائمة ليس من أجل فرض الأمن والسلام، بل من أجل فرض هُدنة هشّة لأن الأصوليين لا يقولون بالتسوية أو بالمصالحة، بل أقصى ما يقبلونه الهدنة القصيرة أو الطويلة الأمد، بحسب موازين القوى التي يقدّرونها! والآن، وعلى مشارف احتفالات إسرائيل العالمية بالذكرى السّتين لنشوئها، يعود المشهدان للانطراح والتجدد: مشهد النزاع الدائم الذي يخفتُ أو يشتعل، كما حدث حتى الآن، ومشهد التسوية الهشّة والدولتين، اللتين لا تضمنان الأمن الكامل لإسرائيل، لكنهما تجعلانها أكثر أماناً، بدلاً من انتظار المستقبل الذي يتفق الجميع على أنه من دون المفاوضات والتسوية سيكون أكثر قتامةً. بيد أن المصريين والأردنيين حاولوا ويحاولون إقناع الأميركيين والإسرائيليين على حدٍّ سواء بالحلّ الثالث أو المخرج الثالث إذا صحَّ التعبير، وهو مخرج الحلّ الشامل من خلال المبادرة العربية للسلام. فالخوفُ من"حماس"ونموذجها لا يبقى قائماً إذا تحقق السلام مع سورية ومع لبنان بحسب ما تقول به المبادرة العربية، لأن"حماس"لن تجد عند ذلك من يدعمُها، ما دامت سورية التي تحررت أرضها، لا مصلحة لها في ذلك، بعد توقيع المعاهدة مع اسرائيل، وخروج الأخيرة من الجولان المحتلّ. ويبدو أن هذا هو جوهرُ المسعى لعقد قمّةٍ خُماسيةٍ في شرم الشيخ يحضُرها الى جانب الرئيس مبارك، الملك عبدالله بن عبدالعزيز، والملك عبدالله الثاني، وأبو مازن، والرئيس بوش. لكن ماذا يريد الأميركيون بالفعل في العام الأخير لولاية الرئيس بوش؟ حتى الآن تحدثوا كثيراً في المعركة الدائرة على خلافة بوش بين الحزبين، عن تحسُّن الوضع بالعراق، وإمكان بدء الانسحاب من هناك أواخرَ هذا العام، مع سحب العشرين ألفاً الذين أتوا، في شهر حزيران يونيو من هذا العام. بيد أن بوش ووزير دفاعه وقائد جيوشه بالعراق، قالوا قبل ثلاثة أيامٍ إنهم لن يبدأوا بسحب الجند في حزيران كما كان مقرراً. ومع استمرار الهجوم على سورية لتدخُّلها في لبنان، دعوا الإيرانيين - بعد الاشتباكات العنيفة مع مقتدى الصدر - للتفاوض على الأمن في العراق. وهذا يعني، مأخوذاً من الواقعتين، أنهم ما عادوا يأملون بإمكان الانتصار بالعراق، ولا بإمكان سحب القوات، وإنما جُلّ ما يأملونه ألاّ ينفجر الوضع بالعراق الى مدىً أبعد، فيؤثّر ذلك في فوز الجمهوري جون ماكين بالرئاسة. وهذا الاستنتاج لا يبدو متسرّعاً بعد الاشتباكات مع مقتدى الصدر وميليشياه طوال أسبوعين، وبعد جلسات الاستماع بالكونغرس، والتي تلاها قرار سحب القوات، وخلط الهجوم على ايران بدعوتها للتفاوض على الأمن هناك. والواقعُ أن الولاياتالمتحدة لا تتحمّلُ الأعباء والتداعيات لعدم الفوز بالعراق، ولا لانسحاب القوات مع ترك العراق للفوضى ولإيران. ولذلك، يبقى الوضعُ الراهنُ الذي يخمدُ أوارهُ يوماً، ويشتعلُ أياماً وأسابيع، هو الأولى بالاعتبار، بالنظر لمستقبل خلافة بوش، وبقاء الحزب الجمهوري الممكن في الرئاسة بعد خسارة الكونغرس بمجلسيه. ومع ذلك فهناك احتمال مفادُه ألاّ تسمح لهم ايران حتى بهذا المخرج. وعندها لا يبقى أمامهم غير الضربات العنيفة هنا وهناك. وإذا ازداد الأمر سخونة، وصار احتمالُ الخسارة في الانتخابات وارداً، فإن الضربة لإيران أو الحرب من حول اسرائيل تصبح أكثر وروداً، إذا ارتأوا أن ذلك يمكن أن يحقق انتصاراً من نوعٍ ما. ولا شكّ في أن ايران تحسبُ الحساب لذلك، ولذا فستحرص على درجةٍ من السخونة لا تؤدي الى انفجارٍ مُريعٍ من جانب أيّ طرف. وقد يعني ذلك تجميد الوضع أيضاً بين اسرائيل وسورية و"حزب الله"، من أجل بلوغ الهدف نفسه. بيد أن ذلك هو الذي لم يحسب له السوريون وربما الإيرانيون حساباً. فقد تواتر عن الرئيس الأسد قوله قبل شهور إنه لا بد من انتظار ذهاب بوش، ومجيء الديموقراطيين من أجل التفاوض على تسويةٍ أو تسويات في سائر أنحاء المنطقة. لكن الكفّةَ الآن تبدو مائلةً الى جون ماكين، وهو جمهوري متشدد مثل بوش. وإثارته المتاعب للأميركيين هنا أو هناك يمكن أن تشجع الحرب، وتزيد من احتمالاتها، لكن التهدئة ستجيء بماكّين، وفي كلا الحالين ما عاد هناك أملٌ في غير المُطاولة في التجاذُب لا أكثر. وإذا كان المخرجُ في العراق الآن شبه متعذّر، فهل يكون هناك سعيٌ لانتصارٍ رمزيٍ على جبهة"الإرهاب"؟ الى ذلك تشير التحركات بأفغانستان، والانتظام الذي حدث في الوضع الباكستاني، والتوتر الذي يبدو في تناقُض تصريحات بن لادن قبل شهرين، مع تصريحات الظواهري قبل أيام. بن لادن عاد للتركيز على فلسطين، وضرورات مجاهدة اسرائيل الآن وليس غداً. أما الظواهري، الكثير الكلام في الشهور الأخيرة، فقد أخذ على"حماس"وصواريخها أنها تقتل أطفالاً أبرياء، لكنه ما رأى حرجاً في سقوط ضحايا أبرياء في الهجمات على الولاياتالمتحدة ومصالحها وحلفائها. وهكذا، ولسببٍ لا ندريه، لا يزالُ الظواهري - ربما لقِصَر اليد - لا يريد خوض الحرب على الجبهة التقليدية للعرب، ويريد أن يظلّ الجهد منصبّاً على المواجهة مع أميركا. فهل يسعى الأميركيون لانتصارٍ رمزي، من طريق النّيل من بن لادن أو الظواهري، كما جرى للزرقاوي وعماد مغنية؟ هذا ما تشيعه دوائر استخبارية، لكن ما عجز عنه الأميركيون طوال أكثر من ست سنوات، لا ينتظر أن يتحقق الآن. وإذا كان الانتصار بالعراق أو بدء الانسحاب منه غير مرجح، واحتمال تحقيق اختراق رمزي في مسألة الإرهاب غير مرجحٍ أيضاً، فلا يبقى غير فلسطين واسرائيل. إن تحقيق اختراقٍ على هذه الجبهة، يفيد الرئيس بوش في رسالتيه وتحقيق تعهداته، ويقوّي احتمال نجاح ماكين، لأنه يعطيه المزيد من أصوات اليهود الأميركيين، الذين يصوّتون في العادة للديموقراطيين. ثم إن ذلك يقوّي جانب العرب الذين ركزوا على التسوية وراهنوا عليها، في حين انصرف الأميركيون، وانصرف الإسرائيليون، وانصرف الإيرانيون، الى المواجهة، طوال أكثر من خمس سنوات. وليست التسوية في فلسطين أمراً سهلاً. فحتى لو وافق الطرفان على التفاوض على المرحلة النهائية، كيف سيجري استيعابُ تمرد"حماس"؟ ثم أين التقدم في مسألتي القدس والمستوطنات؟ وهكذا وبين العراق والإرهاب وفلسطين لا يبقى غير ملف فلسطين الأقل كلفة وغير المؤثر في الانتخابات الرئاسية، وهو مُفيد للغرب. ومع ذلك، فإنّ إمكانات النجاح ضئيلة وصعبة، بالنظر الى الوضع لدى كلٍ من الطرفين، ولأن البدائل الأخرى، تبدو أغلى وأكثر صعوبة. فالمطلوب أن يحاول الأميركيون، وأن يستجيب الإسرائيليون بهذا القدر أو ذاك في الشهور الأخيرة من رئاسة الرئيس بوش، والباقي متروك للظروف بعد انقضاء الذكرى الستين للدولة اليهودية. * كاتب لبناني