لا بد أن يكون العام المقبل عاماً مهماً في ما يتعلق بالصراع العربي - الإسرائيلي. فما لم نحقق تقدماً حقيقياً، فإن فرص الحل على اساس قيام دولتين سوف تتلاشى ببطء - بل ربما بسرعة. إن الوضع السائد على أرض الواقع يجعل الكثير من الناس يشعرون بعدم الأمن ويتركهم في حالة من الفقر واليأس، ويؤدي بشكل سريع إلى تقويض العملية السياسية. وبينما يشعر كلا الطرفين بالإنهاك بسبب الصراع، فإنهما يشعران كذلك بإنهاك أسرع نظرا الى الجهود التي يبذلانها لتسوية الصراع. إن أساسيات التوصل إلى اتفاق للصراع الإسرائيلي الفلسطيني تتطلب الآن مستوى من الإجماع لم يسبق له مثيل. فليس هناك بديل فعال لحل وجود دولتين على أساس حدود عام 1967: دولة فلسطينية ديموقراطية فاعلة وقادرة على البقاء، تعيش بسلام إلى جانب إسرائيل آمنة من الهجمات ويعترف بها جيرانها. ويجب أن تكون القدس عاصمة لكلتا الدولتين، مع التوصل الى تسوية عادلة لقضية اللاجئين. هذا ليس فقط ما يريده الرئيس الفلسطيني، بل هو أيضا ما يطمح إليه رئيس الوزراء الإسرائيلي. وهو كذلك موقف كل من الإدارة الأميركية المغادرة والقادمة، وموقف أوروبا والعالم العربي. إلا أن الجهود الرامية لتحقيق هذه الرؤية لا يحالفها النجاح. فبالنسبة الى الكثير من المواطنين الفلسطينيين والمواطنين الإسرائيليين، لا تحقق هذه الجولات من المحادثات التي لا نهاية لها أي تحسن في الأوضاع على أرض الواقع. حيث ما زال الإسرائيليون يشعرون بأنهم مهددون وواقعون تحت الحصار. فقد حاولوا الانسحاب من غزةولبنان، لكنهم كوفئوا بنيران الصواريخ. بينما يشعر الفلسطينيون بأنهم تعرضوا للغش والذل. فتجربتهم اليومية عبارة عن نقاط تفتيش وحواجز على الطرق ومضايقات. وعلى رغم الوعود التي قطعت خلال مؤتمر أنابوليس قبل اثني عشر شهرا، ازداد التوسع في بناء المستوطنات في القدسالشرقية والضفة الغربية. وبينما يتفاوض قادتهم مع إسرائيل، فإن المواطنين الفلسطينيين يشعرون بأن ما يفترض أنهم يتفاوضون حوله يتعرض للنهب. وفي غزة باتت الأوضاع أكثر سوءا: فالقيود المفروضة على إدخال المعونات عبر معابر الحدود أدت إلى معاناة المواطنين من نقص كبير في المواد الغذائية والأدوية. بينما الهجمات الصاروخية تقول للإسرائيليين بأنه ليس باستطاعتهم أن يكسبوا شيئا عندما ينسحبون من الأراضي المحتلة. إن زيارتي الأخيرة للمنطقة جعلتني أتوصل إلى قناعة أن السلام الشامل فقط هو الذي يمكن أن يكون دائما: سلام في صميمه دولة فلسطينية مستقلة، ويدعمه سلام أوسع نطاقا بين إسرائيل والعالم العربي. وبمعنى آخر، حل يضم 23 دولة: 22 دولة عضو في جامعة الدول العربية إلى جانب إسرائيل. لقد عانت عملية السلام من الجمود طوال حوالي سبع سنوات تقريبا، لكن تجري الآن مفاوضات جادة بين القيادتين الإسرائيلية والفلسطينية. ووافقت سورية على إقامة علاقات ديبلوماسية مع لبنان. وقامت الحكومة التركية برعاية المفاوضات بين دمشق وتل أبيب، بينما تحاول مصر التوصل الى اتفاق للمصالحة بين الفلسطينيين. لذلك السبب فإنني أرحب بتجدد التركيز على مبادرة السلام العربية التي أطلقت عام 2002، والتي تعد إسرائيل بتطبيع كامل للعلاقات مع جيرانها من الدول العربية مقابل الانسحاب من الأراضي المحتلة. لقد كانت تلك المبادرة حينذاك - وما زالت حتى اليوم - أفضل أمل لدينا للتوصل للسلام. فهي تمنح السلطة الفلسطينية الدعم الإقليمي القوي الذي تحتاجه للتوصل لاتفاق، كما تعرض على إسرائيل ما تتوق إليه حقا - الاستقرار والأمن في المنطقة. ولهذا السبب رحبت بالرسالة التي وجهتها أخيراً جامعة الدول العربية الى الرئيس الأميركي المنتخب باراك أوباما، وأكدت فيها على التزام الدول العربية بمبادرة السلام العربية. ولهذا السبب كذلك دفعت المملكة المتحدة تجاه مصادقة أكبر من الدول الأوروبية على موقف الدول العربية، حيث أعطى المجلس الأوروبي في الأسبوع الماضي دعمه القوي للتوصل الى حل إقليمي شامل للصراع العربي - الإسرائيلي. إذا كان لنا أن نحقق الحل على اساس قيام دولتين، يتعين على إسرائيل احترام التزاماتها بموجب خارطة الطريق بشأن المستوطنات غير القانونية، وإخلاء مبنى"بيت السلام"في الخليل أخيراً كان بداية جيدة، لكن يتعين على إسرائيل إخلاء جميع البؤر الاستيطانية غير الشرعية. وترسل المملكة المتحدة رسالة واضحة بأن المستوطنات تمثل عائقا كبيرا أمام تحقيق السلام، ونحن نعمل حاليا على ضمان أن المنتجات الآتية من هذه المستوطنات لا تستفيد بشكل غير قانوني من الاتفاقيات الجمركية التفضيلية المخصصة لمساعدة الفلسطينيين. ويتعين على الفلسطينيين، من جانبهم، التوقف عن أعمال العنف وإيجاد سبيل للتوحد خلف المفاوضات. فاستمرار الهجمات التي تشنها"حماس"ضد المدنيين، ورفضها قبول الالتزامات الحالية لمنظمة التحرير الفلسطينية، بما فيها الاعتراف بإسرائيل، يؤديان لتفريق صفوف الفلسطينيين وينجم عنهما المزيد من المعاناة لأهالي غزة. إلا أن السلام الشامل يتطلب اتخاذ خطوات ليس من جانب الإسرائيليين والفلسطينيين فقط، فهو يتطلب مشاركة فعالة من قبل جميع دول جامعة الدول العربية. ويتعين على جميع دول المنطقة دعم عملية المصالحة بين الفلسطينيين باعتبارها مطلباً ضرورياً للتوصل لحل وجود الدولتين. وهنا نشيد بشكل خاص بالدور الذي تلعبه مصر بهذا الصدد. ويتعين على الحكومة اللبنانية بناء دولة يمكنها توفير السلام والأمن لمواطنيها، وكذلك لجيرانها. كما يتعين على دمشق كذلك أن تلعب دورها ضمن التحالف العربي، والعمل باتجاه تطبيع علاقاتها مع إسرائيل. وذلك يعني ضبط المسلحين ومنع تدفق الأسلحة إلى"حزب الله". والجائزة التي ستحصدها سورية ستكون كبيرة، وتفوق كثيرا اهتمام سورية بتسوية قضية مرتفعات الجولان. سوف تعمل بريطانيا طوال عام 2009 مع حلفائها الأوروبيين ومع الولاياتالمتحدة للدفع باتجاه التوصل الى حل شامل. وقد قمت خلال الشهور القليلة الماضية بزيارة ليس فقط لإسرائيل والأراضي المحتلة، بل كذلك إلى سورية ولبنان والإمارات العربية المتحدة حاملا معي هذه الرسالة. كما أجريت محادثات في لندن مع وزيري خارجية المملكة العربية السعودية وسورية. إن دعمنا كان - وما زال - دعما عمليا وسياسيا. ونقدم المساعدات الإنسانية لأهالي غزة -حيث قمنا بتسديد مبلغ يفوق 30 مليون دولار أميركي لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين وغيرها لأجل توفير المساعدات العاجلة من الغذاء والمياه والمعونات الطبية. كما أننا نعمل على تقوية المؤسسات التي ستشكل حجر الأساس لدولة فلسطينية مستقلة. فقد تعهدنا خلال عام 2007 بتقديم حوالي نصف بليون دولار من المساعدات على مدى ثلاث سنوات، وذلك لكي تتمكن السلطة الفلسطينية من دفع تكاليف الخدمات الأساسية. كما أننا نوفر التدريب والمعدات للشرطة المدنية الفلسطينية لمساعدة افرادها على توفير حماية أفضل لمواطني الأراضي الفلسطينية. وعلاوة على ذلك فإننا نساعد في تطوير الاقتصاد الفلسطيني وخلق فرص العمل. فمنتدى التجارة مع والاستثمار في فلسطين الذي عقد في لندن خلال الأسبوع الجاري جمع رجال الأعمال الفلسطينيين والبريطانيين، وسوف يؤدي - كما نأمل - إلى زيادة الاستثمارات التجارية البريطانية في الأراضي المحتلة. ليس بوسع أحد أن يقلل من شأن حجم التحديات. وجميعنا على دراية تامة بأننا طوال عقود من الزمن لم نتوصل إلى حل للصراع العربي - الفلسطيني. لكن لا بد أن يشهد العام المقبل إحراز تقدم كبير إن كنا نود الإبقاء على فرص السلام. لا يمكننا احتمال حتى التفكير بالفشل. يمكننا أن نصنع التاريخ خلال عام 2009، لكن فقط في حال كان لدينا جميعا الإبداع والرؤية كي نجعل السلام الشامل حقيقة واقعة. * وزير الخارجية البريطاني نشر في العدد: 16694 ت.م: 18-12-2008 ص: 15 ط: الرياض