بعد جهد كبير ومواظبة يومية على تصفح إعلانات الوظائف في الجرائد والمطبوعات المتخصصة، وقعت ريما على الوظيفة التي تلائم"ظروفها". وتقول:"لا خيار أمامي والوظيفة قد تفتح لي أبواباً أخرى"، فابنة الثامنة عشرة التي لم تجد طريقها الى الجامعة، اكتفت بشهادة مهنية في المحاسبة بعدما"استغنت"عن إكمال تحصيلها العلمي للسنتين الأخيرتين في المدرسة. لم يكن اختيارها المحاسبة"حباً بالأرقام"والجداول المعقدة، ففي اللحظة التي فُرض عليها الخيار بين الجامعة والعمل لم تجد في المنزل من يُحسن توجيهها نحو"الأفضل لمستقبلها"أو يشجعها على تنمية موهبتها في... الغناء. بين المحاسبة والغناء فرق شاسع، وحدها ريما اختبرت صعوبة التأقلم في الجمع بين ما ترغب فيه"بقوة"وما فرض عليها."الغناء ممنوع"بأمر من شادي الشقيق الأصغر لريما. وساهمت"ميول"الوالدين في حسم المسألة سريعاً"ما يقوله أخوك هو الصحيح. ما بدنا"نخرّج"مطربة من المنزل". لم تأخذ"الأزمة"العائلية كثيراً من النقاش لأن"مطرقة"شادي، كما في كل الأمور الصغيرة والكبيرة، هي التي تتكفل بإقفال باب الأخذ والرد. في يوم العمل الأول في شركة المحاسبة نالت ريما"جرعة"تشجيع من شادي الذي يصغرها بسنة واحدة"تعلمين كم أحبك وبدّي راحتك، الغناء ما بفيد، بكرا بتصيري يمكن مديرة شركة محاسبة". لكن"مفعول"الجرعة انتهى فور وصول ريما الى مقر عملها"أدركتُ سريعاً أني في المكان الخطأ. لقد درست المحاسبة لكن هذا لا يعني أن تكون مصدر رزقي والمرادِفة لشخصيتي". تحكّم الأخ بشقيقته. حالة ليست غريبة عن العديد من العائلات، والتي تصل أحياناً الى حد تحكم الابن بوالديه. تنطلق لا شعورياً من"حب التملك وإثبات الوجود"لتنتهي أحياناً عند الحاق الأذى بمن نظن أننا نحميهم. في حالة ريما، لم يقف"تحكم"شادي عند حدود اختيار الاختصاص والوظيفة لشقيقته، بل تعداه الى التدخل في"التفاصيل". تروي ريما، التي لا تزال تزاول عملها في المحاسبة الى أن تجد وظيفة أفضل، عن محاولاتها الدائمة لإقناع والديها بضرورة منع شقيقها الأصغر من التدخل في حياتها و"فرض شروطه"، لكن الجواب لم يكن يوماً مرضياً لها"هو رجّال العيلة ويعرف أين تكمن مصلحتك". تشعر ريما، كما تقول، كأنها"تحت المراقبة"ولا خيار لها سوى الانصياع"خروجي من المنزل ونزهاتي مع الأصدقاء تتطلب دوماً موافقة شادي. وأكثر ما أزعجني هو وضعه إحدى صديقاتي على"اللائحة السوداء"، وقرر منعي من رؤيتها مع العلم أنها رفيقتي من أيام الدراسة". وفي قاموس شادي"ممنوع ارتداء الألبسة القصيرة"الفساتين والتنانير القصيرة، واللباس المثير والسهر الى ما بعد منتصف الليل"لائحة ممنوعات تأقلمت ريما مع بنودها، لكن"النق"خبزها اليومي، وهي تعترف بأنها تستعجل الزواج، علّ فارس الأحلام يكون أكثر مرونة من شقيقها"المتسلط". يفسّر الدكتور فادي اليازجي الاستشاري في الطب النفسي ميل الذكور، خلال سن المراهقة، الى"التسلط"على العنصر الانثوي في المنزل وإثبات رجولتهم انطلاقاً من عاملين أساسيين: العامل الفيزيولوجي حيث عادة ما يتعرض المراهقون الى فورة هرمونية، تختلف حدّتها بين مراهق وآخر، فتفرز"الغدة الكظرية"فوق الكلى هرمونات في شكل كثيف تولّد تصرفاً عنفياً يتخذ اشكالاً عدة، يصل أحياناً الى حد الضرب وتعنيف الأهل. وهناك العامل النفسي اذ أن مجتمعاتنا عادة ما تعطي الأفضلية للذكر على الأنثى وتقدمه على أنه"النموذج الصالح". وهذا ما يتبدى من خلال ترسيخ عقلية"الرجولة"لدى الطفل الذكر حتى قبل بلوغه سن المراهقة ودفعه الى الإحساس بأنه"ظل الأب"وأحياناً"ظل الزوج". "العلاج"، برأي الدكتور اليازجي، يتطلب العمل على مستوى العائلة ككل، ذلك أن الأهل يلعبون دوراً أساسياً في استيعاب هذه الحالة النفسية لدى المراهق و"تنفيسها"وتوجيهها في المسار الصحيح، كي لا تتحول الى أزمة تهدد الاستقرار النفسي للعائلة برمتها، ذلك أن أسلوب تعاطي الأهل الخطأ مع هذه الحالة يمكن أن يؤدي الى تفاقمها وإحداث شرخ بين أفراد العائلة. رواية المراهقة نوال 16 سنة تعكس جانباً اجتماعياً نافراً من مشكلة"سيطرة"الأخ على أخته. الوالد توفي باكراً واضطرت الأم للعمل في أحد المحال التجارية، أما علي ابن الثماني عشرة سنة فتحمّل مسؤولياته فور وفاة والده، لكنه وسّع"بيكار"صلاحياته الى الحد الذي شكّل فيه عبئاً حقيقياً على والدته وشقيقته. فالعائلة المعروفة بصيتها"النظيف"، ارتقت بفضل"أوامر"علي الى مرحلة"الانعزال عن العالم". وهكذا باتت الأم العاملة ملزمة بالتقيد بدوام عملها ك"الروبوت"، لا زيارات ولا مشاريع مع الجيران، باستثناء الأقارب. والحال لم تكن أفضل مع نوال"بات يتصرف على أساس أنه رب العائلة، على رغم أن قسماً كبيراً من مصروفنا كان يؤمّنه شقيقي غالب الذي يعمل في الخارج. النزهات ممنوعة مع الأصدقاء والسهر في الليل من المحرمات، وكان يتولى اصطحابي الى المدرسة ويحرص على"الإشراف"على اختيار ما يناسبني من ملابس، ويؤكد لي منذ الآن أن اقتناء السيارة والخليوي لن يكون متوافراً خلال دراستي في الجامعة". نشر في العدد: 16677 ت.م: 01-12-2008 ص: 24 ط: الرياض