كيف ستكون المدن في المستقبل بعد 10 أو 20 سنة؟ كيف ستكون المدن الكبيرة منها تحديداً؟ هل ستكون من دون هوية معيّنة بسبب العولمة التي تجعلها شبيهة بعضها بالبعض الآخر، كما يتخوف المهندس المعماري الإسباني والمؤرخ الفني الشهير خافيير ماديرلو؟ أم مكاناً يعيش فيه الناس حياة عالية الجودة بمن فيهم الشبيبة والعائلات، كما يتخيلها زميله ومواطنه خوان هيريروس؟ على الطاولة المستديرة التي عقدت أخيراً في الجامعة الأميركية في بيروت بدعوة من معهد"سرفانتيس"الإسباني، لم يتمكن أحد من الإجابة على هذا السؤال. إلا أن المؤكد أنه من الآن فصاعداً سيقوم المهندسون المعماريون بمناقشة هذا الموضوع في شكل مكثّف. نداء هيريروس كالتالي:"يجب أن نشارك في صناعة المستقبل". وصل مهندسون معماريون ومخططو مدن في أماكن أخرى أيضاً إلى هذه الحصيلة. في فرانكفورت مثلاً أطلقت إدارة المدينة نقاشاً حول الإمكانات المستقبلية للمدينة الواقعة على ضفة الراين - ماين. وكلّف المهندس ومخطط المدن ألبرت شبير تحضير ملف يعرض فيه أفكاراً حول موضوع"فرانكفورت عام 2030". ففي السنوات ال15 الأخيرة بدأت مدينة البنوك بالتخلي شيئاً فشيئاً عن جذورها الصناعية. بدأت المصانع تختفي وفي الوقت ذاته ازداد عدد المؤسسات المالية والإعلانية. يشمل التصميم العام للأبنية الذي أُقرّ أخيراً اختيار 20 موقعاً جديداً لإشادة أبنية عالية. ستنشأ هناك شقق سكنية إلى جانب المكاتب. إلا أنه من غير الواضح ما إذا كانت هذه ستكون مشابهة لنموذج خوان هيريروس. هذه الشقق هي عبارة عن مساكن حديثة جداً وغالية الثمن، حيث لن تتمكن العائلات من الإقامة فيها. هذا ما ينطبق أيضاً على منطقة"سوليدير"في بيروت وهي منطقة مزدهرة وتتميز بالنشاط العمراني غير العادي فيها. أعيد بناء المدينة كلها بعد الحرب الأهلية، ويبدو أنه حان الآن دور الكورنيش الجديد الممتدّ مقابل شاطىء عين المريسة وصولاً الى منطقة المرفأ، حيث بدأ يظهر بناء تلو الآخر. وتقوم فيه بشكل خاص سلسلة فنادق عالمية بالتفتيش عن موطئ قدم لها هنا. معظم سلاسل الفنادق العالمية ممثلة. أبنية فاخرة كثيرة غالباً ما نرى أمامها سيارات البورش والرولز رويس. إلا أنه نادراً ما يظهر النور من نوافذها. لا يسكنها إلا أبناء الطبقة الأرستقراطية فقط، أو خليجيون ولبنانيون مهاجرون يمكثون فيها في العطل السنوية. ويبدأ سعر كل منها بما لا يقلّ عن مليون دولار أميركي. ومباشرة في المرفأ المقابل، ترسو اليخوت الباهظة الثمن. هذا البذخ والأبنية العالية على الشاطئ يذكرنا بالمدينة الفنية الإسبانية"بنيدورم". ليست جميلة فعلاً ولكنها مؤثرة. المهندس اللبناني المشهور والأستاذ المحاضر في الجامعة الأميركية برنار خوري لا يعطي أهمية كبيرة لهذا التطور كما يظهر في شكل واضح خلال المناقشة. يقول من دون أن يظهر أي امتعاض:"أنا خارج السباق. لقد تم استبعادي". ويدعو خوري زملاءه إلى الاهتمام بالمشاريع الخاصة أكثر، مشيراً الى أن"99 في المئة من المدن مبنية بواسطة المبادرات الخاصة". ويضيف:"ليس بالأمر السيّئ تصميم المحال التجارية الكبرى والنوادي الليلية". كذلك ينظر خوان هيريروس بأسف للنشاط العمراني الكبير على طول الشاطئ الإسباني. تابع المرء التطور العمراني على طول الشاطىء الأسباني لمدة طويلة من دون تخطيط، بينما توجه كل الاهتمام إلى بناء الابنية العامة مثل المكتبات. يمكن لزائري بيروت أن يلاحظوا بسرعة أنه الى جانب الأبنية العالية الجديدة توجد أبنية قديمة مهدمة. على هذا الأساس يعتبر فندق"هوليداي إن"المهدم والواقع إلى جانب منطقة"سوليدير"المزدهرة، نقطة جذب وهدف محبب لكاميرات السياح. البناء تذكار من الحرب الأهلية. حتى اليوم يمكن للمرء أن يرى عليه الثقوب الناتجة عن طلقات الرصاص. مع العلم أنه لم يتم الإبقاء عليه في شكل إرادي، فالأسباب التي أدت إلى الإبقاء عليه على هذه الحال هي أسباب اقتصادية. إلامَ ستؤول إليه الأمور؟ لا أحد يدري. يحتاج المرء إلى كثير من الخيال كي يتصوّر كيف ستكون المدن في المستقبل. خيال مثل خيال الأطفال. لذلك أطلقت صحيفة"فرانكفورتر روند شاو"مسابقة بين تلامذة المدارس بعنوان"كيف أتخيل مدينة فرانكفورت عام 2030". كانت النتيجة مئات من الصور ذات الألوان الباهرة والفرحة والنماذج المليئة بالحياة وعدد قليل من السيارات. إذا آلت الأمور إلى ما يتمناه الأولاد، فلا داعي للقلق على مستقبل المدن! * صحافي في جريدة"فرانكفورت روندشو"الألمانية، والنص من مساهماته التي تنشرها"الحياة"، في إطار برنامج"كلوز أب"للتبادل الصحافي، بالاتفاق مع المعهد الثقافي الألماني غوته. وتشارك في البرنامج صحف ألمانية وأخرى من أفريقيا والشرق الأوسط، على مدى أسابيع، لتغطية شؤون سياسية وثقافية واجتماعية. www.goethe.de/closeup