تستطيع مدينة فرانكفورت تعلم الكثير من بيروت، في ما يخص التعايش بين الثقافات المتنوعة في مجتمع. والتجول في وسط مدينة بيروت يوضح ذلك، فهناك جامع الأمين السني وكاتدرائية مار جرجس المارونية جنباً الى جنب، وعلى مسافة 30 متراً فقط في ساحة النجمة تقع كنيسة مار جورجيوس الأرثوذكسية. وفي استطاعتنا يومياً سماع الآذان ورنين أجراس الكنائس في الوقت نفسه. وهذا ما يشكل بالنسبة الى أوروبي مسيحي حدثاً مميزاً، فيما يعتبر البيروتيون هذا الأمر روتينياً مثل انقطاعات التيار الكهربائي. من غير المعقول تصور هذا التقارب الجغرافي الضيق بين الأديان في فرانكفورت، ففي ربيع هذا العام أدى مشروع بناء جامع إلى نقاش حاد دام أشهراً، مع العلم أنه لن يشيّد في مركز المدينة بل في احدى ضواحيها. وعلى رغم ذلك اشتكى سكان ألمان من التأثير البالغ لهذا الدخيل، وتذرّع بعض المتزمتين بأن الإسلام هو دين عدائي يطمح الى السيطرة على العالم. وأسس هؤلاء الرافضون لجنة شعبية اقتحمت جلسات لجان البرلمان في المدينة وقاموا هناك باحتجاجاتهم. إلا أنه بتصويت واضح من حكومة المدينة أقر مشروع الجامع وأعطيت رخصة بناء له في شهر تموز يوليو نحسم الخلاف مبدئياً. لم تؤخذ بالحسبان عمداً جمعية"حضرت فاطمة"التركية - الباكستانية، المنظمة للمشروع. ماذا سيحصل لو أن نداءات المؤذن سُمعت يومياً، خصوصاً أن المحيط الرافض يكفيه فقط رؤية الجامع كي ينفعل؟ مع العلم أن في فرانكفورت مساجد منذ وجود الهجرة، وحتى الآن لم تكن لتُرى، فالمسلمون كانوا يؤدون صلاتهم في قاعات مستأجرة لا تبدو أنها جوامع. يخطط الجيل الثالث من المهاجرين ومنهم الكثيرون ممن يملكون جواز السفر الألماني لبناء جوامع مرئية ومآذن. بيروت، بالطبع، تسبق فرانكفورت بموضوع حوار الأديان. في العام 1993 أسس ممثلون عن سبع طوائف من أصل ثماني عشرة طائفة"اللجنة الوطنية للحوار الإسلامي - المسيحي". ممثل الطائفة الدرزية في اللجنة عباس س. الحلبي يقول:"لا نستطيع العيش من دون الحوار". المسألة هي في وجوب التعرف الى بعضنا البعض لنضمن السلم في البلد. وقد نشط عمل اللجنة خلال الاعتصام في وسط المدينة والنزاع في شهر أيار مايو الماضي:"دورنا هو دور الوسيط، نحن لا نناقش مواضيع لاهوتية"، يذكر عباس الحلبي. ويقول جون هوفر، الأستاذ في المدرسة الإنجيلية للاهوت في الشرق الأوسط، الكائنة في شارع الحمراء، إن الحوار ضروري لأننا هنا في دولة ضعيفة. وهو واكب المحادثات مع الطوائف الأخرى وكانت"صريحة وصادقة لم يسيطر فيها طرف على آخر". ولاحظ سريعاً جو التسامح المتبادل لحظة مجيئه من مصر إلى لبنان."كان ذلك بمثابة نسمة هواء منعشة". لكن، ليس ممثلو الطوائف فقط هم الذين يقيّمون الحوار،"إنما الوضع السياسي المتوتر ولا يمكن فصله عن الدين، لذلك نحن مجبرون على التكلم مع بعضنا البعض ونركز على نقاط الإلتقاء وليس على نقاط الخلاف". هذا ما قاله الشيخ أسامة شهاب، إمام جامع عثمان السني في رأس النبع. يروي كيف عاش صغيراً مع موارنة وكاثوليك وشيعة جنباً إلى جنب."لم يكن يهمنا ما هو ديننا". الوضع كذلك في الحياة العامة في بيروت، سواء في المطاعم في ساحة النجمة أو في التنزه على الكورنيش البحري، حيث تتسكع النساء المحجبات واللواتي يرتدين اللباس الغربي الحديث، من دون أن تزعج إحداهن الأخرى. وهنا أيضاً ليس كل ما يلمع ذهباً قبة الجامع، خصوصاً لدى بعض الموارنة الذي غضب بسبب الجامع الذي أقدم على بنائه رئيس الحكومة رفيق الحريري الذي اغتيل في عام 2005. هذا المسجد الذي يفوق بعلوه الكاتدرائية المارونية التي يعود عمرها لأواخر القرن الثامن عشر. في السابق كانت هذه الكاتدرائية أعلى دور عبادة في البلد. يقول البعض - ولو من غير علانية - أن بناء الجامع لم يكن ضرورياً بالواقع، كان يكفي الجامع العمري القديم الذي يقع على مرمى حجر. المسيحيون والمسلمون لن يصبحوا في لبنان أصدقاء حميمين، ولكن يجري الإعداد لذلك. نشعر أينما كنا بالإرادة للسلام الدائم بعد مرور عشرين عاماً على انتهاء الحرب الأهلية، وستتضح هذه الإرادة من خلال"حديقة المصالحة"التي ستشيد بين كنيستي مار جرجس التي صممها مهندس بريطاني. ولقد بدأت للتو في مدينة فرانكفورت التحضيرات لتأسيس"مجلس الأديان"الذي ستنتمي إليه الأديان الموجودة في المدينة. ومعارضو الجامع سيقولون كلمتهم عندما يبدأ العمل بالبناء الذي ستبلغ كلفته ثلاثة ملايين يورو. * صحافي في جريدة"فرانكفورت روندشو"الألمانية، والنص من مساهماته التي تنشرها"الحياة"، في إطار برنامج"كلوز أب"للتبادل الصحافي، بالاتفاق مع المعهد الثقافي الألماني غوته. وتشارك في البرنامج صحف ألمانية وأخرى من أفريقيا والشرق الأوسط، على مدى أسابيع، لتغطية شؤون سياسية وثقافية واجتماعية. www.goethe.de/closeup نشر في العدد: 16663 ت.م: 17-11-2008 ص: 29 ط: الرياض